عوالم كثيرة
لم أحاول أن أنحاز لجانبٍ معيَّن حتى الآن، بل حاولتُ تقديمَ قصةِ الكَمِّ بكل جوانبها، وأن أدَع القصة تتكلم عن نفسها. وقد حان الوقت الآن كي أقف لأُبدي رأيي. وسأتخلَّى في هذا الفصل الأخير عن أيِّ مظهرٍ لعدم الانحياز، وأُعرض تفسير ميكانيكا الكَمِّ الذي أجد أنه مقنع جدًّا أو مريح. وليست هذه رؤية الأغلبية؛ فمعظم الفيزيائيين الذين يَشغلون أنفسَهم بالتفكير في مثل هذه الأمور سعداءُ بتفسير كوبنهاجن عن انهيار الدوال الموجية. إلا أن الأقلية لها رؤيةٌ جديرة بالاحترام، وتتميَّز بأنها تشتمل على تفسير كوبنهاجن. والسمة غير المريحة التي منعت هذا التفسير المحسَّن من اكتساح عالَم الفيزيائيين هو أنها تعني وجودَ عوالمَ عديدةٍ — يحتمل وجود عددٍ لا نهائي — بجانب واقعنا عبر الزمن، موازية لعالمنا، لكنها محجوبة عنه للأبد.
مَن يرصد الراصِد؟
نشأت فكرةُ تفسير العوالم المتعددة في أبحاث هيو إيفرت طالب الدراسات العليا بجامعة برنستون في خمسينيات القرن العشرين. كان متحيرًا حول الطريقة الغريبة التي تنهار بها الدوال الموجية في تفسير كوبنهاجن بطريقةٍ سحرية عند المشاهدة، وقد ناقش البدائل مع العديد من الأشخاص، ومن بينهم جون ويلر الذي شجَّع إيفرت ليُطوِّر مسلكه البديل كرسالة للدكتوراه. وتبدأ هذه الرؤية البديلة بسؤالٍ بسيط جدًّا هو أن الذروة المنطقية للتعبير عن الانهيارات المتتابعة للدالة الموجية تعني أنه عندما أُجري التجربةَ في حجرةٍ مغلقة ثم أخرج وأخبرك بالنتائج، التي ترسلها أنت إلى صديق، الذي بدوره يبلغها لشخص آخر، وهكذا. وفي كل خطوة تصبح الدالة الموجية أكثرَ تعقيدًا وتحتضن المزيدَ من «العالم الواقعي». ولكن تبقى البدائل عند كل مرحلةٍ متساويةً، وتتداخل الواقعيات حتى تصل أخبار النتائج النهائية للتجربة. ولنا أن نتخيَّل أن الأخبار ستنتشر عبر كل العالم بهذه الوسيلة حتى يصل العالم ككل إلى حالة من الدوال الموجية المتداخلة، وستشاهد الواقعيات البديلة التي تنهار لتصير عالمًا واحدًا عند المشاهدة. ولكن من يشاهد الكون؟
وحسب التعريف، فإن الكون قائم بذاته مستقلٌّ بنفسه، إذ يحتوي على كل شيء، ولذلك لا يوجد مراقبٌ خارجي يراقب وجود الكون، ومن ثم تنهار شبكته المعقَّدة من الواقعيات البديلة المتفاعلة إلى دالةٍ موجيةٍ مفردة. وفكرة ويلر عن الوعي — أو أنفسنا — كمراقبٍ مهمٍّ يعمل خلال سببيةٍ عكسيةٍ إلى الوراء حتى الانفجار الكبير، هي وسيلةٌ للخروج من هذه المعضلة، ولكنها تتضمَّن جدلًا مُحيرًا مثل الحيرة التي يحاول إزالتها. وإنني أفضِّل فكرةَ الأنانة، أي إنه يوجد مراقبٌ واحد للكون هو أنا، وأن مشاهداتي هي كل العوامل المهمة التي تبلور الواقعية من شبكة احتمالاتِ الكَمِّ، لكن الأنانة المفرطة فلسفةٌ غيرُ مقنعة تمامًا لشخصٍ كل مساهمته في العالَم أن يكتب كتبًا ليقرأها أناسٌ آخرون. وتفسير إيفرت عن العوالم المتعددة هو أمرٌ آخر أكثرُ إقناعًا واحتمالٌ أكثرُ اكتمالًا.
