الحكم بعد التجربة
تناقُض الحركة المغزلية
وعليه، ماذا يحدث إذا حاولنا قياسَ الحركة المغزلية لأحد الجسيمين المنفصلين؟ فإذا أخذنا في الاعتبار أن الجسيمين منفصلان فقد نتخيَّل أن كل جسيم يمر بتموجاتٍ عشوائية في مكوِّنات حركته المغزلية، التي تشوِّش أي محاولة لقياس الحركة المغزلية الكلية لأيٍّ من الجسيمين. ولكن إذا أخذناهما معًا، فلا بد أن تكون الحركة المغزلية لكلٍّ منهما متساوية، وعكس بعضهما. وعليه فإن التموُّجات العشوائية للحركة المغزلية لأيهما لا بد أن تتوازن وتتساوى وتصبح عكس التموُّجات «العشوائية» في مكونات الحركة المغزلية للجسيم الآخر البعيد جدًّا. وكما هو مذكور في دفوع أينشتاين وبودولسكي وروزين الأصلية فإن الجسيمات ترتبط بعضها ببعض بواسطة الفعل عن بُعد. وقد اعتبر أينشتاين هذه «اللامحلية الشبحية» هراء، مما يعني وجود خلل في نظريةِ الكَمِّ. وقد استعرض جون بل كيف أن التجارب يمكن إعدادها لقياس هذه اللامحلية الشبحية وإثبات أن نظريةَ الكَمِّ صحيحة.
لغز الاستقطاب
تضمَّنت معظمُ التجارب التي أُجريت حتى هذه اللحظةِ لعمل هذا الاختبار استقطابَ الفوتونات بدلًا من الحركة المغزلية للجسيمات المادية، لكن المبدأ هو نفسه. فالاستقطاب خاصيةٌ تحدِّد الاتجاه في الفراغ المرتبط بفوتون أو بشعاع من الفوتونات تمامًا كما أن الحركة المغزلية تحدِّد الاتجاه في الفراغ المرتبط بالجسيمات المادية. فنظارةُ الشمس البولارويد تعمل عن طريق حجْب الفوتونات التي ليس لها استقطاب معيَّن جاعلةً المنظرَ أمام مرتدي النظارة أكثرَ إظلامًا. تصوَّر أن نظارة الشمس مصنوعةٌ من مجموعة من الشرائح مثل الستائر المعدنية، وأن الفوتونات تحمل رماحًا طويلة. كل الفوتونات التي تمسك بالرماح مائلة بعض الشيء عبر صدورها تستطيع أن تمرق خلال الشرائح وتشاهدها بعينيك، وكل الفوتونات التي تحمل الرماحَ متجهة إلى أعلى لن تستطيع العبور خلال الشقوق الضيقة وستُحجب. ويحتوي الضوء العادي على كل أنواع الاستقطاب؛ الفوتونات برماحها الممسوكة بزوايا مختلفة. وهناك أيضًا نوعٌ من الاستقطاب يسمَّى الاستقطابَ الدائري؛ حيث يتغيَّر اتجاه الاستقطاب أثناء تقدُّم الفوتون، وكما أنني أحاول مزْج تماثلاتي، فلنتصوَّر الفتاةَ التي تسير في مقدمة العرض وهي تحرِّك عصاها في حركةٍ دائرية. ويأتي هذا بطريقتين مختلفتين؛ واحدة تجاه اليمين والأخرى تجاه اليسار. ويمكن استخدام ذلك أيضًا في اختباراتِ دقةِ النظريةِ الكَمِّية للعالم. فالضوء المُستقطَب في أحد المستويات الذي به كل الفوتونات تحمل رماحها بالزاويةِ نفسِها يمكن أن ينتج عن طريق الانعكاس في ظل الظروف الصحيحة، أو بإمرار الضوء خلال مادةٍ مثل عدسة بولارويد التي تسمح فقط بمرور استقطابٍ معيَّن. ويُظْهر الضوء المستقطَب في أحد المستويات مرةً أخرى قواعدَ عدمِ اليقينِ الكَمِّي أثناء عملها.
