المفارقات والاحتمالات
قام كلُّ هجوم على تفسيرِ كوبنهاجن بتعزيزِ مكانته أكثر. وعندما حاول مفكِّرون من أمثال أينشتاين إيجادَ عيوبٍ في النظرية، واستطاع المدافعون عنها التفنيد والرد على دفوع المهاجمين، خرجت النظرية أقوى بعد تلك المحاكمات. ومن المؤكد أن تفسير كوبنهاجن «صحيح» من جهةِ أنه قابل للاستخدام، وأي تفسير آخر لقواعدِ الكَمِّ لا بد أن يتضمَّن تفسير كوبنهاجن كرؤيةٍ قابلة للاستخدام، وأنها تُمكِّن التجريبيين من التنبؤ بنتائج تجاربهم على الأقل بالمعنى الإحصائي — وتُمكِّن المهندسين من تصميمِ أنظمةِ الليزر والكمبيوتر وخلافه. وليس هناك داعٍ للخوض في كل العمل الأساسي الذي أدَّى إلى تفنيد جميع الأطروحات المضادة لتفسير كوبنهاجن؛ فقد اضطلع بهذه المهمة آخرون بشكلٍ جيد. لكن ربما يكون من أهم الآراء المهمة التي ذكرها هايزنبرج سابقًا سنة ١٩٥٨ في كتابه «الفيزياء والفلسفة». حيث ركَّز هايزنبرج على أن كل المقترحات المضادة «مجبرة على أن تضحِّي بالتماثل الأساسي لنظريةِ الكَمِّ (مثلًا بالتماثل بين الموجات والجسيمات أو بين الموضع والسرعة). وعليه فمن الممكن جدًّا أن نقترح أنه لا يمكن تجنُّبُ تفسيرِ كوبنهاجن إذا ظلت خصائص التماثل … سمةً أساسية في الطبيعة، وأن كل تجربة تُجرى حتى الآن تعضِّد هذه الرؤية.»
وقد أُدخل تحسينٌ على تفسير كوبنهاجن (ليس هجومًا ولا أطروحة مضادة) ما زال يتضمَّن هذا التماثل الأساسي، وأحسن صورة يمكن تقبُّلها لواقعِ الكَمِّ ستُشرح في الفصل الحادي عشر. وعلى كلٍّ، يكاد يكون غريبًا أن يغفل هايزنبرج عن ذكْرِ ذلك في كتابه المنشور سنة ١٩٥٨، حيث إن تلك الصورة الجديدة كانت قد ظهرت في ذلك الوقت بواسطةِ طالبِ دكتوراه في الولايات المتحدة. وعلى كلٍّ وقبل التطرُّق لهذا، من الصواب أن نقتفي أثرَ مسار اندماج النظرية بالتجربة الذي أُنجز بداية عام ١٩٨٢، وأرسى دون أدنى شكٍّ دقةَ تفسيرِ كوبنهاجن كرؤية قابلة للاستخدام في الواقعِ الكَمِّي. وتبدأ القصة بأينشتاين وتنتهي في معملٍ للفيزياء في باريس بعد ٥٠ عامًا، وهي واحدة من أعظم القصص في العالم.
الساعة في الصندوق
بدأ الجدل الكبير بين بور وأينشتاين حولَ تفسيرِ نظريةِ الكَمِّ عام ١٩٢٧ في مؤتمر سولفاي الخامس واستمر حتى وفاة أينشتاين عام ١٩٥٥. وراسل أينشتاين بورن حول الموضوع، ومن الممكنِ التقاطُ جانبٍ من هذا الجدل من «خطابات بورن-أينشتاين». كان محورُ هذا الجدل حول سلسلةٍ من الاختبارات الخيالية للتنبؤ بتفسير كوبنهاجن، ليست تجاربَ حقيقيةً أُجريت في المعمل، لكنها «تجارب ذهنية». حاول أينشتاين في هذه اللعبة أن يفكِّر في تجربةٍ يمكن فيها نظريًّا قياسُ شيئين مكمِّلين في اللحظة نفسِها — مثل موقع وكتلة الجسيم أو طاقته — بدقةٍ عند زمنٍ محدَّد، وهكذا. وعندئذٍ حاول بور وبورن أن يُظهِرا أن تجربةَ أينشتاين الذهنية لا يمكن ببساطة إجراؤها بالطريقة المطلوبة لسحْب البِساط من تحت أقدامِ النظرية. وتجربة «الساعة في الصندوق» هي أحد الأمثلة التي ستبيِّن كيف أُجريت اللعبة.
