الفرصة وعدم اليقين
يُرى اليوم مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج كإحدى السمات المحورية — وربما السمة المحورية الأهم — لنظريةِ الكَمِّ. ولم يستوعب زملاؤه مبدأه على الفور، لكنه استغرق قرابة ١٠ سنوات ليصل إلى هذه المكانة المرموقة. غير أنه منذ ثلاثينيات القرن العشرين ربما يكون هذا المبدأ قد وصل إلى مكانةٍ مرموقةٍ أكثرَ مما يستحق.
انبثق هذا المفهوم من زيارة شرودنجر إلى كوبنهاجن في سبتمبر ١٩٢٦، وكانت المناسبة هي تعليقه الشهير الذي قدَّمه بور حول «الوثب الكَمِّي الملعون». تيقَّن هايزنبرج أن أحد الأسباب الرئيسية لما يبدو من تطاحُن بين بور وشرودنجر هو تضارب المفاهيم. فأفكارٌ مثل «الموضع» و«السرعة» (أو الحركة المغزلية فيما بعدُ) لا تعني ببساطة في عالَم الفيزياء الميكروية مثلَ ما تعنيه في الحياة اليومية. فماذا تعني تلك الأفكار، وكيف يمكن ربط هذين العالَمين بعضهما ببعض؟ عاد هايزنبرج إلى المعادلة الأساسية لميكانيكا الكَمِّ:
معنى عدم اليقين
نُشرت هذه النتائج المذهلة في مجلة الفيزياء الألمانية «تسايتشريفت فور فيزيك» سنة ١٩٢٧، فاستقبلها العلماء النظريون مثل ديراك وبور، الملمُّون بالمعادلات الجديدة لميكانيكا الكَمِّ، باستحسانٍ على الفور، لكن معظم التجريبيين رأى نتائج هايزنبرج تحديًا لمهاراتهم. وتخيلوا أنه يدَّعي أن تجاربهم ليست جيدةً بما فيه الكفاية لقياس الموضع والزخم في الوقتِ نفسِه، وحاولوا القيام بتجارب لإثبات خطئه. إلا أن ذلك كان هدفًا غيرَ ذي جدوى لأن هذا لم يكن ما قاله هايزنبرج على الإطلاق.
ويظهر أن سوء الفهم هذا، الذي لا يزال مستمرًّا حتى هذه الأيام، سببُه ولو جزئيًّا، الطريقةُ التي غالبًا ما تُدرَس بها فكرة عدم اليقين. وقد استخدم هايزنبرج نفسُه فكرةَ ملاحظة الإلكترون للوصول إلى مبدئه. إننا نستطيع أن نرى الأشياء عندما ننظر إليها، وهو الأمر الذي يتضمَّن ارتداد فوتونات الضوء منها إلى أعيننا. والفوتون لا يؤثِّر كثيرًا على شيء مثل بيت؛ ولذا لن نتوقَّع أن البيت سيتأثر كثيرًا عندما ننظر إليه. ولكن أمر الإلكترون يختلف كثيرًا. فبداية، حيث إن الإلكترون صغيرٌ جدًّا، لا بدَّ أن نستخدم طاقةً كهرومغناطيسية ذات طول موجي قصير حتى يمكن رؤيته على الإطلاق (بمساعدة جهاز تجريبي). وأشعة جاما هذه طاقتها كبيرة، وأي فوتونات لأشعة جاما ترتد عن الإلكترون — ويمكن التعرُّف عليها بجهازنا التجريبي — ستغيِّر بطريقةٍ درامية موقعَ وزخمَ الإلكترون — إذا كان الإلكترون في ذرةٍ ما — ومجرد فعْل الرؤية نفسِه بواسطة ميكروسكوب خاص بأشعة جاما ربما يدفع هذا الإلكترون خارج الذرة كليًّا.
وكل ذلك صحيح بما فيه الكفاية ويعطي فكرةً عامة عن استحالة قياس الموضع والزخم للإلكترون معًا بدقة. لكن مبدأ عدم اليقين، ووفقًا للمعادلات الأساسية لميكانيكا الكَمِّ، يدلنا على أنه لا يمكن أن يكون للإلكترون زخمٌ وموقعٌ دقيقان في الوقتِ نفسِه.