إن استقطاب الفوتون في اتجاهٍ أو آخر هي خاصية «نعم/لا» مثل الحركة المغزلية للجسيم على المستوى الكَمِّي. إما أنه يُستقطَب في اتجاهٍ معيَّن — ربما رأسيًّا — أو لا. فالفوتونات التي تمر خلال شاشة معدنية ستُحجَب حتمًا بشاشة أخرى موضوعة بزاوية قائمة. فإذا كان المُستقطِب الأول مثل شاشةٍ معدنية بشرائح أفقية، فالشاشة الثانية ستكون مثل ألواح سور مرصوصة رأسيًّا. والشيء المؤكَّد بما فيه الكفاية أنه عندما يكون هناك قطعتان من المادة المُستقطِبة «متعامدتين» بهذا الشكل فلن يمرَّ أيُّ ضوء. لكن ماذا لو افترضنا أن لوح البولارويد الثاني تُصنع «شرائحه» بزاوية ٤٥ درجة مع شرائح المُستقطِب الأول؟ فالفوتونات التي تصل إلى المُستقطِب الثاني تمثِّل كلها زاويةً قياسها ٤٥ درجة مع المستوى، وبناء على الصورة الكلاسيكية فالفوتونات لا تمر. أما الصورةُ الكَمِّية فهي مختلفة. ومن هذا المنطلق يملك كل فوتون فرصة ٥٠٪ للعبور خلال المستقطِب غير المتوازي مع الأول، وبالفعل تمر نصف الفوتونات. والآن يأتي الأمر الغريب حقًّا. فالفوتونات التي استطاعت العبور صارت بالفعل ملتوية. وقد جرى استقطابها بزاوية ٤٥ درجة بالنسبة إلى المستقطِب الأصلي، وعليه فماذا يحدث إذا قابلت الآن هذه الفوتونات مستقطِبًا آخر يصنع زاويةً قائمة مع المُستقطِب الأول؟ وحيث إن الزاوية القائمة ٩٠ درجة، فإن الفوتونات لا بد أن تكون بزاوية ٤٥ درجة مع هذا المُستقطِب أيضًا. وتمر نصف الفوتونات كما حدث في السابق.
وعندما يوجد استقطابان متعامدان فلن يمر أيُّ ضوء. لكن إذا وضعت مستقطِبًا ثالثًا بين الاثنين المتعامدين بحيث يصنع زاوية ٤٥ درجة مع كلٍّ منهما، فإن ربع الضوء الذي يمر خلال المستقطِب الأول يمر كذلك خلال الاثنين الآخرين. ويبدو الأمر وكأننا وضعنا سياجين يمنعان دخول الحيوانات الضالة بنسبة ١٠٠٪ إلى ممتلكاتنا، ولنكون أكثرَ حرصًا قرَّرنا بناء سياج ثالث بينهما لنطمئن أكثر. ولكن المفاجأة أننا وجدنا أن بعض الحيوانات الضالة التي منعها السياجُ المزدوج لم تجِد أيَّ صعوبة في العبور خلال السياجات الثلاثة كما لو كان لا يوجد أي سياج. وبتغيير التجربة فإننا نغيِّر من طبيعةِ الواقعِ الكَمِّي. وعندما نستخدم مستقطِباتٍ بزوايا مختلِفة فإننا فعليًّا نقيس استقطاب المكوِّنات المختلِفة لمتجه، وكل قياس جديد يبطل شرعيةَ المعلومات التي حصلنا عليها من كل القياسات السابقة.