قال أينشتاين: تخيَّل صندوقًا به ثقبٌ في أحد جدرانه، مغطًّى بحاجزٍ يمكن فتحُه ثم إغلاقه ثانية بتحكُّمٍ من ساعةٍ داخل الصندوق. وبجانب الساعة وآلية فتح وإغلاق الثقب، يكون الصندوق مليئًا بالإشعاع. جهِّز التجربة بحيث يُفتح غطاء الثقب عند لحظة معينة حُدِّدَت مسبقًا بواسطة الساعة ليسمح بمرور فوتون واحد ليهرب قبل أن يغلق ثانية. زنِ الصندوق في البداية ثم اسمح للفوتون بالهرب، ثم زنِ الصندوق ثانية. ولأن الكتلة هي طاقة، فالفرق بين الوزنين سيدُلنا على طاقة الفوتون الذي هرب. وعليه فإننا — من حيث المبدأ — سنعرف كميةَ طاقة الفوتون بالضبط والزمن الذي استغرقه الفوتون للمرور خلال الثقب، داحضين بذلك مبدأ عدم اليقين.
وتوجد هذه التفاصيل وتفاصيل تجاربَ ذهنيةٍ أخرى تضمَّنتها مناقشاتُ أينشتاين-بور في كتاب أبراهام باي «خفي هو الرب» … أكَّد باي أنه ليس هناك شيء غريب في إصرار بور على ذكْر الوصف الكامل والتفصيلي للتجارب الخيالية، وفي هذه الحالة تُستخدم صواميل ومسامير لتثبيتِ إطارِ الميزان في موضعه، والزنبرك الذي يسمح بقياس الكتلة لا بد أن يسمح للصندوق بالحركة، وبإضافة الأوزان الصغيرة الضرورية، وهكذا، ولا بد من تفسير نتائج كل هذه التجارب بمدلول مصطلحات اللغة الكلاسيكية؛ لغة الواقع اليومي. ومن الممكن تثبيت الصندوق في مكانه تمامًا، وعليه فلن يكون هناك عدمُ يقين حول الموقع، لكن سيكون من المستحيل قياسُ التغير في الكتلة. وتنشأ معضلةُ عدمِ يقينِ الكَمِّ لأننا نحاول أن نعبِّر عن الأفكار الكَمِّية بلغة حياتنا اليومية، ولذلك أصرَّ بور على استخدام المسامير والصواميل في تجاربه.
مفارقة أينشتاين وبودولسكي وروزين
تقبَّل أينشتاين انتقاداتِ بور لهذه التجربة ولتجاربَ ذهنيةٍ أخرى، وفي أوائل ثلاثينيات القرن العشرين تحوَّل أينشتاين إلى نوعٍ جديد من الاختبارات الخيالية لقواعدِ الكَمِّ. كانت الفكرة الأساسية لهذا المدخل الجديد هي استخدام معلومات تجريبية لجسيم واحد لاستنتاجِ خصائصَ مثل الموضع والزخم لجسيم آخر. ولم يُحَل هذا النوع من الجدل قط في حياة أينشتاين، ولكن جرى اختباره بنجاحٍ الآن، ليس عن طريق التجارب الفكرية المحسنة، بل عن طريقِ تجاربَ حقيقيةٍ في المعمل. ومرة أخرى يفوز بور ويخسر أينشتاين.
كانت نقطةُ الجدل، وفقًا لأينشتاين ومساعديه، أن تفسير كوبنهاجن لا بد أن يكون منقوصًا، ولا بد من وجودِ شيءٍ ما يجعل عمل الساعة التي تحرِّك الكون مستمرة، وهذا فقط هو ما يعطي الانطباع بعدم اليقين وعدم التنبؤ على المستوى الكَمِّي خلال التغيرات الإحصائية.