وهذا حدثٌ غريب في التاريخ. وعلى كلٍّ، فإن المعادلات الأساسية لنظريةِ الكَمِّ تؤدي إلى علاقات عدم اليقين، ولكن إذا بدأنا بعدم اليقين فلن نصل بأي حالٍ من الأحوال إلى المعادلات الأساسية للكَمِّ. والأسوأ من ذلك أن الطريقة الوحيدة لتقديم عدم اليقين من دون المعادلات، تكون باستخدامِ أمثلةٍ مثل استخدام ميكروسكوب أشعة جاما لرصد الإلكترونات، ويجعل هذا الناس على الفور تعتقد أن عدم اليقين يختص بالقيود التجريبية ولا يختص بالحقيقة الأساسية عن طبيعة الكون. وعليك أن تعرف أمرًا واحدًا ومنه تعود لتعرف شيئًا آخرَ ثم تتحرَّك لتكتشف فقط أنك قد توصَّلت إلى ما تعلَّمته في البداية. فالعلم ليس بالضرورة منطقيًّا، وبالمثل مدرسو العلوم. والنتيجة هي أجيال من الطلاب المشوَّشين والمفاهيم الخاطئة المختلطة بشأن مبدأ عدم اليقين؛ تلك المفاهيم الخاطئة التي لا تشارك أنت فيها، لأنك قد اكتشفت أمورًا في ترتيبها الصحيح. وعلى كلٍّ، إذا لم نهتمَّ بالتعقيدات العلمية وأردنا أن ننخرط في غرائبِ عالَمِ الكَمِّ، فإنه من المعقول جدًّا أن نبدأ باكتشافِ هذا العالَم بالأمثلة المذهلة حول طبيعته الخاصة للغاية. وسيكون مبدأ عدم اليقين في الجزء المتبقي من هذا الكتاب، متعلقًا فقط بأقل الأشياء غرابةً من التي ستصادفنا.
تفسير كوبنهاجن
الأمر المهم المتعلِّق بمبدأ عدم اليقين، الذي لا يلقى الاهتمام الذي يستحقه، هو أن هذا المبدأ لا يعمل بالمنطقِ نفسِه للأمام أو للخلف في الزمن. «تهتم» أشياءُ قليلة جدًّا في الفيزياء بالكيفية التي ينساب بها الزمن، وأحدُ الألغاز الأساسية للكون الذي نعيش فيه أنه من المؤكَّد وجودُ «سهمٍ للزمن» محدَّدٍ، فارقٍ بين الماضي والمستقبل. وتدلنا علاقات عدم اليقين على أننا لا نستطيع معرفةَ الموضع والزخم في الوقتِ نفسه، وعليه فإننا لا نستطيع التنبؤ بالمستقبل؛ فالمستقبل ليس قابلًا أصلًا للتنبؤ وهو غير مؤكد. ولكنه في داخل نطاق قواعدِ ميكانيكا الكَمِّ من الممكن إجراء تجربة للحساب بطريقةٍ عكسية لنصل إلى موقعِ وزخمِ إلكترون بالضبط عند زمنٍ معيَّن في الماضي مثلًا. والمستقبل أصلًا غيرُ محدَّد وغير مؤكَّد، فنحن لا نعرف بالضبط إلى أين نحن ذاهبون، لكن الماضي محدَّد تمامًا؛ فنحن نعلم من أين جئنا. وباستعارة مقولة هايزنبرج «من الممكن أن نعرف — من حيث المبدأ — الماضي بكل تفاصيله». ويتناسب هذا الأمر تمامًا مع خبرتنا اليومية بطبيعة الزمن، من حيث حركتنا من ماضٍ معروف إلى مستقبلٍ مجهول، وهي سمة أساسية في صميم عالَمِ الكَمِّ. ومن الممكن ربط ذلك بسهم الزمن الذي نلاحظه في الكون على اتساعه، وسنناقش تضميناته الأكثر غرابةً فيما بعد.
وفي حين بدأ الفلاسفة يتمسَّكون شيئًا فشيئًا بمثل هذه التضمينات المثيرة لعلاقات عدم اليقين، كانت هذه التضمينات لبور شعاعًا من الضوء ينير الطريقَ للمفهوم الذي كان يحاول الوصولَ إليه لبعض الوقت. وحيث وَجدت فكرةُ التكامل التي تفيد بأن كلًّا من صور الموجة والجسيم ضروريان لفهْم عالَم الكَمِّ (مع أن الإلكترون في الواقع ليس بموجة ولا جسيم) صيغةً رياضيةً في علاقةِ عدم اليقين تُفيد بأن الموقع والزخم معًا لا يمكن معرفتهما بدقة، ولكنها كوَّنت سماتٍ تكاملية للواقع، وبشكلٍ ما يستثني بعضها بعضًا. وفي الفترة ما بين يوليو ١٩٢٥ وسبتمبر ١٩٢٧ لم ينشر بور إلا القليل جدًّا في مجال نظريةِ الكَمِّ، ثم ألقى بعد ذلك محاضرةً في كومو بإيطاليا فيما يُعرف ﺑ «تفسير كوبنهاجن» أمام جمْعٍ غفيرٍ من الحضور قدَّم فيها لفكرةِ التكامل. أشار بور إلى أنه في الفيزياء الكلاسيكية نتصوَّر أن منظومةَ أيِّ جسيمات متداخلة تعمل مثل الساعة بصرف النظر عما إذا كانت مراقبةً أم لا، أما في فيزياءِ الكَمِّ فإن المُشاهد يتفاعل مع المنظومةِ لدرجةِ أن المنظومة لا يُنظر إليها كوجود مستقل. فإذا اخترنا قياس الموقع بدقةٍ فإننا نجبر الجسيم أن يخلق المزيد من عدم اليقين في الزخم والعكس صحيح؛ إذا اخترنا تجربةً لقياس خصائص الموجة فإننا نتغاضى عن سمات الجسيم، ولا توجد تجربة تكشف عن سمات الجسيم والموجة في آنٍ معًا، وهكذا. ويمكننا في الفيزياء الكلاسيكية وصْفُ موقعِ الجسيمات بدقةٍ في الزمكان والتنبؤ بمسلكها بالدقةِ نفسِها، أما في فيزياء الكَمِّ فلا نستطيع، وفي هذا السياق حتى النسبية تُعتبر نظريةً «كلاسيكية».