وينحصر تفسيرُ إيفرت في أن الدوال الموجية المتداخلة لكل الكون — الواقعيات البديلة التي تتفاعل لتنتج تداخلًا يمكن قياسُه عند المستوى الكَمِّي — لا تنهار. وكل الدوال متساوية في واقعيتها، وتتواجد في أجزائها من «الفضاء الفائق» (والزمان الفائق). والذي يحدث عند إجراء قياساتٍ عند المستوى الكَمِّي هو أننا نضطر عن طريق المشاهدة أن نختار أحدَ هذه البدائل، والذي يصبح جزءًا مما نراه في عالمنا «الواقعي»، وتقطع المشاهدة الروابطَ التي تربط الواقعيات البديلة بعضها ببعض، وتسمح لها بأن يذهب كلٌّ منها في طريقٍ منفصلٍ عبر الفضاء الفائق، وتحتوي كل واقعيةٍ بديلة على مُشاهِدها الخاص بها الذي حصل على المشاهدةِ نفسِها، إلا أنه توصَّل إلى «إجابة» كميَّة مختلِفة ويتصوَّر أنه «تسبَّب في انهيار الدالة الموجية» إلى بديلٍ كميٍّ وحيد.
قطة شرودنجر
من الصعب أن نستوعبَ ما الذي يعنيه هذا عندما نتكلم عن انهيار الدالة الموجية لكل الكون، لكن الأمر قد يصبح أسهلَ كثيرًا عندما نرى مدخل إيفرت كخطوة للأمام عند النظر إلى مثالٍ أبسط. إنَّ بحْثَنا عن القطة الحقيقية المختبئة داخل صندوق شرودنجر المتناقض قد انتهى أخيرًا؛ حيث يعطي هذا الصندوقُ المثالَ الذي أحتاج إليه لأستعرض قوةَ تفسير العوالم المتعددة لميكانيكا الكَمِّ، والمفاجأة أن هذا المسلكَ سيؤدي في النهاية ليس إلى قطةٍ واحدةٍ حقيقية، بل إلى اثنتين.
تدُلنا معادلةُ ميكانيكا الكَمِّ على أن داخلَ صندوق تجربة شرودنجر الذهنية الشهيرة صورتين لدالة موجة «قطة حية» و«قطة ميتة»، والاثنتان حقيقيتان على قدم المساواة. وينظر تفسير كوبنهاجن المتَّفق عليه إلى هذه الاحتمالات من منظورٍ مختلِف، ويقول إن الدالتَين في الواقع غير حقيقيتَين بنفس المقدار، وإن إحداهما فقط ستتبلور كواقعٍ عندما ننظر داخل الصندوق. ويتقبَّل تفسيرُ إيفرت معادلاتِ الكَمِّ كليةً بكامل وجاهتها، ويقول إن كلًّا من القطتَين حقيقةٌ واقعة. فهناك قطةٌ حيةٌ وقطةٌ ميتة، ولكنهما توجدان في عالمَين مختلفَين. وليست المسألةُ أن الذرة المشعة داخل الصندوق تتفكَّك أو لا تتفكَّك، بل يحدث كلٌّ من الحالتَين. وفي مواجهةِ قرارٍ، ينشطر العالَم ككل — الكون — على نفسه في صورتَين متطابقتَين من جميع الأوجه، عدا أنه في إحدى الصورتَين تتفكَّك الذرة وتموت القطة، وفي الصورة الأخرى لا تتفكَّك الذرة وتبقى القطة حية. ويبدو هذا كخيالٍ علمي، لكنه يصل إلى ما هو أعمق من أي خيالٍ علمي، كما أنه مبنيٌّ على معادلاتٍ رياضية لا تقبل الشك ومتماسكة ولها تتابعٌ منطقي في أن نأخذ ميكانيكا الكَمِّ حرفيًّا.