قال أينشتاين وبودولسكي وروزين: تخيَّل جسيمين يتداخل كلٌّ منهما مع الآخر ثم يبتعدان أحدهما عن الآخر، ولا يتداخلان مع أي شيءٍ آخرَ إلى أن يقرِّر الشخص الذي يُجري التجربةَ فحصَ أحدِهما. ولكل جسيم زخمٌ خاص به، ويقع كلٌّ منهما في موقعٍ ما في الفضاء، وحتى بالنسبة إلى قواعدِ نظريةِ الكَمِّ فإنه مسموحٌ لنا بقياس الزخم الكلي للجسيمين معًا بدقه، بالإضافة إلى المسافة بينهما عندما كانا قريبين أحدهما من الآخر. وعندما نقرِّر قياسَ الزخم لأحدهما بعد فترةٍ طويلة فإننا نعلم تلقائيًّا ما يجب أن يكون عليه زخمُ الجسيم الآخر؛ حيث إن المجموع يجب ألا يتغيَّر. وبدلًا من ذلك نستطيع قياسَ الموقع الدقيق للجسيم الأول، وبنفس الأسلوب نستنتج موقعَ الجسيم الآخر. والآن قد ندفع بأن القياسات الفيزيائية لزخمِ الجسيم أ تُدمِّر معرفةَ موقعه الخاص، ومن ثم لن نستطيع أن نعرفَ موقعَه بالضبط، وكذلك بالمثل، فالقياسات الفيزيائية لموقع الجسيم أ تتسبَّب في اضطراب زخمه، الذي سيظل غيرَ معلوم، ولكن الأمر قد يبدو مختلفًا تمامًا لأينشتاين ورفاقه ليدفعوا بأن حالةَ الجسيم ب تعتمد على أي من القياسين نختار أن نُجري على الجسيم أ. كيف للجسيم ب أن «يعرف» هل يجب أن يكون له زخم محدَّد بدقة أو موقع محدَّد بدقة؟ ويبدو في عالمِ الكَمِّ أن إجراء قياسات على جسيم «هنا» يؤثِّر على شريكه «هناك»، وهذا يخالف السببية، وهو «الاتصال» التلقائي عبر الفضاء، وهو شيءٌ ما يُدْعى «الفعل عن بُعد».
لكن أينشتاين كان رجلًا شريفًا ومستعدًّا دائمًا لتقبُّل الأدلة التجريبية المقنعة. ولو قُدِّر له أن يعيش ليرى الاختباراتِ التجريبيةَ الحديثة التي بيَّنت بجلاءٍ خطأَ تأثير أينشتاين وبودولسكي وروزين، لمالَ إلى الاعتراف بخطئه. فالواقعية الموضوعية ليس لها مكان في الوصف الأساسي للعالَم، لكن الفعل عن بُعد أو اللاسببية لها مثل هذا المكان. ولذلك فإن التحقُّق التجريبي من الأهمية بحيث يستحِقُّ أن نخصِّص له فصلًا قائمًا بذاته. ولكن أولًا، يجب أن نلقي نظرةً على بعض الاحتمالات المتناقضة الموروثة في قواعدِ الكَمِّ؛ الجسيمات التي تسافر إلى الوراء في الزمن، وأخيرًا قطة شرودنجر الشهيرة نصف الميتة.
السَّفر عبر الزمن
ويمثِّل الخط في شكل فاينمان مسارَ الإلكترون. فالإلكترون الذي يقبع في مكانه ولا يتحرك أبدًا يعطي خطًّا يتحرك إلى أعلى الصفحة معبِّرًا عن حركةٍ في اتجاه الزمن فقط، أما الإلكترون الذي يغيِّر من مكانه ببطء، والذي يتحرك كذلك مع سريان الزمن فيمثِّله خطٌّ بزاويةِ ميلٍ ضئيلة بالنسبة إلى الخط الرأسي، لكن الإلكترون الذي يتحرك بسرعة فإنه يكوِّن زاويةً أكبرَ مع «خط العالم» لجسيمٍ ثابت. ويمكن أن تكون الحركة في الفراغ في أيٍّ من الاتجاهين اليسار أو اليمين، وربما يكون الخط هنا متعرجًا إذا حادَ الإلكترون نتيجةَ التصادم مع جسيماتٍ أخرى. ولكن في عالَمنا اليومي أو في أشكال عالم الزمكان البسيط في النظرية النسبية فإننا لن نتوقَّع لخطِّ العالَم أن يرجع للخلف ويتقدَّم إلى أسفل الصفحة؛ لأن هذا سيعني التحرُّك إلى الوراء في الزمن.