استغرق الأمر وقتًا طويلًا لتتطوَّر هذه الأفكار ويستقر مغزاها. واليوم أصبحت السمات المحورية لتفسير كوبنهاجن أكثرَ سهولةً في شرحها وفهمها بمدلولِ ما يحدث عندما يُجري عالِمٌ عمليةَ رصد تجريبية. أولًا: لا بد أن نسلِّم بأن مجرَّد ملاحظة الشيء تغيِّر منه، وأننا — نحن الملاحظين — جزءٌ حقيقي فعلًا من التجربة، ولا يوجد شيء مثل الساعة التي تدق سواء كنا ننظر إليها أم لا. ثانيًا: كلُّ ما نعرفه هو نتائج التجربة. نستطيع النظرَ إلى الذرة لنرى الإلكترون عند مستوى طاقةِ أ ثم عند النظر ثانية نرى الإلكترون عند مستوى طاقةِ ب. وربما نتخيَّل أن الإلكترون قد قفز من المستوى أ إلى المستوى ب لأننا نظرنا إليه. ولكننا في الواقع لا يمكن أن نجزم بأنه هو الإلكترون نفسُه، بل ولا نستطيع أن ندلي بأي شيء عما يحدث عندما كنا لا ننظر إلى الإلكترون. وما نستطيع تعلُّمه من هذه التجارب أو من معادلات نظريةِ الكَمِّ أنه من المحتمل أن نصل إلى الإجابةِ أ إذا نظرنا إلى نظامٍ ما، وعند النظر مرةً ثانية قد نحصل على الإجابة ب، ولا نستطيع أن نقول شيئًا عما حدث عندما كنا لا ننظر إليه، أو كيف وصل النظام من المستوى أ إلى ب إذا حدث ذلك فعلًا. أما «الوثبُ الكَمِّي الملعون» الذي سبَّب اضطراب شرودنجر فهو التفسير لسببِ حصولنا على إجابتين مختلفتين لنفس التجربة، وهو تفسيرٌ خادع. وقد توجد بعض الأشياء في المستوى أ بعض الوقت، وأحيانًا أخرى في المستوى ب، والسؤال هو: ما الذي يحدث بين الحالتين، أو كيف يحدث الانتقال من مستوًى لآخر، وهو شيء غير ذي معنًى تمامًا؟
وهذه في الحقيقة سمةٌ أساسية لعالَمِ الكَمِّ. ومن المثير أن هناك حدودًا لما نعرفه عما يفعله الإلكترون عندما لا ننظر إليه؛ بل إنه شيء مثير للحَيرة تمامًا عندما نكتشف أنه ليس لدينا أيُّ فكرة عما يحدث عندما لا ننظر إليه.
لقد قدَّم إدنجتون في ثلاثينيات القرن العشرين بعضًا من أفضل الأمثلة الفيزيائية حتى الآن بخصوص ذلك في كتابه «فلسفة علم الفيزياء». وقد شدَّد على أن ما ندركه — ما نتعلَّمه من تجاربنا — متأثرٌ بدرجة كبيرة بتوقعاتنا، وقدَّم مثالًا على ذلك، مربِكًا في بساطته، ليسحب بذلك البِساط من تحت هذه الملاحظات. قال: نفترض أن أحد الفنانين أخبرك بأن شكل رأس إنسان «مختبِئ» في صخرةٍ من الرخام. ستقول: «هراء». لكن الفنان يبدأ حينئذٍ في نحت الرخام بشيءٍ ليس أكثرَ من مطرقة وإزميل كاشفًا الشكل المختبئ. فهل هذه هي الطريقة التي «اكتشف» بها رذرفورد النواة؟ قال إدنجتون: «الاكتشاف لا يتجاوز الموجات التي تمثِّل المعرفة التي لدينا عن النواة»؛ حيث إن نواة الذرة لم يرَها أحدٌ بالمرة. وكلُّ ما نراه هو نتائج التجارب التي تؤدي إلى مدلول النواة. لم يجِد أيُّ إنسان البوزيترون إلى أن اقترح ديراك احتمال وجوده، ويدعي الفيزيائيون هذه الأيام معرفةَ عددٍ أكبر لما يسمَّى بالجسيمات الأساسية أكثر من العناصر المعروفة في الجدول الدوري. وكان الفيزيائيون في ثلاثينيات القرن العشرين مفتونين بالتنبؤ بجسيمٍ جديدٍ آخرَ — وهو النيوترينو — مطلوبٍ لتفسير خفايا التفاعلات المغزلية في بعض أنواع الانحلال الإشعاعي. وقال إدنجتون: «لست مرتاحًا لنظرية النيوترينو»، وأضاف: «ولا أعتقد في وجود النيوترينوات». لكن «هل أجرؤ أن أقول إن الفيزيائيين التجريبيين ليس لديهم البراعة الكافية لصنْع النيوترينوات؟»