ويُدخل هذا تنويعةً جديدة على موضوع أينشتاين وبودولسكي وروزين. فنحن نتعامل مع فوتونات بدلًا من جسيماتٍ مادية، ولكن التجربة الأساسية ما زالت كما هي. ولنتخيل الآن عمليةً ذريةً تُنتِج فوتونين يتحرَّكان في اتجاهين مختلفين. هناك عمليات واقعية كثيرة تحدث بهذا الشكل، وفي مثل هذه العمليات هناك دائمًا علاقةٌ بين استقطاب الفوتونين؛ فهما إما أن يُستقطبا في نفسِ الاتجاه أو يُستقطبا بشكلٍ ما في اتجاهٍ معاكس. وللتبسيط سنتصوَّر في تجربتنا الذهنية أن الاستقطابين لا بد أن يكونا هما نفسهما. وبعد فترة طويلة من ترك الفوتونين مكانَ ميلادِهما نقرِّر قياسَ استقطاب أي منهما. فلنا حرية الاختيار، وهذا شيء اختياري كليةً، في أي اتجاه ستُرصُّ موادُّ الاستقطاب، وبمجرد أن نفعل ذلك هناك فرصة معينة في أن يمر الفوتون خلالها. وسنعرف فيما بعد إذا كان استقطاب الفوتون إلى «أعلى» أو إلى «أسفل» لهذا الاتجاه المختار في الفراغ، ونعلم أنه — عبر الفضاء الشاسع — يُستقطَب الفوتونُ الآخرُ بالطريقةِ نفسِها. ولكن كيف يُعرف الفوتونُ الآخرُ؟ وكيف له أن يكيِّف من نفسه لكي يمرَّ بالاختبار بطريقةِ الفوتون الأول نفسِها أو يفشل في المرور كما يفشل الفوتون الأول؟ وبقياسنا لاستقطاب الفوتون الأول فإننا نُحدِث انهيارًا للدالة الموجية ليس فقط لفوتون واحد بل لآخرَ بعيدٍ تمامًا عند اللحظةِ نفسِها.
ومع الأمور الغريبة في هذه التجربة، فإنها ليست أكثرَ غرابة من اللغز الذي رسمه أينشتاين ورفاقه للاستحواذ على انتباه العلماء في ثلاثينيات القرن العشرين. إن تجربةً واقعيةً واحدة تعدل أكثرَ من نصف قرن من النقاش حول معنى تجربة ذهنية، وقد أعطى بل التجريبيين وسيلةً لقياس تأثيرات هذا الفعل الشبحي عن بُعد.
اختبار بل
كرَّس برنارد ديسباجنات، العالِم النظري مثل ديفيد بوم من جامعة باريس-ساوث الكثيرَ من الفكر في تضمينات عائلة تجارب أينشتاين وبودولسكي وروزين. وفي مقاله المذكور سابقًا المنشور في مجلة «ساينتفيك أمريكان»، وفي إسهامه في مجلد «إدراك الفيزيائيين الحسي للطبيعة» الذي حرَّره ميهرا؛ حيث وضع النقاط على الحروف للأساس الذي بنى عليه بل حلَّ اللغز. يقول ديسباجنات إن رؤيتنا اليومية للواقع ترتكز على ثلاثة افتراضات أساسية. الأول أن هناك أشياءَ واقعيةً موجودة سواء شاهدناها أم لا، والثاني أنه يُعد أمرًا شرعيًّا أن نصل إلى نتيجةٍ من مشاهدات قوية أو تجارب، والثالث أنه لا يمكن أن ينتشر أيُّ تأثير أسرع من سرعة الضوء، الذي أطلق عليه بنفسه «المحلية». وكل هذه الافتراضات الثلاثة هي أساس رؤيتنا «الواقعية المحلية» للعالم.
ولأن الحسابات عُبِّر عنها في الأصل بدءًا بالرؤية المحلية الواقعية للعالم، فالمصطلح المتَّفق عليه هو أن عدم المساواة «الأول» يُطلق عليه «عدم مساواة بل»، وإذا انتُهِكت عدم مساواة بل هذه فإن الرؤية الواقعية المحلية للعالم خادعة، ولكن نجحت نظريةُ الكَمِّ مرة أخرى عند خوض اختبار آخر.