ومرةً أخرى، يمكن تمثيل التداخل الكلي ببساطة في شكل فاينمان. فالفوتون الذي يرحل عبْر الزمان والمكان يكوِّن تلقائيًّا زوجًا من إلكترون وبوزيترون، ويتحرك الإلكترون في مساره، ويقابل البوزيترون إلكترونًا آخر ويتلاشيان، ويترك الساحة فوتون آخر. لكن الاكتشاف الدرامي الذي توصَّل إليه فاينمان سنة ١٩٤٩ في وصف الزمكان، هو أن البوزيترون المتحرِّك إلى الأمام في الزمان يكافئ تمامًا الوصفَ الرياضي لتحرُّك إلكترون إلى الخلف في الزمان على مسارِ شكلِ فاينمان نفسِه. ومع أن الفوتونات هي نفسُها جسيماتٌ مضادة، إلا أنه ليس هناك اختلافٌ في هذا الوصفِ بين فوتون يتحرَّك إلى الأمام في الزمان، وآخرَ يتحرَّك إلى الوراء في الزمان. ولكل الأغراض العملية يمكن أن نمحو أسهم مسار الفوتون في الشكل ونعكس مسار البوزيترون لنجعله إلكترونًا. ويدُلنا شكل فاينمان نفسُه على قصة أخرى، عندما يتقدَّم إلكترون عبر الزمان والمكان ويقابل فوتونًا عالي الطاقة، فإنه يمتصه ثم يتشتَّت إلى الخلف في الزمان حتى يطلق فوتونًا نشطًا آخرَ ويرتدُّ بطريقةٍ ما إلى الأمام في الزمان مرة أخرى، وبدلًا من ثلاثة جسيمات، إلكترونين وبوزيترون في رقصة معقَّدة، يصبح لدينا جسيمة واحدة، إلكترون يتحرَّك بشكلٍ متعرِّج عبر الزمان والمكان متصادمًا مع الفوتونات هنا وهناك خلال مساره.
وبمدلول هندسة الأشكال فإن هناك تشابهًا واضحًا بين مثال الإلكترون الذي يمتص فوتونًا ذا طاقةٍ منخفضة ويغيِّر من مساره قليلًا ثم ينبعث منه فوتون ويغيِّر من اتجاهه مرةً أخرى، وبين الإلكترون الذي يتشتَّت بعنفٍ عند التداخل مع فوتون يتحرَّك إلى الوراء في الزمن أثناء فترةٍ معينة من حياته. وهناك خطٌّ متعرِّج في كلتا الحالتين له ثلاثةُ مقاطع مستقيمة وزاويتان. والاختلاف هنا فقط أنه في الحالة الثانية تكون الزوايا أكثرَ حدةً عنها في الحالة الأولى. وكان جون ويلر أولَ مَن امتلك البصيرة ليقول إن النمطين المتعرِّجين يمثِّلان النوعَ نفسَه من الأحداث، لكن فاينمان كان أول مَن برهن على التطابق الرياضي المضبوط بين الحالتين.
وهناك الكثيرُ مما يمكن استيعابُه أكثر حتى مما تقابله العينُ للوهلة الأولى. لذا دعونا نحلِّل الأمرَ جزءًا جزءًا:
أولًا: لقد ألقيت بهذه الملحوظةِ التي تتعلَّق بأن الفوتون هو نفسه جسيمه المضاد، ولهذا نستطيع أن نزيل الأسهم من مسارات الفوتون. فالفوتون الذي يتحرَّك إلى الأمام في الزمان هو نفسه الفوتون المضاد الذي يتحرك إلى الوراء في الزمان، ولكن الفوتون المضاد هو فوتون كذلك، وعليه فإن الفوتون المتحرِّك إلى الأمام في الزمان هو نفسه فوتون متحرِّك إلى الوراء في الزمان. فهل هذا غريب عليك؟ يجب أن يكون الأمر كذلك. وبعيدًا عن أي شيء آخر، فإن هذا يعني أننا عندما نرى ذرةً في حالةٍ مثارة تنبعث منها طاقةٌ وتسقط إلى الحالة الأرضية المستقرة، فإنه يمكن القول هنا إن طاقة كهرومغناطيسية تتحرَّك للوراء في الزمان ووصلت للذرة محدِثةً الانتقال. وهذا ليس من السهل تصوُّره؛ لأننا الآن لا نتكلم عن فوتون بمفرده يتحرَّك في خط مستقيم عبر المكان، بل نتحدَّث عن غلافٍ كروي متمدِّد من الطاقة الكهرومغناطيسية، وجبهة موجة تنتشر من الذرة في جميع الاتجاهات وتتشوَّه وتتشتَّت أثناء سيرها. وينتج عن عكسِ هذه الصورةِ عالَمٌ به جبهةُ موجةٍ كروية الشكل تمامًا متمركزة حول ذرتنا المختارة، لا بد أن تنشأ بواسطة الكون ناتجة من سلسلة من عمليات التشتُّت، تعمل معًا ثم تتجمَّع لتتقارب على هذه الذرة المعنية.