ومنذ ذلك الحين حدث بالفعل «اكتشاف» ثلاثة تشكيلات مختلفة (بالإضافة إلى ثلاثة تشكيلات مضادة مختلفة) كما افترض وجود أنواع أخرى. هل من الممكن حقيقة أخذ شكوك إدنجتون مأخذَ الجِد على ظاهرها؟ وهل من المحتمل أن النواة والبوزيترون والنيوترينو لم تكن موجودةً إلى أن اكتشف التجريبيون نوعَ الإزميل المناسب لكشف أشكالها؟ وتضرب مثل هذه التخمينات على جذور صحة عقولنا، علاوة على مفهومنا عن الواقعية. لكنها أسئلة معقولة تمامًا يمكن طرحُها في عالمِ الكَمِّ. وإذا تتبَّعنا كتاب وصفةِ الكَمِّ بطريقةٍ صحيحة يمكننا القيام بتجربةٍ ينتج منها عدة قراءات نستطيع تفسيرها كمؤشرات على وجودِ نوعٍ معيَّن من الجسيمات. وفي كل مرة نستخدم نفس الوصف غالبًا نحصل على نفس المجموعة من القراءات. ولكن التفسيرات بمدلول الجسيمات كلها في الأذهان، وربما لا تكون أكثرَ من خداع متماسك. ولا تدلنا المعادلات على أي شيء مما تفعله الجسيمات عندما لا ننظر إليها؛ فلم ينظر أحد قط للنواة قبل رذرفورد، وقبل ديراك لم يتخيَّل أحدٌ وجود البوزيترون. فإذا كنا لا نستطيع أن نقول ماذا يفعل الجسيم عندما لا ننظر إليه، ولا نستطيع أن نجزم بوجوده عندما لا ننظر إليه؛ فمن المنطقي أن ندعي أن النواة والبوزيترون لم يكن لهما وجود قبل القرن العشرين؛ لأنه لم يحدث أن رأى إنسانٌ أيًّا منها قبل القرن العشرين. وما تراه في عالَمِ الكَمِّ هو ما تحصل عليه، وليس هناك شيء حقيقي، وأقصى ما نأمُل فيه أن تتوافق مجموعةٌ من الخدع بعضها مع بعض. ولسوء الحظ، حتى هذه الآمال قد تحطَّمت بواسطة بعض التجارب الأكثر بساطة. فهل تذكُر تجارب الشق الطولي المزدوج التي برهنت على الطبيعة الموجية للضوء؟ كيف يمكن تفسيرها بمدلول الفوتونات؟
تجربة الثقبين
أحد أفضل المعلِّمين وأفضل المعروفين في ميكانيكا الكَمِّ على مدار العشرين سنة الماضية هو ريتشارد فاينمان من معهد كاليفورنيا للتقنية. وقد قدَّم مرجِعه المؤلَّف من ثلاثة أجزاء والمنشور في أوائل ستينيات القرن العشرين «محاضرات فاينمان في الفيزياء»، وهو مرجعٌ قياسي تُقارن به المراجع الأخرى للطلاب الجامعيين، وقد ألقى محاضراتٍ عامة في الموضوعِ نفسِه مثل تلك الحلقات في تليفزيون «بي بي سي» عام ١٩٦٥ التي نُشرت تحت عنوان «خاصية القانون الفيزيائي». وُلِد فاينمان سنة ١٩١٨، وكان في قمة عطائه كفيزيائي نظري في الأربعينيات من القرن العشرين؛ حيث كان منهمكًا في وضع معادلات نسخةِ الكَمِّ الخاصة بالكهرومغناطيسية، تحت اسم الكهربية الديناميكية للكَمِّ، وحصل على جائزة نوبل سنة ١٩٦٥ عن هذا الإنجاز. ومكانة فاينمان الخاصة في تاريخ نظريةِ الكَمِّ تجعله ممثِّلًا للجيل الأول للفيزيائيين الذين شبُّوا مع كل أسسِ ميكانيكا الكَمِّ، وأرسَوا كلَّ القواعد الأساسية. وكان على هايزنبرج وديراك أن يعملا في بيئةٍ متغيرة؛ حيث الأفكار الجديدة لا تتوالى بالصورة الصحيحة، ولا العلاقة المنطقية بين مفهومٍ وآخر — كما في حالة الحركة المغزلية — تُلاحَظ بالضرورة على التو، أما جيل فاينمان فقد كانت كل أجزاء اللغز متاحةً لهم، ومن الممكن رؤية منطق ترتيبها لأول مرة، وقد لا يكون ذلك في لمحةٍ خاطفة، لكن بالتأكيد بعد قليل من التفكير والجهد الذهني. وهكذا فإن ما يجدُر الإشارة إليه أنه في حين كان باولي وأتباعه يفكِّرون — والموضوع ما زال ساخنًا — أن علاقات عدم اليقين هي المكان المناسب للبدء في مناقشة وتدريس نظريةِ الكَمِّ، توصَّل فاينمان وهؤلاء المعلمون في العقود الحديثة — الذين ينظرون إلى المنطق بأنفسهم بدلًا من إعادة إنتاج أفكار الأجيال السابقة — إلى نقطةِ بدايةٍ مختلفة. قال فاينمان في الصفحة الأولى من مرجِعه الخاص بمحاضراته والمخصَّص لميكانيكا الكَمِّ إن العنصر الأساسي في نظريةِ الكَمِّ هو تجربة الشق الطولي المزدوج. لماذا؟ لأن هذه «ظاهرة مستحيلة، مستحيلة بشكلٍ مطلق لتفسيرها بطريقةٍ كلاسيكية، وبها لبُّ ميكانيكا الكَمِّ. وفي الواقع فإنها تتضمَّن الشيء الوحيد الغامض … والغرائب الرئيسية في كل ميكانيكا الكَمِّ.»