البرهان
من المفترض أنه من الممكن استخدام هذا الاختبار لقياس الحركة المغزلية للجسيمات بكفاءة متساوية، وهي عادة صعبة جدًّا في إجرائها أو أن تستخدم لقياس استقطاب الفوتونات التي هي أسهل في إجرائها مع أنها ما زالت صعبة. ولأن كتلة سكون الفوتونات هي صفر، وتتحرك بسرعة الضوء ولا سبيل لها لتمييز الزمن، فإن بعض الفيزيائيين لا يرتاحون لإجراء تجارب تتضمَّن الفوتونات. وليس واضحًا في الواقع ما هو مفهوم المحلية للفوتون. ومع أن معظم اختبارات عدم مساواة بل، التي أجريت حتى الآن تتضمَّن قياسات استقطاب الفوتونات، فإنه من المهم للغاية أن الاختبار الوحيد الذي أُجري حتى تلك اللحظة قد استُخدم فيه بالفعل قياسات الحركة المغزلية لبروتون، وهو يعطي نتائج تنتهك عدم مساواة بل؛ ولذا فهي تدعم الرؤيةَ الكَمِّية للعالم.
لم يكن هذا أولَ اختبار لعدم مساواة بل، وإنما قدَّم فريق من مركز ساكلي للأبحاث النووية بفرنسا تقريرًا سنة ١٩٧٦ حول ذلك. وتتبع التجربة بشكل كبير التجربةَ الذهنية الأصلية، وتتضمَّن قذفَ بروتونات ذات طاقة منخفضة على هدفٍ يحتوي عددًا كبيرًا من ذرات الهيدروجين. وعندما تصدم الأنوية نواة ذرة هيدروجين — الذي هو بروتون آخر — يتداخل الجسيمان من خلال الحالة الانفرادية، ويمكن قياس مكوِّنات حركتهما المغزلية. ولكن صعوبة القيام بتلك القياسات هائلة. ويسجِّل الكشاف معظم الفوتونات فقط، وخلافًا للعالم المثالي في التجربة الذهنية، حتى عندما تجري القياسات فليس من الممكن دائمًا تسجيل مكونات الحركة المغزلية دون لبْس. إلا أن نتائج التجربة الفرنسية تبيِّن أن الرؤى الواقعية المحلية للعالم خاطئة.
قام التجريبيون في منتصف سبعينيات القرن العشرين بأولى القياسات مستخدمين تنويعةً أخرى على هذا الموضوع. كانت الفوتونات الناتجة في هذه التجارب هي أشعة جاما نتيجة تلاشي بوزيترون وإلكترون. ومرة ثانية لا بد لاستقطاب الفوتونين أن يكونا مرتبطين، ونجد من جديد أنه إذا حاولت قياس تلك الاستقطابات فإن النتيجة التي تصل إليها هي تناقض عدم مساواة بل.
وعليه فإن خمسة من الاختبارات السبعة الأولى لعدم مساواة بل كانت في مصلحة ميكانيكا الكَمِّ. وقد ركَّز ديسباجنات في مقاله بمجلة «ساينتفيك أمريكان» على أن هذا دليلٌ أقوى في مصلحة نظريةِ الكَمِّ وليس كما يبدو لأول وهلة. ولطبيعة هذه الاختبارات والصعوبات المصاحبة لإجرائها فإن «وجود جوانب خلل كثيرة منهجية في تصميم أي تجربة يمكن أن يدمِّر البرهان على الارتباط الواقعي … ومن جهة أخرى، فإنه من الصعوبة أن تتخيل أن خطأ تجريبيًّا يمكن أن يسبِّب ترابطًا خادعًا في خمسة اختبارات أجريت منفصلة. والأكثر من ذلك فإن نتائج هذه الاختبارات لم تنتهك عدم مساواة بل فقط، وإنما أيضًا تناقضها بالضبط كما تنبأت ميكانيكا الكَمِّ.»