ما بعد الخيال العلمي
إن أهميةَ أعمال إيفرت التي نُشرت سنة ١٩٥٧، تتمثَّل في أنه أخذ هذه الفكرةَ التي تبدو خياليةً في مظهرها، ووضعها على أسسٍ رياضية لا تقبل الشك، مستخدمًا قواعدَ نظريةِ الكَمِّ. فأن نخمِّن شيئًا عن طبيعة الكون هذا أمرٌ، لكن أن نطوِّر هذه التكهنات ونضعها في نظريةٍ للواقعيةِ كاملة ومتسقة مع نفسها فهذا أمرٌ آخر. ولم يكن إيفرت في الواقع هو أول شخص يتكهَّن بهذا الشكل، مع ما قد يبدو أنه توصَّل لأفكاره مستقلًّا تمامًا عن أي اقتراحات عن الواقعيات المتعددة والعوالم المتوازية، ومعظم التكهنات — التي زادت زيادةً كبيرة في الحقيقة منذ سنة ١٩٥٧ — قد ظهرت على صفحات الخيال العلمي. وقد استطعت أن أقتفي أثرَ أول نسخةٍ من ذلك نُشرت لأول مرة في صورةِ سلسلةٍ في مجلةٍ سنة ١٩٣٨، وهي «فرقة الزمان» لجاك ويليامسون.
ومعظم قصص الخيال العلمي موضوعةٌ في إطار الواقعيات «المتوازية» مثل انتصار الجنوب في الحرب الأهلية الأمريكية، ونجاح الأرمادا الإسبانية في إلحاق الهزيمة بإنجلترا، وهكذا. وبعض هذه القصص يصف مغامراتِ بطلٍ ما يسافر عبر الزمان، من واقعٍ بديل إلى واقعٍ آخر، وقليل من هذه القصص يصف، بلغةٍ عبثية، كيف ينفصل عالَمٌ بديل عن عالمنا. وتتناول قصة ويليامسون الأصلية عالمَين بديلَين لا يصل أيهما إلى واقعيةٍ محسوسة إلا عند وقوع حدثٍ معيَّن من زمنٍ حرج في الماضي؛ حيث يفترق طريقا العالَمَين (وهناك أيضًا سَفر «توافقي» عبْر الزمان في هذه القصة، كما أن الحدث دائري مثل الجدل). وتردِّد الفكرة انهيارَ الدالة الموجية كما وُصِفت في تفسير كوبنهاجن المتعارف عليه، وتتضح ألفة ويليامسون مع الأفكار الجديدة في ثلاثينيات القرن العشرين من المقطع الذي يشرح فيه أحدُ الأشخاص ماذا يحدث:
بإحلال موجات الاحتمالية بدلًا من الجسيمات المتماسكة أصبحت خطوطُ العالم للأشياء غير ثابتة، ولم تَعُد ممراته البسيطة موجودة. ولدى الجيوديسيين توالدٌ لا نهائي من الفروع المحتملة حسب اللاتحديدية تحت الذرية.
وعالَم ويليامسون هو عالَم للواقعيات الشبحية حيث يجري الحدث البطولي بينما ينهار أحد هذه العوالم، ويختفي لدى اتخاذ القرار الحاكم، ويُخْتار شبحٌ آخر ليصبح واقعًا محسوسًا. وعالَم إيفرت واحدٌ من الواقعيات المحسوسة العديدة، الذي تتساوى فيه كل العوالم بنفس الدرجة؛ حيث أيضًا، وللأسف، لا يستطيع حتى الأبطالُ الانتقالَ من واقعٍ إلى الواقع المجاور له. لكن نسخة إيفرت عن العالم واقعٌ علمي وليست خيالًا علميًّا.