زمان أينشتاين
لكن ما الذي «يراه» الفوتون نفسُه كسهم للزمن؟ نحن نعرف من النظرية النسبية أن الساعات المتحركة تسير ببطء، وأنها تسير بإيقاعٍ أبطأ عندما تتحرك مقتربةً من سرعة الضوء، وبالفعل عند سرعة الضوء يتوقَّف الزمان ساكنًا فتتوقف الساعة. يتحرك الفوتون طبيعيًّا بسرعةٍ تعادل سرعة الضوء، وهو ما يعني أن الزمن لا يعني شيئًا للفوتون. فالفوتون الذي يترك نجمًا بعيدًا ويصل إلى الأرض قد يستغرق في هذه الرحلة آلاف السنين إذا قيس ذلك بساعات الأرض، ولكنه لا يستغرق أيَّ زمن على الإطلاق بالنسبة إلى الفوتون نفسِه. وقد يكون الفوتون الموجود من الخلفية الإشعاعية الكونية من وجهة نظرنا قد قطع نحو ١٥ ألف مليون سنة من الانفجار الكبير الذي بدأ به الكون الذي نعرفه، لكن الانفجار الكبير وحاضرنا يعنيان الزمانَ نفسَه بالنسبة إلى الفوتون. وليس هناك سهمٌ في مسار الفوتون في شكل فاينمان، ليس فقط لأن الفوتون هو نفسُه جسيمه المضاد، لكن لأن الحركة عبر الزمان بالنسبة إلى الفوتون ليست ذات معنًى، ولهذا فإن الفوتون هو جسيمه المضاد.
فشل المتصوِّفون ومبسِّطو الأمور الذين يبحثون في مساواة الفلسفة الشرقية بالفيزياء الحديثة في الوصول إلى هذه النقطة، وهي النقطة التي تخبرنا أن كلَّ شيء في الكون، الماضي والحاضر والمستقبل، متصلٌ بكل شيءٍ آخر بشبكةٍ من الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي «يرى» كل شيء في اللحظةِ نفسِها. ومن الطبيعي أن الفوتونات يمكن أن تُخلق وأن تُدمَّر، ولذلك فإن الشبكة ليست مكتملة، لكن مسار الفوتون في الواقع خلال الزمكان ربما يربط بين عيني وبين النجم القطبي. ولا توجد حركةٌ حقيقية في الزمان ترى مسارًا يتطوَّر من النجم إلى عيني، هذا مجرد إدراك حسي من وجهة نظري. وهناك وجهة نظر أخرى لها نفس القدْر من الصلاحية ترى المسارَ سمةً أبدية يتغيَّر حولها الكون، وأحد الأشياء التي تحدُث خلال هذه التغيُّرات في الكون أنه قد توجد عينِي والنجم القطبي عند نهايتين متضادتين للمسار.
أجرى فرانك تبلر، عالِم الرياضيات الأمريكي الحساباتِ التي تبرهن على أن مثل هذه الحيلة ممكنةٌ نظريًّا. فمن الممكن تشويه الزمكان بواسطةِ مجالِ جاذبية قوي، وآلة تبلر الخيالية للسفر عبر الزمن هي أسطوانة ذات كتلة كبيرة تحتوي على مادةٍ تعادل ما في شمسنا معبَّأة في حجم طوله ١٠٠كم ونصف قطره ١٠كم وكثيف مثل كثافة النواة في الذرة، ويدور مرتين كل ملِّي ثانية، ويجر من حوله نسيج الزمكان. ويتحرَّك سطح الأسطوانة بسرعةٍ تعادل نصف سرعة الضوء. هذا نوعٌ من الأشياء التي لن يبنيها أكثرُ المخترعين جنونًا في ساحةِ منزله الخلفية، ولكن المقصود هنا أن ذلك مسموحٌ به بواسطة كل قوانين الفيزياء التي نعرفها. وهناك جسمٌ في الكون له كتلة شمسِنا نفسِها وكثافة نواة الذرة ويدور حول نفسِه كل ١٫٥ ملِّي ثانية، لكنه أبطأ ثلاث مرات من آلة تبلر للسفر عبر الزمن. ويُطلق على هذا الجسم «النابض ذو الملِّي ثانية» الذي اكتُشف سنة ١٩٨٢. ومن المستبعَد تمامًا أن يكون هذا الشيء أسطوانيًّا؛ فمن المؤكد أن الدوران الشديد قد جعله مسطَّحًا على شكل فطيرة. ومع ذلك، فلا بد أن يكون هناك تشويه غريب للزمكان بالقرب منه. وربما لا يكون الزمن «الواقعي» للسفر مستحيلًا، لكنه مجرَّد غاية في الصعوبة وغير محتمل للغاية. وهذه النهاية الهشة لما يمكن أن يكون وتدًا صُمِّم ليجعل اعتياد السفر عبر الزمن عند المستوى الكَمِّي، على كل حال، يبدو أكثرَ قبولًا قليلًا. وتسمح نظريةُ الكَمِّ والنظرية النسبية بنوعٍ أو بآخر من السفر عبر الزمن، وأي شيء مقبول لهاتين النظريتين لا بد أن يؤخذ مأخذَ الجِد مع ما يبدو عليه هذا الشيء من تناقض. فالسفر عبر الزمان في الواقع هو جزءٌ لا يتجزأ من بعض السمات الغريبة في عالم الجسيمات؛ حيث يمكن فيها أن تحصل على شيءٍ من لا شيء، إذا كنت سريعًا بما فيه الكفاية.