ومنذ منتصف سبعينيات القرن العشرين، أُجري المزيد من الاختبارات، التي صُمِّمت لإزالة أي ثغرات باقية في تصميم التجارب. وقد تطلب الأمر أن توضع أجزاءُ الاختبار متباعدةً بعضها عن بعض بما فيه الكفاية حتى إن أي إشارة «بين الكشافات»، التي قد تعطي ترابطًا زائفًا، سيكون عليها أن تنتقل بسرعةٍ أكبرَ من سرعة الضوء، وجرى عمل ذلك وما زال يُنتهك عدم المساواة. أو ربما يحدث الترابط لأن الفوتونات تعرف «حتى أثناء تولُّدها» أيُّ نوع من الأجهزة قد أُعِدَّ لاصطيادها. ويمكن أن يحدث ذلك دون الحاجة إلى إشاراتٍ أسرعَ من الضوء إذا أعددت التجهيزات مقدَّمًا ووجدت دالة موجة عامة تؤثِّر على الفوتون عند مولده. وعليه فإن الاختبار النهائي، حتى تلك اللحظة، لعدم مساواة بل يتضمَّن تغيير بنية التجربة، في حين تكون الفوتونات في مسارها بنفس الطريقة التي أُجريت بها تجربة الشق الطولي المزدوج، حيث يمكن تغييرُها ويكون الفوتون في مساره في تجربة جون ويلر الذهنية. هذه هي التجربة التي أغلق فيها فريق آلان أسبكت من جامعة باريس ساوث آخرَ أعظمِ الثقوب في النظريات الواقعية المحلية سنة ١٩٨٢.
ماذا يعني ذلك؟
ولا يعني هذا أن هناك أيَّ بارقةِ أملٍ في إمكانية القدرة على إرسال رسالة بسرعةٍ تفوق سرعة الضوء. وليس هناك أيُّ أملٍ معقود لنقل المعلومات المفيدة بهذه الطريقة؛ لأنه ليس هناك وسيلةٌ لربط حدثٍ معيَّن، يسبِّب حدثًا آخر، بالحدث الآخر الذي تسبَّبت فيه هذه العملية. إنها سِمةٌ أساسية للتأثير الذي ينطبق فقط على الأحداث التي لها سببٌ مشترك؛ تلاشي زوج بوزيترون/إلكترون، وعودة إلكترون إلى الحالة الأرضية، وانفصال زوج من البروتونات من الحالة الانفرادية. ويمكنك أن تتخيَّل كشافَين وُضعا متباعدَين في الفراغ، وكذلك فوتونات من مصدرٍ مركزي تتطاير في اتجاهِ كلٍّ من الكشافين، وربما تتخيَّل تقنيةً بسيطة معينة تغيِّر استقطاب أحد شعاعي الفوتونات، حتى يلاحظ مراقبٌ بعيدٌ عن الكشاف الثاني تغييرًا في استقطاب الشعاع الآخر. ولكن أي نوع من الإشارة يتغيَّر؟ إن التغيُّر الأصلي في الاستقطاب أو الحركة المغزلية للجسيمات في الشعاع هي نتيجة العمليات العشوائية التي لا تحمل أيَّ معلوماتٍ بذاتها، وكلُّ ما سيراه المشاهد هو نسق عشوائي مختلف عن النسق العشوائي الذي قد يراه من دون المعالجة البارعة للمستقطِب الأول! وحيث إنه لا توجد معلومات في النسق العشوائي، فذلك يكون بلا جدوى. والمعلومات موجودة في الفرق بين النسقين العشوائيين، غير أن النسق الأول لا يوجد أبدًا في العالم الواقعي، ولا توجد أي وسيلة لاستخلاص المعلومات.