دعونا نَعُد مرةً ثانية للتجربة الأساسية في فيزياء الكَمِّ، تجربة الثقبين. وحتى في إطارِ تفسير كوبنهاجن المتَّفق عليه، ومع أن قليلين من طهاةِ الكَمِّ على علمٍ بذلك، فإن نسقَ التداخل الذي يظهر على شاشة تلك التجربة عندما يمر جسيمٌ واحد فقط عبر الجهاز قد شُرِحَ على أن الأمر تداخلٌ بين واقعَين تبادليَّين يمرُّ في أحدهما الجسيم خلال الثقب أ وفي الآخر يمرُّ خلال الثقب ب. وعندما ننظر إلى الثقبَين نرى جسيمًا واحدًا يمر خلال أحدهما وليس هناك تداخل. ولكن كيف للجسيم أن يختار من أي الثقبَين يمر؟ بالنسبة لتفسير كوبنهاجن فإن الاختيار عشوائي، وهو ما يتفق مع احتمالات الكَمِّ، ويلعب الرب النردَ مع الكون في ظنه. وبتفسير العوالم المتعددة فإن الجسيم لا يختار. وبالمواجهة فالاختيار على المستوى الكَمِّي ليس للجسيمِ نفسِه فقط، بل ينشطر كل الكون إلى نسختَين. يمر الجسيم في أحد الكونين خلال الثقب أ ويمر في الآخر خلال الثقب ب. وفي كل كون هناك المُشاهد الذي يرى الجسيم يمر خلال ثقبٍ واحد فقط. ويصبح العالَمان بعد ذلك وللأبد منفصلَين تمامًا ولا يتداخلان، وهذا هو السبب في عدمِ وجودِ تداخلٍ على شاشة التجربة.
اضرب هذه الصورةَ في عددِ الأحداثِ الكَمِّية التي تحدث طوال الوقت في كل منطقةٍ من الكون، وسيعطيك هذا فكرةً عن عدم تقبُّل الفيزيائيين التقليديين لهذه الفكرة. ولكن — وكما فعل إيفرت منذ ٢٥ عامًا — فإن ذلك يُعد أمرًا منطقيًّا، ووصفًا متماسكًا بذاته للواقعِ الكَمِّي لا يتعارض مع أي دليل من التجربة أو المشاهدة.
وليس هناك سببٌ واضح لماذا استغرقت الفكرةُ كلَّ هذا الوقت ليتم الاقتناع بها، ولو حتى من القلة، ثم لاقت نجاحًا في سبعينيات القرن العشرين. وبعيدًا عن الرياضيات المعقَّدة، شرح إيفرت بعنايةٍ في مجلة «مراجعات الفيزياء الحديثة» أن الجدلَ حول انشطار الكون إلى عوالمَ عديدة لا يمكن أن يكون واقعيًّا؛ لأنه لا خبرة لنا بذلك، وأن الأمر كالإناء المثقوب لا يحتفظ بالماء داخله. وتخضع كل العناصر المنفصلة كحالات التطابق لمعادلة الموجة بعدم اكتراثٍ تام لحقيقةِ وجودِ العناصرِ الأخرى، والغياب الكلي لتأثير أي فرع على الآخر، الأمر الذي يعني أن المُشاهِد لا يمكن أن يكون أبدًا على علمٍ بعملية الانشطار. وجدلٌ بهذا الشكل يماثل الجدلَ بأن الأرض لا يمكن أن تدور في مدارٍ حول الشمس؛ لأنه إذا حدث ذلك يجب أن نشعر به. ويقول إيفرت: «في كلتا الحالتين، النظريةُ نفسُها تتنبأ بأن خبرتنا ستكون في الحقيقة على ما هي عليه.»