تتم التجربة على النحو الآتي. تخيَّل شاشةً من نوعٍ ما — ربما حائط — بها ثقبان صغيران. من الممكن أن يكونا شقَّين ضيقين كما في تجربة يونج الشهيرة للضوء — لكنهما صغيران — وقد يقوم بالمهمةِ نفسِها ثقبان مستديران صغيران. وعلى أحد جانبَي الحائط حائطٌ آخرُ به كشاف معيَّن. فإذا أجريت التجربة مع الضوء، فمن الممكن أن يكون الكشاف سطحًا أيضًا، يمكن عليه رؤية الضوء والحُزَم الداكنة، أو من الممكن أن يكون الكشاف لوحًا فوتوغرافيًّا، يمكن إظهار الناتج عليه ودراسته فيما بعد. وإذا تم العمل في وجود إلكترونات، فقد تبدو الشاشة مغطاةً بترتيبٍ مكوَّن من عددٍ كبير من كاشفات الإلكترونات، أو من الممكن تصوُّر استخدام كشاف متحرك على عجلٍ يمكن تحريكه كما نشاء لإيجاد عدد الإلكترونات التي تصل إلى بقعةٍ معينة على الشاشة. وليست التفاصيل مهمةً ما دامت هناك طريقةٌ ما لرصدِ ما يحدث على الشاشة. وعلى الجانب الآخر من الحائط المحتوي على الثقبين يوجد مصدر للفوتونات أو الإلكترونات أو أي شيء آخر. وقد يكون هذا المصدر مجرد مصباح أو قاذف إلكترونات مثل ذلك الذي يكوِّن الصورة على شاشة تلفزيونك، ومرة ثانية فإن التفاصيل غير ذات أهمية. ما الذي يحدث عند مرور هذه الأشياء خلال الثقبين لتصل إلى الشاشة؛ أيَّ نسق تصنع عندما تصل إلى الكشاف؟
لتصبح:
وإذا قمنا بتجربةٍ من نفس النوع مستخدمين جسيماتٍ كبيرةً في حياتنا اليومية (تخيَّل فاينمان بغرابةٍ شديدةٍ تجربةً تتضمَّن مدفعًا رشاشًا يطلق طلقاته خلال الثقوب الموجودة على الحائط، وقد رُصَّت أجولةٌ مملوءة بالرمل عند الكشاف لالتقاط هذه الطلقات)، ولن نجد أيَّ «مدلول للتداخل»، وقد نجد بعد إطلاق عدد كبير من الطلقات خلال الثقوب أعدادًا مختلِفةً من الطلقات في الأجولة المختلفة. وعندما كان ثقبٌ واحد فقط هو المفتوح، فإن نسق انتشار الطلقات حول «الشاشة» ماثلَ تمامًا نسقَ توزيع الشدة لموجات الماء عندما كان ثقبٌ واحد مفتوحًا، ولكن عندما يكون كلا الثقبين مفتوحًا فإن نسقَ توزيع الطلقات في الأجولة يكون بالفعل مساويًا لمجموع التأثير الناتج من الثقبين المنفصلين، ومعظم الطلقات يوجد في المنطقة خلف الثقبين مباشرةً، ثم يتلاشى بهدوء دون وجودِ قممٍ أو قيعان نتيجةً للتداخل. وفي هذه الحالة، وباعتبار أن كل طلقة تمثِّل وحدةَ الطاقة، فإن توزيع الشدة يكون:
وأنت تعلم ما سيأتي بعد ذلك. تخيَّل الآن أننا أجرينا التجاربَ نفسَها باستخدام الضوء والإلكترونات. وفي الحقيقة أُجْريَت تجربةُ الشق الطولي المزدوج مرات عديدة باستخدام الضوء، ونتج عن ذلك أنساقُ حيود بالضبط كما في مثال الموجات. لم تُجرَ تجربةُ الإلكترون بالطريقةِ نفسِها — هناك مشكلات عند إجراء التجارب بالنسبة إلى الأشياء الصغيرة — لكن أُجريت تجاربُ مماثلة لتشتُّت أشعة الإلكترونات عن ذرات موجودة في بلورات. وعليه وللمحافظة على عدم تعقيد الأمور سأتمسَّك بالتجربة الخيالية للشق الطولي المزدوج مترجِمًا ذلك إلى لغةِ النتائج غيرِ المبهمة التي نحصل عليها من تجارب الإلكترونات الحقيقية. فالإلكترونات مثل الضوء تمامًا تعطي نسقًا للحيود.