شيء مقابل لا شيء
في سنة ١٩٣٥، اقترح هيديكي يوكاوا الذي كان في ذلك الوقت يبلغ من العمر ٢٨ عامًا ويعمل محاضرًا في الفيزياء بجامعة أوساكا، تفسيرًا لكيفية تماسك النيوترونات والبروتونات في نواة الذرة بالرغم من الشحنة الموجبة التي تميل إلى تفجيرِ النواة بواسطة القوى الكهربية. ومن الواضح أنه لا بد من وجودِ قوةٍ أقوى تتغلب على القوى الكهربية تحت الظروف المناسبة. وتحمل الفوتونات القوى الكهربية، وقد أقرَّ يوكاوا بأن هذه القوى النووية لا بد هي الأخرى أن تكون جسيمًا. أصبح الجسيم يُعرف ﺑ «الميزون»، وذلك باستخدامِ قواعدِ الكَمِّ للنواة. والميزونات مثل الفوتونات، هي الأخرى بوزونات لكن بحركةٍ مغزلية مقدارها الوحدة وليس صفرًا، وتختلف عن الفوتونات في أن متوسط عمرها قصير جدًّا، ولهذا السبب فإنها لا تُرى خارج النواة إلا تحت ظروف خاصة. وفي الوقت المناسب، اكتُشفت عائلة من الميزونات ليست بالضبط كما تنبَّأ يوكاوا، لكن قريبة من تنبُّئه بما فيه الكفاية، لتبيِّن أن فكرة تبادل الجسيمات النووية للميزونات كحاملٍ للقوى النووية القوية تعمل بشكلٍ مشابه لتبادل الفوتونات كحامل للقوى الكهربية، وقد نال يوكاوا عن استحقاقٍ جائزةَ نوبل في الفيزياء سنة ١٩٤٩.
هذا التأكيد على أن القوى النووية، إضافةً إلى القوى الكهربية، يمكن أن يُنظر إليها استنادًا إلى التفاعلات فحسب بمثابةِ حجر الزاوية لرؤية الفيزيائيين في العالَم اليوم. وتُعدُّ كل القوى الآن تفاعلاتٍ.
ولكن من أين تجيء تلك الجسيمات التي تحمل التفاعلات؟ تجيء من لا مكان؛ أي التوصُّل إلى شيءٍ من لا شيء، وفقًا لمبدأ عدم اليقين.
وهكذا فإن البروتون هو مركزُ سحابةٍ من النشاط أكثر من الإلكترون. وفي حين يتحرَّك البروتون الحر في مساره عبر المكان (والزمان) فإنه يطلق ويعيد امتصاصَ فوتونات افتراضية وميزونات افتراضية. ولا تزال هناك طريقةٌ أخرى للنظر إلى هذه الظاهرة. تخيَّل أن بروتونًا واحدًا فقط ينبعث منه بيون واحد فقط ويُعاد امتصاصه. أمر بسيط. لكن لتنظر إلى ذلك بطريقةٍ أخرى: أولًا هناك بروتون واحد، ثم بروتون واحد وبيون، وفي النهاية بروتون واحد مرة أخرى. ولأن البروتونات جسيماتٌ لا يمكن تمييز بعضها عن بعض فإننا أحرار لأن نقول إن البروتون الأول قد اختفى وأعطى طاقةَ كتلته علاوةً على القليل الذي اقترضه من مبدأ عدم اليقين ليكوِّن بيونًا وبروتونًا جديدًا. وفور ذلك يتصادم الجسيمان ويختفيان ليكوِّنا في هذه العملية بروتونًا ثالثًا، وتحتفظ بتوازن الطاقة في الكون. ولماذا التوقف هناك؟ ولماذا لا يتنازل بروتوننا الأصلي عن طاقته مع القليل من الزيادة ليكوِّن نيوترونًا وبيونًا موجب الشحنة؟ هذا ممكن. ولماذا حينئذٍ لا يستطيع بروتون أن يتبادل هذا البيون الموجب الشحنة مع نيوترون «ليصبح» نيوترونًا، والنيوترون «يصبح» بروتونًا؟ وهذا أيضًا ممكن تمامًا، مثل إمكانية حدوث العمليات العكسية المتضمَّنة للنيوترونات و«هي تتحوَّل» إلى بروتونات وبيونات سالبة الشحنة.