ماذا بعد أينشتاين؟
في حالة تفسير العوالم المتعددة نرى أن النظرية بسيطةٌ في الفهم، وسببيةٌ وتعطي تنبؤاتٍ تتماشى مع الخبرة. وقد حاول ويلر جاهدًا أن يجعل الناس يلاحظون هذه الفكرة:
وقد ختم ويلر مقالَه بأن قال: «بعيدًا عن مفهوم إيفرت، ليس هناك نظامُ أفكارٍ متناسقٌ مع نفسه متاحٌ ليشرح ماذا نعني بأن نُكمِّم نظامًا مغلقًا مثل الكون مع النسبية العامة.» كلماتٌ قوية بالفعل، لكن تفسير إيفرت يعاني عيبًا رئيسيًّا محاولًا إخراج تفسير كوبنهاجن من مكانته التي رسخت في الفيزياء. فصورة العوالم المتعددة في ميكانيكا الكَمِّ تأتي بالتنبؤاتِ نفسِها التي حصلنا عليها من رؤيةِ كوبنهاجن عند تقييم الناتج المحتمل لأي تجربة أو مشاهدة. ويحتوي هذا الأمر على نقطةِ قوة ونقطة ضعف أيضًا. وحيث إن تفسير كوبنهاجن لم يُتَطلب قط في الأمور العملية فإن أيَّ تفسيرٍ جديد لا بد وأن يعطي «الإجابات» نفسَها مثل تفسير كوبنهاجن أينما أمكن اختباره، وعليه فإن تفسير إيفرت قد اجتاز الاختبار الأول. إلا أنه يتقدَّم على رؤية كوبنهاجن فقط عندما تُزال سمات التناقض الظاهرية من تجربة الشق الطولي المزدوج، أو في اختبارات من النوع الذي ابتكره أينشتاين وبودولسكي وروزين. ومن وجهةِ نظرِ كل طهاة الكَمِّ فإنه من الصعوبة أن نرى الفرْق بين التفسيرين، ومن الطبيعي الميل للارتباط بالمألوف. وعلى كلٍّ، بالنسبة إلى أي إنسان درسَ التجارب الذهنية لأينشتاين وبودولسكي وروزين، ودرس الآن الاختبارات المختلفة لعدم مساواة بل، فإن الانحياز نحو تفسير إيفرت يصبح أكبر كثيرًا. وفي تفسير إيفرت، ليس باختيارنا لأيٍّ من مكونات الحركة المغزلية أن نقيس قوَى مكوِّن الحركةِ المغزلية لجسيمٍ آخرَ بعيدٍ عبر الكون، ليتخذ بطريقةٍ سحرية حالةً تكاملية، لكن بالأحرى نختار أي مكون من مكونات الحركة المغزلية نقيسه، وبذلك فإننا نختار أي فروع الواقعية نعيش فيه. وفي هذا الفرع من الفضاء الفائق تكون الحركة المغزلية للجسيم الآخر تكاملية دائمًا للجسيم الذي نقيسه، إن الاختيار هو الذي يقرِّر في أي العوالم الكَمِّية نقيس تجاربنا، ومن ثم في أي عالم نقطن، ولا علاقة للأمر بالصدفة. وحيث إن كل الاحتمالات الناتجة من التجربة تحدث فعلًا، وحيث إن كل ناتجٍ محتملٍ يُشاهده مجموعة من مشاهديه، فليس من المدهش أن ما نشاهده هو إحدى النتائج المحتملة للتجربة.
نظرة ثانية
أنهى دي ويت مقاله بطريقةٍ درامية مثلما فعل ويلر من قبلُ:
إن الرؤيةَ التي تناولها إيفرت وويلر وجراهام مثيرةٌ للإعجاب حقًّا. إلا أنها رؤيةٌ سببية تمامًا، كان من الممكن حتى لأينشتاين أن يتقبَّلها … وهي تزعم أنها الأفضل لتصبح النهاية الطبيعية لبرنامجِ تفسيرٍ بدأ بهايزنبرج سنة ١٩٢٥.
ما بعد إيفرت
وفي الواقع، يبدو هذا التعبير صائبًا، وهو مستعارٌ من الخيال العلمي، لكنه ليس مناسبًا تمامًا. فالصورة الطبيعية للواقعيات البديلة ما هي إلا فروعٌ تبادلية تفرَّعت من ساقٍ رئيسية وينطلق بعضها بجانب بعض عبر الفضاء الفائق مثل خطوط السكك الحديدية المعقَّدة عند نقطة ارتكاز، ومثل طريقٍ فائقِ السرعة، به ملايين الخطوط المتوازية، يتصوَّر كتَّاب الخيال العلمي أن كل العوالم تتحرَّك جنبًا إلى جنب عبر الزمان، وأقرب هذه العوالم يماثل تقريبًا عالمنا، ثم يصبح الفارق بيننا أكثرَ وضوحًا وأكثرَ تباينًا كلما تحركنا أبعدَ «بالطرق الجانبية في الزمان». هذه هي الصورة التي قد تقودنا بشكلٍ طبيعي إلى افتراضِ احتمالِ تغيير سيرنا على الطريق الفائق السرعة من حارةٍ إلى أخرى، منزلقين إلى العالَم المجاور. ولسوء الحظ فإن الرياضيات ليست تمامًا بمثل هذه الصورة الواضحة.