إننا نستطيع أن نفهم بسهولةٍ كافية أن الموجة — قد تكون موجة ماء — تستطيع المرور خلال الثقبين في الحاجز. فالموجة شيء منتشر. لكن الإلكترون ما زال يبدو كجسيم حتى لو صاحبته خصائصُ تشبه الموجة. ومن الطبيعي أن نعتقد أن كل إلكترون منفرد «لا بد» وبالتأكيد أن يمرَّ خلال أحد الثقبين. ومن الممكن أن نحاول تجريبيًّا حجْبَ أحد الثقبين، كلٌّ على حدة، دوريًّا. وعندما نفعل ذلك فإننا نحصل على النسق المعتاد على الشاشة لتجارب الثقب الأوحد. أما عند فتح الثقبين معًا، فإننا لن نحصل على النسق الناتج من جمع النسقين معًا كما في حالة طلقات الرصاص. وبدلًا من ذلك فإننا سنحصل على نسق التداخل كما في حالة الموجات، وسنظل نحصل على النسقِ نفسِه حتى لو أبطأنا إطلاق الإلكترونات للدرجةِ التي يمر فيها إلكترون واحد فقط كلَّ لحظة خلال منظومة الثقبين. ونستطيع أن نخمِّن أن إلكترونًا واحدًا سيمر من خلال ثقب واحد ويصل إلى الكشاف ليأتي بعده إلكترون آخر وهكذا. فإذا انتظرنا صابرين ليمر عددٌ كافٍ من الإلكترونات فإن النسق الذي سيتكوَّن على شاشة الكشاف هو نسق حيود الموجات. ومن المؤكد أنه في حالة الإلكترونات والفوتونات إذا أجرينا ألف تجربة مماثلة في ألف معمل مختلِف وجعلنا جسيمًا واحدًا يعبر في كل تجربة، فسنجمع ألف نتيجة مختلفة، لكن بها كلِّها نسقٌ يتماشى مع الحيود تمامًا كما لو كنا قد جعلنا ألف إلكترون يعبرون معًا في واحدة من هذه التجارب. ويخضع الإلكترون المنفرد أو الفوتون المنفرد لقوانين الإحصاء عند عبوره من خلالِ أحدِ الثقبَين على الحائط؛ تلك القوانين التي لا تكون مناسبة إلا إذا «عُرف» أولًا أن الثقبَ الآخرَ مفتوح. وهذا هو الغموض المحوري في دنيا الكَمِّ.
نستطيع محاولةَ الخداع، وذلك بغلق أو فتح أحد الثقبين بسرعةٍ في حين يكون الإلكترون في حالةِ انتقال خلال الجهاز. ولن يفيد ذلك؛ فالنسق على الشاشة دائمًا هو «الصحيح» لحالة الثقوب عند لحظة مرور الإلكترون من خلالها. ويمكن أن نختلس النظرَ «لنرى» من أيِّ الثقبين يمر الإلكترون. وعند إجراء تجربة مماثلة لهذه التجربة تأتي النتيجة أكثرَ غرابة. لنتخيل تصميمًا يسمح لنا بتسجيلِ أيُّ الثقبين يعبر الإلكترون من خلاله، ويتركه ليعبر ويصل إلى شاشة الكشاف. وهنا تسلك الإلكترونات مسلكًا عاديًّا كأي جسيمات في الحياة اليومية تحترم نفسها. ونرى الإلكترون دائمًا عند ثقب أو عند الآخر، وليس عند الثقبين أبدًا في آنٍ واحد. والآن فإن النسق الذي يتكوَّن على شاشة الكشاف سيكون مكافئًا تمامًا لنسق الرصاصات دون وجود أيِّ أثر للتداخل. وفي هذه الحالة، لا تعرف الإلكترونات ما إذا كان الثقبان مفتوحين أم لا فحسب، لكنها تعرف إذا كنا نراقبها أم لا، وعليه تُكيِّف من سلوكها وفقًا لذلك. ولا يوجد مثال أوضح من ذلك لتداخل المشاهد مع التجربة. وعندما نحاول النظرَ إلى موجة الإلكترون المنتشرة نجدها تنهار إلى جسيمٍ محدَّد، أما إذا كنا لا ننظر فإنها تتحرك هي نفسُها بكل الاحتمالات. وبمدلول احتمالات بورن فإن الإلكترون قد أصبح مضطرًّا، بناءً على قياساتنا، لاختيار مسارٍ واحد من احتمالات عديدة. فهناك احتمالٌ أكيد أن ينفُذ من أحد الثقبين، وهناك احتمالٌ مكافئ أن يتجه إلى الثقب الآخر، وينتج احتمال التداخل هذا نسق الحيود عند الكشاف. ولكن عندما نكتشف الإلكترون، يكون في مكان واحد مما يغيِّر من نسق الاحتمالية في المستقبل — بالنسبة إلى الإلكترون — ومعروف الآن بالتأكيد أيُّ الثقبين يمر منهما. أما إذا لم ينظر أحد إليه، فحتى الطبيعة نفسُها لا تعرف من أيِّ الثقبين مر الإلكترون.