لكن لا تُفرِط في الإحباط؛ حيث إن تجربة أسبكت والتجارب السابقة عليها تضع بالتأكيد صورةً مختلفة للعالم عما نعرفه في حياتنا اليومية بالفطرة. وتخبرنا أن الجسيمات التي كانت في وقتٍ ما مرتبطةً بعضها ببعض في تفاعلٍ تظل بطريقةٍ ما أجزاءً من نظام واحد، تتجاوب معًا في تفاعلات أخرى، وفي النهاية فإن كل شيء تقريبًا نراه ونلمسه ونشعر به يتكوَّن من تجمعاتٍ لجسيمات هي بدورها كانت متداخلة مع جسيماتٍ أخرى عبر الزمن في الماضي، وحتى لحظة الانفجار الكبير الذي جاء منه الكون الذي نعرفه. إن الذرات في جسدي تتكوَّن من جسيماتٍ كانت في زمنٍ ما تندفع في تقاربٍ شديد في كرة النار الكونية مع جسيمات أخرى هي الآن جزء من نجمٍ بعيد، أو مع جسيماتٍ قد تكون جزءًا من مخلوقٍ حي آخر موجود على مسافةٍ بعيدة فوق كوكبٍ لم يُكتشف بعد. ومن المؤكد أن الجسيمات التي يتكوَّن منها جسدي كانت في وقتٍ ما تندفع متقاربةً وتتداخل مع الجسيمات التي تكوِّن الآن جسدك. ونحن جميعًا جزء من نظام واحد تمامًا مثل الفوتونين المتطايرين من قلبِ تجربة أسبكت.
ويجادل نظريون مثل ديسباجنات وديفيد بوم بأن علينا أن نتقبل ذلك، حرفيًّا، فكل شيء مرتبط بكل شيء آخر، وأن التعامل الشامل للكون هو وحده الذي ربما قد يفسِّر ظواهرَ مثل الوعي البشري.
وما زال الوقت مبكرًا جدًّا على الفيزيائيين والفلاسفة الذين يميلون نحو مثل هذه الصورة الجديدة للوعي والكون، أن يأتوا بمخطط لشكله المحتمل، والمناقشة التخمينية للعديد من الإمكانيات التي تشدقنا بها قد لا يكون لها محل هنا. ولكنني أستطيع أن أقدِّم مثالًا من خلفيتي يأتي أساسًا من التقاليد الصارمة للفيزياء والفلك. فأحد الألغاز العظيمة في الفيزياء هي خاصية القصور الذاتي ومقاومة الجسم للتغير في الحركة لا للحركة ذاتها. وأي جسم يتحرَّك في فراغٍ يحافظ على حركته في خط مستقيم عند سرعةٍ ثابتةٍ إلى أن تدفعه قوة خارجية، وهذا هو أحد اكتشافات نيوتن العظيمة. إن كمية الدفع المطلوبة لتحريك الجسم تعتمد على كمية المواد التي يحتويها. ولكن كيف للجسم أن «يعرف» أنه يتحرك بسرعة ثابتة في خطوط مستقيمة، وبالنسبة إلى أي سرعة تُقاس سرعته؟ وقد أصبح الفلاسفة على درايةٍ تامة منذ عهد نيوتن بأن المعيار الذي يُقاس على أساسه القصور الذاتي فيما يبدو هو الإطار المرجعي الذي كان يطلق عليه عادة «النجوم الثابتة»، بالرغم من أننا قد نتكلم الآن من منطلق المجرات البعيدة. والحركة المغزلية للأرض في الفراغ أو بندول فوكو مثل تلك التي نراها في العديد من المتاحف العلمية أو رائد فضاء أو الذرة، كل هؤلاء «يعرفون» ما هو متوسط توزيع المادة في الكون.
ولا يعرف أحدٌ لماذا أو كيف تعمل المؤثِّرات، وقد أدَّى ذلك إلى تخميناتٍ خادعة إن لم تكن مفيدة. فإذا كان هناك جسيم واحد في كونٍ فارغ فلن يكون له قصور ذاتي لأنه لا يوجد أي شيء يمكن قياس حركته أو مقاومته للحركة بالنسبة إليه. ولكن إذا وُجِد جسيمان في كونٍ فارغٍ فهل سيكون لهما نفس القصور الذاتي كما لو كانا في كوننا؟ ولو استطعنا بطريقةٍ سحرية أن نزيل نصف المادة من كوننا، فهل سيكون للنصف الباقي القصور الذاتي نفسه أم نصفه؟ (أو ضعفه؟) وما زال هذا اللغز عظيمًا في يومنا هذا مثلما كان منذ ٣٠٠ سنة، ولكن فناء الرؤى الواقعية المحلية للعالم يعطينا مفتاحًا لهذا اللغز. فإذا حافظ كلُّ شيء تفاعل في أيِّ وقتٍ في الانفجار الكبير على ارتباطه مع كل شيء تفاعل معه، فعندئذٍ «سيعرف» كل جسيم في كل نجم ومجرة نستطيع أن نراها بوجود كل جسيم آخر، ويصبح القصورُ الذاتي لغزًا ليس لعلماء الكون وعلماء النسبية أن يتجادلوا فيه، بل أمرًا أساسيًّا في أوساط ميكانيكا الكَمِّ.