لم يجد الرياضيون صعوبةً في التعامل مع أبعادٍ أكثرَ من الأبعاد الفضائية الثلاثة المألوفة، وهي في غاية الأهمية في حياتنا اليومية. وعالمنا الكلي — الذي هو أحد فروع واقعية العوالم المتعددة لإيفرت — قد وُصِفَ رياضيًّا بأربعة أبعاد؛ ثلاثة للفضاء، وواحد للزمان، كلها تصنع زوايا قائمة بعضها مع بعض، والرياضيات المطلوبة لوصفِ أبعادٍ أكثرَ تصنع زوايا قائمة بعضها مع بعض ومع أبعادنا الأربعة هو أمرٌ روتيني يجري التلاعب به. وهذا هو بالضبط موضع الواقعيات البديلة فعلًا، التي ليست متوازيةً مع عالمنا لكنها تصنع زوايا قائمة معه، عوالم متعامدة ومتفرعة «بطرقٍ جانبية» خلال الفضاء الفائق. ويصعب أن نتخيَّل هذه الصورة، لكن ذلك يجعل الأمر أكثرَ سهولة حتى نرى لماذا يستحيل انزلاقه بطرقٍ جانبية إلى واقعٍ بديل. إذا انفصلتَ بزاويةٍ قائمة بالنسبة لعالمنا — بطرقٍ جانبية — فإنك بذلك تكون قد كوَّنت عالمًا جديدًا خاصًّا بك. في الواقع، استنادًا إلى نظريةِ العوالم المتعددة فإن هذا ما يحدث عندما يواجه الكون باختيارٍ كمِّي. والطريقة الوحيدة التي يمكن بها أن تحصل على واحدةٍ من الواقعيات البديلة التي تكوَّنت بانشطارٍ للكون مثل هذا نتيجةَ تجربةِ القطة في الصندوق أو تجربة الثقبَين، يمكن أن تحدث بأن ترجع في الزمان في واقعنا الخاص بنا ذي الأبعاد الأربعة إلى زمن التجربة، وحينئذٍ نذهب إلى الأمام في الزمان عبر الفرع البديل الذي يصنع زوايا قائمة بالنسبة لعالمنا ذي الأبعاد الأربعة.
وربما يكون ذلك مستحيلًا. إن الحكمة التقليدية تفيد بأن السَّفر الحقيقي عبر الزمان لا بد أن يكون مستحيلًا لما به من تناقضٍ كتلك الحالة التي ترجع فيها في الزمان وتَقتل جَدك قبل أن تحمل جَدتك بوالدك. ومن ناحيةٍ أخرى فإن الجسيمات على المستوى الكَمِّي تبدو مشغولةً طول «الوقت» في السَّفر عبر الزمان، كما أن فرانك تيبلر قد بيَّن أن معادلات النسبية العامة تسمح بالسفر عبر الزمان. ومن الممكن أن نولِّد نوعًا من السفر الأصيل للأمام أو للخلف في الزمان لا يسمح بالتناقض، ومثل هذا الشكل من السفر عبر الزمان يعتمد على واقعية الأكوان البديلة. وقد اختبر ديفيد جيرولد في كتابٍ مسلٍّ للخيال العلمي هذه الاحتمالات، ويحمل الكتاب اسم «الرجل الذي طوى نفسه»، وهو كتاب يستحق القراءة كدليلٍ على ما في واقع العوالم المتعددة من تعقيداتٍ وأشياءَ خفية. والمسألة أنك — استنادًا إلى المثال الكلاسيكي — إذا عُدت للوراء في الزمان لتقتل جَدك، فإنك (معتمدًا على وجهة نظرك) تدخل أو تخلق عالمًا بديلًا تفرَّع بزاويةٍ قائمة مع العالم الذي بدأت فيه. وفي هذا الواقع «الجديد» لم يكن أبوك ولا حتى أنت نفسك قد وُلدتما، لكن ليس هناك تناقض لأنك قد وُلدت بالفعل في الواقع «الأصلي» وتقوم بالرحلة إلى الوراء عبر الزمان وفي فرعٍ بديل. عُد مرةً ثانيةً وأصلح ما أفسدته، وكل ما ستفعله هو أن تعود إلى الفرع الأصلي للواقع أو على الأقل واقعٍ شبيه به.