بدأت الأمور تتعقَّد الآن؛ حيث لا يوجد أيُّ سبب للتوقُّف هنا. فبالمثل يمكن لبيون وحدَه أن يتحوَّل إلى نيوترون وبروتون مضاد، وذلك لمدة قصيرة قبل أن يعود مرةً أخرى لحالته الطبيعية، ويمكن أن يحدث هذا لبيون افتراضي، هو نفسُه جزء من نسق فاينمان المكوَّن من بروتون أو نيوترون. ويمكن لبروتون أثناء تقدُّمه في طريقه أن ينفجر لينتج عن ذلك شبكةٌ من الجسيمات الافتراضية تطن وتتفاعل جميعها بعضها مع بعض، ثم تخفت عائدةً إلى ما كانت عليه، ويمكن النظر إلى جميع الجسيمات كناتج اتحاد جسيمات أخرى متضمنة فيما أطلق عليه فريتوف كابرا «الرقص الكوني». ولم تنتهِ القصة بعد. وحتى الآن لم نحصل على شيء من لا شيء، مع أننا قد حصلنا على الكثير مقابل القليل. والآن دعونا ندفع الأمورَ إلى أقصى ما يمكن.
إذا كان هناك عدمُ يقين متأصل للطاقة المتاحةِ لجسيمٍ لفترة قصيرة كافية من الزمن، فمن الممكن أن نقول أيضًا إن هناك عدم يقين متأصل عما إذا كان الجسيم موجودًا أم لا في زمنٍ قصيرٍ كافٍ. وشريطة اتباع قواعد معينة مثل الحفاظ على الشحنة الكهربية، والتوازن بين الجسيمات والجسيمات المضادة، ليس هناك ما يوقف ظهورَ مجموعةٍ كاملة من الجسيمات من لا شيء يتَّحد بعضها مع بعض بعدَ ذلك، ثم تختفي قبل أن يلاحظ الكون ككل هذا التعارض. وقد يظهر إلكترون وبوزيترون من لا شيء على الإطلاق بشرطِ أن يختفيا بسرعةٍ كافية، ويمكن لبروتون وبروتون مضاد أن يفعلا الشيء نفسَه. ونستطيع القول بتحفُّظ شديد إن الإلكترون يستطيع فقط القيام بهذه الحيلة بمساعدة فوتون، وكذلك البروتونات بمساعدة ميزون ليقدِّما «التشتُّت» المطلوب. فالفوتون الذي ليس له وجود يكون زوجًا من بوزيترون/إلكترون يتلاشى بعد ذلك ليكوِّن الفوتون الذي كان قد كوَّنهما في بادئ الأمر، ولنتذكر: لا يعرف الفوتون الفرْق بين الحاضر والمستقبل. وكبديلٍ عن هذا، يمكن أن نتصوَّر الإلكترونَ وهو يقتفي أثرَ ذيله في دوامة من الزمن. يظهر أولًا قافزًا من الفراغ كما يخرج الأرنب من قبعة الساحر، ثم يرحل إلى الأمام في الزمن لمسافةٍ قصيرة قبل أن يلاحظ أنه أخطأ، معترفًا بعدم واقعيته فيعود مرة ثانية من حيث أتى — إلى الوراء عبر الزمن إلى نقطة البداية. وهناك يغيِّر من اتجاهه مرةً ثانية، وهكذا تتواصل الحلقة، وبمساعدة التفاعل مع فوتون — حدث تشتُّت عالي الطاقة — عند كل «طرف» من الحلقة.
ووفقًا لأفضل نظرياتنا عن سلوك الجسيمات، فإن الفراغ ما هو إلا كتلة مضطربة من الجسيمات الخيالية في حدِّ ذاتها، حتى إذا لم توجد جسيمات «حقيقية». وهذه ليست مجرَّد طنطنة عديمة الجدوى بواسطة المعادلات؛ لأنه من دون السماح لتأثير تلك التقلُّبات الفراغية، فإننا ببساطةٍ لن نصل إلى الحل الصحيح للمشكلات المتضمنة لتشتُّت الجسيمات حيث يشتِّت بعضها بعضًا. وهذا دليل قوي على أن النظرية — المبنية مباشرة على علاقات عدم اليقين، لو نذكر — صحيحة. فالجسيمات الافتراضية وتقلبات الفراغ أمرٌ واقعي كباقي نظريةِ الكَمِّ؛ واقعي كازدواجية الموجة/الجسيم، ومبدأ عدم اليقين، والفعل عن بُعد. وفي عالَمٍ مثل هذا ليس من العدل مطلقًا أن نطلق على لغز قطة شرودنجر أنه تناقض بالمرة.