هل يبدو ذلك تناقضًا؟ لقد لخَّص ريتشارد فاينمان الوضعَ بإحكامٍ في محاضراته؛ إذ قال إن التناقض اختلافٌ بين الواقعية وشعورك بما يجب أن تكون عليه الواقعية. وهل يبدو ذلك سفسطة مثل الجدل حول عدد الزوايا التي يمكن أن ترقص على رأس دبوس؟ وبالفعل، مسبقًا سنة ١٩٨٣، وبعد بضعة أسابيع من نشر نتائج فريق أسبكت أعلن علماء من جامعة ساسكس بإنجلترا نتائج تلك التجارب، التي لم تقدِّم تأكيدًا مستقلًّا لارتباط الأشياء على المستوى الكَمِّي فقط، بل قدَّمت مدخلًا للتطبيقات العملية متضمنة جيلًا جديدًا من الحواسيب المتفوقة على تقنية الحالة الجامدة كما كان راديو الترانزستور نفسه متفوقًا على السيمافور كجهاز للإشارة.
التأكد والتطبيقات
تعامل فريق ساسكس الذي يرأسه تيري كلارك مع معضلةِ قياسِ واقعيةِ الكَمِّ بطريقةٍ عكسية. فبدلًا من محاولة بناء تجارب تعمل على المقياس العادي للجسيمات الكَمِّية — مقياس الذرات أو أقل — حاولوا بناء «جسيمات كمية» تقارب كثيرًا حجمَ أجهزة القياس التقليدية. وتعتمد تقنيتهم على خاصية التوصيل الفائق مستخدمين حلقةً من مادة فائقة التوصيل، لها مقطع حوالي نصف سنتيمتر، وبها انقباض عند نقطة معينة؛ حيث تضيق الحلقة إلى ١٠ أجزاء من المليون من السنتيمتر المربَّع فقط في مساحةِ مقطعها. وهذه «الوصلة الضعيفة» التي ابتكرها براين جوزيفسون الذي طوَّر وصلة جوزيفسون، تجعل حلقةَ المادةِ الفائقةِ التوصيل تعمل كأسطوانةٍ مفتوحةِ الطرفين مثل أنبوب الأرغن أو صفيحة من الزنك نُزع كلا طرفيها. وتصف موجات شرودنجر سلوكَ الإلكتروناتِ الفائقةِ التوصيل وكأنها تعمل مثل موجات الصوت المثبتة في أنبوب الأرغن والتي يمكن «ضبط نغماتها» باستخدامِ مجالٍ كهرومغناطيسي متغيِّر عند ترددات لاسلكية. وفي الواقع فإن موجة الإلكترون حول الحلقة ككل تضاعف جسيمًا كميًّا مفردًا، وباستخدام كشافٍ حساس لترددات لاسلكية، يستطيع الفريق أن يشاهد تأثيرات التحوُّل الكَمِّي لموجة الإلكترون في الحلقة. وعمليًّا فإن الأمر يبدو وكأن لديهم جسيمًا كميًّا مفردًا قطرُه نصف سنتيمتر يعملون به مثل الدلو الصغير المملوء بالهليوم الفائق الميوعة الذي سبق ذكره، بل أكثر دراماتيكية منه.