الموجات المنهارة
ما نراه هو ما يُعتَد به. فأيُّ مشاهدة تجريبية من التجربة تكون صحيحة فقط في نطاق التجربة ولا يمكن استخدامها لتدلنا على تفاصيلِ أشياءَ لم نشاهدها. ونستطيع القول إن تجربة الشق الطولي المزدوج تدلنا على أننا نتعامل مع موجات، وبنفس القدْر بالنظر فقط إلى النسق على شاشة الكشاف يمكن استنتاج أن بالجهاز ثقبين وليس ثقبًا واحدًا. وكلُّ ما يعنينا هو أن الجهاز والإلكترونات والمشاهد كلَّها مكوِّنات التجربة. ولن نستطيع القول إن الإلكترون يمر من خلال أحد الثقبين دون النظر إلى الثقبين أثناء مروره (وهذه تجربة مختلفة). يترك الإلكترون مصدرَ القذف ويصل إلى الكشاف ويبدو أنه يمتلك كلَّ الإعدادات التجريبية بما فيها المشاهد. وكما شرح فاينمان لمشاهديه في تلفزيون «بي بي سي» سنة ١٩٦٥ أنه إذا كان لديك جهازٌ قادر على أن يدُلك من أي الثقبين سيمر الإلكترون، فإنك تستطيع القول إنه سيمر من خلال ثقب أو من خلال الآخر. ولكن إذا لم يوجد جهاز يحدِّد أيُّ الثقبين قد مرَّ منه الإلكترون فحينئذٍ ليس في الاستطاعة القول إنه مر من ثقبٍ دون الآخر. وقال: «إذا جزمت أن الإلكترون يمر من ثقب وليس من الآخر دون مشاهدة ذلك، فهذا ادعاء خاطئ.» أصبح مصطلح «شامل» كلمة طنانة أسيء استخدامُها؛ الأمر الذي يجعلني مترددًا في استخدامها. إلا أنه ليس هناك تعبيرٌ مناسب أكثر لوصف عالَمِ الكَمِّ. إنه شامل، فيه الأجزاء ترتبط بشكلٍ ما بالكل. ولا يعني ذلك فقط كل إعدادات التجربة. ويبدو أن العالم يحتفظ بكل خياراته وكل احتمالاته متاحة لفترةٍ طويلة بقدرِ الإمكان. وأغرب شيء حول تفسير كوبنهاجن القياسي عن عالَمِ الكَمِّ هو أن رصد منظومة يرغمها على اختيار أحد الخيارات فقط، ويصبح هذا الخيار واقعًا.
إن تداخل الاحتمالات في أبسطِ تجارب الثقبين يمكن تفسيره على أن الإلكترون عند تركه مصدرَ القذف يتلاشى ويحل محلَّه مجموعةٌ من الإلكترونات الأشباح يسلك كلٌّ منها مسارًا مختلفًا حتى تصل إلى شاشة الكشاف. تتداخل تلك الأشباح بعضها مع بعض، وعند النظر إلى الطريقة التي تكتشف بها هذه الإلكترونات عن طريق الشاشة، نجد حينئذٍ آثار هذا التداخل حتى لو كنا نتعامل مع إلكترون حقيقي واحد كلَّ مرة. وعلى كلٍّ، فإن وفرة الإلكترونات الأشباح هذه تصفُ الموقف فقط عندما لا ننظر إلى ما يحدث، أما عندما ننظر فتختفي كل الأشباح ما عدا واحدًا فقط، وهذا الواحد من الأشباح يتجسَّد كإلكترون حقيقي. وبمدلول معادلة شرودنجر للموجة فكلُّ واحد من الأشباح يعبِّر عن موجة، أو بالأحرى حزمة من الموجات التي اعتبرها بورن مقياسًا للاحتمالية. ويماثل مشاهدةُ شبح واحد يتبلور من بين إلكترونات عديدة — بمدلول تعبير الميكانيكا الموجية — اختفاءَ مجموعةِ موجات الاحتمالات ما عدا حزمةً واحدة من الموجات التي تصف إلكترونًا حقيقيًّا واحدًا. ويسمَّى هذا «انهيار الدالة الموجية»، ومع غرابة ذلك فإنه يقع في صلب تفسير كوبنهاجن الذي هو نفسه أساسُ طهي الكَمِّ. وعلى كلٍّ، فإن الأمر يدعو للشك، حيث إن العديد من الفيزيائيين ومهندسي الإلكترونيات وآخرين يستخدمون وهم سعداء كتابَ طهي الكَمِّ، مقدِّرين أن القواعدَ التي أثبتت أنه يمكن الاعتماد عليها في تصميم الليزر والحاسوب ودراسة المادة الجينية، تعتمد صراحةً على افتراض أن عددًا وافرًا من الجسيمات الأشباح تتداخل بعضها مع بعض طوال الوقت، وتندمج كلُّها في جسيمٍ وحيد حقيقي كحالة انهيار الدالة الموجية أثناء المشاهدة. وما هو أسوأ من ذلك، أنه في اللحظة التي نتوقَّف فيها عن مشاهدة الإلكترون أو أيِّ جسيمٍ آخرَ ننظر إليه فإنه ينشطر في الحال إلى عددٍ وافرٍ من الجسيمات الأشباح، يسلك كلٌّ منها مسارَه من الاحتمالات من خلال عالَمِ الكَمِّ. لا شيء حقيقي إلا عندما ننظر إليه، ويتوقَّف هذا الشيء عن أن يكون حقيقيًّا في اللحظة التي نتوقَّف فيها عن النظر إليه.