مكاننا الخاص
وفقًا لتفسيري لنظريةِ العوالم المتعددة، فإن المستقبل لا يتقرَّر من حيث إدراكنا الحسي الواعي للعالم المعني، لكن الماضي محدَّد. وبفعل الملاحظة فقد اخترنا تاريخًا «واقعيًّا» من بين الواقعيات العديدة، فبمجرد أن رأى شخصٌ ما شجرةً في عالمنا، فإنها تظل هناك حتى عندما لا ينظر إليها أحد. وينطبق هذا على كل شيء إلى الوراء حتى الانفجار الكبير. وعند كل وصلة على الطريق السريع للكَمِّ، ربما يكون قد تكوَّنت العديد من الواقعيات الجديدة، ولكن ما وصل إلينا واضحٌ وغير مبهم. وهناك العديد من الطرق التي تصل إلى المستقبل، إلا أن بعض نسخ «منَّا» ستتبع كلَّ واحد منها. وستعتقد كل نسخة منَّا أنها تسلك مسلكًا فريدًا، وسننظر إلى الوراء إلى ماضٍ فريد، لكن من المستحيل أن نعرف المستقبل؛ حيث إن به مساراتٍ عديدة. وربما نستقبل رسائلَ من المستقبل، إما بواسطةِ وسائلَ ميكانيكيةٍ مثل «الهروب عبر الزمن»، أو إذا أردت أن تتصوَّر احتمالَ حدوث ذلك من خلال الأحلام، أو بالإدراك الخارج عن النطاق الحسي. لكن من غير المحتمل جدًّا أن تكون تلك الرسائلُ ذاتَ فائدةٍ كبيرة لنا. وحيث إنه قد توجد أعدادٌ وافرة من عوالم المستقبل، فإن أي رسائل مثل هذه يجب أن تتوقَّع أنها مشوشة ومتضاربة. وإذا تصرفنا بناءً على هذه الرسائل فإن الاحتمال الأكثر أن نحيد بأنفسنا إلى فرعٍ من الواقعية مختلِف عن الذي جاءت منه «الرسائل»، وعليه فإنه من غير الممكن جدًّا أن تستطيع هذه الرسائل «أن تصبح صحيحة». والناس الذين يعتقدون أن نظريةَ الكَمِّ تقدِّم مفتاحًا لتفسير الإدراك الخارج عن النطاق الحسي عمليًّا، والتخاطر، وخلافه، إنما يضلِّلون أنفسَهم.
وصورةُ الكون كما يصوِّرها شكل فاينمان المبسوط التي تتحرَّك فيها «اللحظة الحاضرة» بمعدلٍ ثابت تعدُّ تبسيطًا أكثرَ من اللازم. والصورة الواقعية هي شكل فاينمان المتعدِّد الأبعاد، به كل العوالم المحتملة، وبه «اللحظة الحاضرة» تنتشر عبرهم جميعًا مرتقبةً كلَّ فرع وكلَّ بديل. والسؤال الأعظم الذي تُرِكَ للإجابة عنه في هذا الإطار هو: لماذا يجب أن يكون إدراكنا الحسي عن الواقعِ بالشكل الذي هو عليه؛ ولماذا يجب أن تكون الممرات عبر متاهةِ الكَمِّ التي بدأت منذ الانفجار الكبير وأدَّت إلى كوننا، أن تكون هي المسار الصحيح دون سواها لظهور المخلوقات الذكية في الكون؟
وينصُّ المبدأ الإنساني على أنه ربما توجد عوالمُ محتملة عديدة، وأننا بلا جدال نتاج نوعنا من الكون. ولكن أين العوالم الأخرى؟ وهل هي أشباح مثل العوالم المتفاعلة في تفسير كوبنهاجن؟ وهل تعبِّر عن حلقاتِ حياةٍ مختلفة للعالم ككلٍّ قبل الانفجار الكبير الذي بدأ به الزمان والمكان كما نعرفهما نحن؟ أم هل هي عوالم إيفرت المتعددة، التي توجد كلها بزوايا قائمة مع عالمنا؟ يبدو لي أن هذا أفضلُ تفسيرٍ حتى اليوم، وأنه حلَّ اللغز الأساسي حول لماذا نرى الكون على الشكل الذي يعوِّض بوفرةٍ الحملَ الثقيلَ الذي يحمله تفسيرُ إيفرت. ومعظم الواقعيات الكَمِّية البديلة غير مناسبة للحياة أو هي فارغة. والظروف الصحيحة المناسبة للحياة هي ظروفٌ خاصة، وعليه فإن الكائنات الحية عندما تنظر إلى الوراء في ممرِّ الكَمِّ الذي أنتجها هي نفسَها، فإنها ترى أحداثًا خاصة، وفروعًا في طريقِ الكَمِّ ربما لا تكون الأكثرَ احتمالًا على أساسٍ إحصائي، ولكنها تفضي إلى حياةٍ ذكية. إن تعدُّد عوالمَ مثل عالمنا ولكن بتواريخ مختلفة — التي فيها ما زالت بريطانيا تحكم مستعمرات شمال أمريكا، أو فيها السكان الأصليون لأمريكا يستعمرون أوروبا — وهؤلاء يُكوِّنون معًا ركنًا واحدًا صغيرًا فقط لواقعٍ أكثرَ اتساعًا بكثير. وليس من قبيل الصدفة أنه قد جرى انتقاء الظروف الخاصة المناسبة للحياة من بين العديد من الاحتمالات الكَمِّية، لكنه اختيار. وكل العوالم واقعية بالدرجةِ نفسِها، لكن العوالم المناسبة فقط هي التي تتضمَّن مشاهدين.
إن نجاحَ تجارب فريق أسبكت لاختبار عدم مساواة بل قد أزاح كلَّ احتمالات تفسيرات ميكانيكا الكَمِّ الممكنة، التي وجدت ما عدا اثنين. فإما أن نتقبل تفسير كوبنهاجن، مع واقعياته الشبحية والقطط نصف الميتة، أو نتقبل تفسير إيفرت وعوالمه المتعددة. ومن الطبيعي أن أيًّا من هذين الشيئين اللذين يمثِّلان «أفضل المشتريات» في متجر العلوم، يمكن أن يُتصوَّر أنه غير صحيح، وأن كلا هذين البديلَين على خطأ. وربما ما يزال هناك تفسيرٌ آخر لواقع ميكانيكا الكَمِّ يحُل الألغاز التي يحلُّها تفسير كوبنهاجن وتفسير إيفرت، بما يشمل اختبار بل، ويذهب أبعدَ من فهْمنا الحالي، بنفس الطريقة التي ربما تتجاوز بها نظرية النسبية العامة النسبية الخاصة وتحتضنها. لكن إذا كنت تعتقد أن هذا هو الخيار الأسهل، طريقٌ يسيرٌ للخروج من المأزق، فلتتذكَّر أن أي تفسير «جديد» مثل هذا يجب أن يوضِّح كلَّ شيء قد تعلَّمناه، مثل قفزة بلانك الكبيرة في الظلام، ويجب أن يشرح كل شيء بالمثل أو «أفضل» من التفسيرَين الحاليَّين. وهذا من المؤكَّد أمرٌ صعب للغاية، وليس من المعتاد أن يجلس العلم خاملًا على أملِ أن يأتي شخصٌ ما بإجابةٍ «أفضل» لمشكلاتنا. وفي حالةِ عدمِ وجودِ إجابةٍ أفضلَ، علينا أن نقبل بتضميناتِ أفضلِ الأجوبةِ التي لدينا. وحتى في العَقد الثاني من القرن الحادي والعشرين وبعد مجهودٍ مكثَّفٍ لأكثر من ٨٠ عامًا كُرِّس للغز الواقع الكَمِّي من جانبِ أفضل أدمغة هذا القرن، يتعيَّن أن نتقبَّل أن العلم قادرٌ في الوقت الحالي فقط أن يقدِّم هذين التفسيرَين البديلَين، للطريقةِ التي صُمِّمَ العالمُ بها. ولا يبدو أن أيًّا منهما مستساغ جدًّا عند النظرة الأولى. وبتعبيرٍ بسيط، إما أنه لا يوجد شيءٌ واقعي، أو أن كل شيء واقعي.