وتقدِّم التجربة قياساتٍ مباشرة لتحولات كميَّة مفردة، وتعطي أيضًا برهانًا جليًّا آخرَ لعدم المحلية. ونظرًا لأن الإلكترونات في حالة التوصيل الفائق تعمل كبوزون واحد فإن موجة شرودنجر التي تُجري التحوُّل الكَمِّي تنتشر حول كل الحلقة. ويسبِّب كل هذا البوزون الكاذب التحوُّل في الوقت نفسه. ولا يُشاهد جانب واحد من الحلقة وهو يقوم بالتحول أولًا، والجانب الآخر يلحق به فقط عندما يصبح لدى الإشارةِ التي تتحرَّك بسرعة الضوء، الوقتُ الكافي لتتنقَّل حول الحلقة وتؤثِّر على باقي «الجسيم». وبطريقةٍ ما فإن هذه التجربة أقوى من اختبار أسبكت لعدم مساواة بل، ويعتمد هذا الاختبار على مجادلات — مع أنها رياضيًّا ليست مبهمة — فليس من السهل تتبُّعها للشخص العادي غير المتخصص. ومن الأسهل كثيرًا استيعاب مفهوم «الجسيم» المفرد الذي يبلغ قطره نصف سنتيمتر وما زال يسلك سلوكَ جسيمٍ كمِّي مفرد، ويتجاوب هذا كليًّا ولحظيًّا لأي حثٍّ تستقبله من الخارج.
وقد قام بالفعل كلارك ورفاقه بالتطوير المنطقي التالي. كانوا يأمُلون في تصميم «ذرة ماكروية» أكبرَ، ربما على شكل أسطوانةٍ مستقيمة طولها ستة أمتار. فإذا استجاب هذا التصميم للإثارة الخارجية كما هو متوقَّع فلا بد من وجود شرخ مفتوح في الباب الذي يقود إلى اتصالٍ أسرعَ من الضوء. وسيستجيب لحظيًّا الكشاف المثبت على أحد طرفي الأسطوانة لغرضِ قياس الحالة الكَمِّية، للتغير في الحالة الكَمِّية الناتجة عن الإشارة التي حدثت عند الطرف الآخر للأسطوانة، ولا يزال هذا الأمر قليلَ الجدوى بالنسبة إلى الإشارات المألوفة؛ فلن نستطيع بناءَ ذرةٍ ماكروية تصل من هنا إلى القمر مثلًا، وأن نستخدمها للتخلُّص من التباطؤ المقلق عند الاتصال بين مكتشفي القمر والتحكم الأرضي هنا. لكن قد يكون لها استخدام عملي مباشر.
لم ترسِّخ التجارب تفسيرَ كوبنهاجن كليةً فقط، بل يبدو أن هناك تطوراتٍ أخرى ما زالت في الجَعبة أبعدَ مما قدَّمته ميكانيكا الكَمِّ لنا بالنسبة إلى التطورات الأبعد من الابتكارات الكلاسيكية. ولكن ما زال تفسير كوبنهاجن غيرَ كافٍ فكريًّا. فماذا يحدث لكل هذه العوالم الكَمِّية الشبحية التي تنهار مع دوالها الموجية عندما تقوم بقياسِ نظامٍ تحت ذري؟ وكيف لواقعٍ متداخلٍ لا أقل ولا أكثر من الواقع الذي نقيسه نحن في النهاية، ويختفي ببساطة عندما تتم عملية القياس؟ وأفضلُ إجابةٍ هي أن الواقعيات البديلة لا تختفي، وأن قطة شرودنجر في الواقع حيةٌ وميتةٌ في الوقتِ نفسِه، ولكن في عالمين أو أكثرَ مختلفين. إن تفسير كوبنهاجن وتضميناته العملية موجودان كليةً في رؤيةٍ أكثرَ اكتمالًا للواقع، أو بعبارة أخرى، تفسير العوالم المتعدِّدة.
هوامش
Philosophers may care to take up the question of what the results of the Bell experiment really mean if we are using quantum processes in order to set up the experiment. I am happy to stick with Bohr – what we see is what we get; nothing else is real.