الفيزياء مزعجة، لكن الرياضيات نظيفة وبسيطة، ومعادلاتها مألوفة لأي فيزيائي. وما دمتَ تتجنَّب السؤال عما تعنيه فليس هناك أيُّ مشكلة. ولو سألت لماذا العالَم على هذا الشكل، فإن الجواب حتى من فاينمان «ليس لدينا أي فكرة». ولو ظللت تصرُّ على صورةٍ فيزيائيةٍ لما يحدث لوجدتَ كلَّ الصور الفيزيائية تذوب في عالَمٍ من الأشباح تبدو فيه الجسيمات حقيقية فقط عندما ننظر إليها، وحتى خصائص مثل الزخم والموقع هي أشياء من صنْع المشاهدة. وليس من العجيب على الإطلاق أن نجد العديد من الفيزيائيين الأجلاء، ومن بينهم أينشتاين، يقضون العقودَ في محاولةِ إيجاد طرقٍ تدور حول هذا التفسيرِ لميكانيكا الكَمِّ. وقد باءت هذه المحاولات بالفشل، وهي المحاولات التي سنصفها بإيجاز في الفصل القادم. وكانت كل محاولة جديدة لإثباتِ عدمِ صحة تفسير كوبنهاجن تقوي أسسَ صورة عالَم أشباح الاحتمالات، وتمهِّد الطريقَ لما بعد ميكانيكا الكَمِّ، وتطوِّر صورةً جديدة للعالَم الشامل. وأساس هذه الصورة الجديدة هو التعبير الأقصى لمفهوم التكامل، لكن تظل هناك طلقةٌ أخيرة نعَضُّ عليها بالنواجذ قبل أن نتمكَّن من النظر في التضمينات.
قواعد التكامل
عادةً ما تمثِّل النسبيةُ العامة وميكانيكا الكَمِّ الانتصارين التوءمين للنظريات العلمية في القرن العشرين، وأن الكأس المقدَّسة للفيزيائيين اليوم هي التوحيد الحقيقي لهاتين النظريتين في نظريةٍ عظمى واحدة. وتدُل مجهوداتهم بكلِّ تأكيد، كما سنرى، على نفاذِ بصيرةٍ بطبيعةِ الكون. ولكن يبدو أن هذه المجهوداتِ لا تأخذ في حُسبانها حقيقةَ أنه بالمنطق الصارم لا يمكن التوفيقُ بين هاتين الصورتين للعالَم.
وفي أول عرض لبور سنة ١٩٢٧ لِمَا أصبح معروفًا باسم تفسير كوبنهاجن، ركَّز على التناقضِ بين وصف العالَم من منطلقِ محاورِ الزمكان البحتة والسببية المطلقة من جهة، وبين صورةِ الكَمِّ التي يتداخل فيها المُشاهد ويصبح طرفًا في المنظومة التي يراها من جهة أخرى. وتمثِّل إحداثيات الزمكان الموقع، وتعتمد السببية على معرفةِ أين تتجه الأشياء بالضبط، وبصفة ضرورية معرفة زخمها. وتفترض النظريات الكلاسيكية أنك تستطيع معرفةَ الاثنين في آنٍ واحد، وتوضِّح ميكانيكا الكَمِّ أن الدِّقة في إحداثيات الزمكان تكون على حساب عدم اليقين من الزخم؛ ومن ثَم من السببية. ومن هذا المفهوم فإن النسبية العامة نظريةٌ كلاسيكية ولا يمكن اعتبارها مكافِئةً لميكانيكا الكَمِّ كأساس في وصف الكون. فإذا حدث وكان هناك تناقض بين النظريتين فلا بد من الرجوع إلى نظريةِ الكَمِّ لما بها من وصفٍ أفضلَ للعالَم الذي نعيش فيه.