قطة شرودنجر
إلا أن المفهوم الذي وراء هذه التجربة الذهنية بسيط جدًّا. اقترح شرودنجر أننا يجب أن نتصوَّر صندوقًا يحتوي على مصدرٍ مشعٍّ وكشاف لتسجيل الجسيمات المشعة (ربما عدَّاد جايجر) وزجاجة تحتوي على سمٍّ مثل السيانيد، وقطة حية. وقد رُتِّبت الأدوات في الصندوق بحيث يمكن تشغيلُ الكشافِ لمدة كافية فقط لتحقق فرصة ٥٠٪ أن تتفكك إحدى الذرات من المادة المشعة، وأن يسجل الكشاف وجود جسيم. وإذا سجَّل الكشاف مثل هذا الحدث فستنكسر الزجاجة وتموت القطة، وإذا لم يحدث فستعيش القطة. وليس لدينا أي وسيلة لمعرفةِ ما حدث في التجربة إلى أن نفتح الصندوق وننظر داخله، ويحدث التفكُّك الإشعاعي بالصدفة البحتة، ولا يمكن التنبؤ به إلا بالمعنى الإحصائي. وطبقًا لتفسير كوبنهاجن الصارم، وتمامًا كما في تجربة الثقبين؛ حيث تكون فرصة الإلكترون في المرور من أحد الثقبين متساوية، وينتج من هذين الاحتمالين المتداخلين تراكبٌ للحالات، وعليه فإنه في هذه الحالة تتساوى فرصة حدوث التفكُّك الإشعاعي وعدم حدوث التفكك الإشعاعي، ويجب أن يؤدي ذلك إلى تراكب الحالات. وتخضع التجربة بأكملها، القطة وخلافه، للقاعدة القائلة بأن التراكب حقيقيٌّ إلى أن ننظر إلى التجربة، وعند هذه اللحظة فقط من المشاهدة تنهار الدالة الموجية إلى إحدى الحالتين. وإلى أن ننظر إلى الداخل فهناك عينة مشعة قد تكون تفكَّكت أو لم تتفكك، وزجاجة بها سمٌّ مكسورة أو سليمة، وقطة حية وميتة، أو لا حية ولا ميتة.
يمكن أن نتصوَّر جسيمًا أوليًّا مثل إلكترون ليس هنا أو هناك، لكن في تراكبٍ ما للحالات، لكن يكون الأمر أكثرَ صعوبة أن نتخيل شيئًا مألوفًا مثل قطة في هذا الوضع من الحياة المعلَّقة. فكَّر شرودنجر في هذا المثال ليثبت أن هناك عيبًا في تفسير كوبنهاجن الصارم؛ حيث إنه من الواضح أن القطة لا يمكن أن تكون حية وميتة في آنٍ واحد. ولكن هل هذا أكثرُ «وضوحًا» من «حقيقة» أن الإلكترون لا يمكن أن يكون جسيمًا وموجةً في الوقت نفسه؟ لقد اختُبر الحسُّ السليم بالفعل كدليل للواقعِ الكَمِّي وتبيَّن أنه يُعوِزه الكثير. والشيء المؤكَّد الذي نعرفه هو أن عالِمَ الكَمِّ لا يثق بالحس السليم، ويعتقد فقط في الأشياء التي نستطيع رؤيتها أو تسجيلها بأجهزتنا دون لبْس. فلن نعرف ماذا يدور داخل الصندوق ما لم ننظر فيه.
استمر الجدل حول القطة في الصندوق لمدة ٥٠ عامًا. وقد قالت إحدى المدارس الفكرية إنه ليس هناك أيُّ مشكلة لأن القطة قادرة تمامًا على أن تقرِّر هي نفسُها ما إذا كانت حية أو ميتة، وأن وعي القطة كافٍ ليقدح انهيار الدالة الموجية. وفي هذه الحالة، أين سنضع خط النهاية؟ فهل النملة أو البكتيريا على علمٍ بما جرى؟ وإذا تحرَّكنا في اتجاهٍ آخر، وحيث إن هذه التجربة ليست سوى تجربة ذهنية فقط، فلنا أن نتصوَّر إنسانًا متطوعًا قد أخذ مكان القطة في الصندوق (يشار أحيانًا إلى المتطوع «صديق ويجنر» على اسم يوجين ويجنر الذي فكَّر بعمق حول تحويرات في تجربة القطة في الصندوق، وبالمصادفة كان يوجين صهر ديراك). ومن الواضح أن الإنسان في الصندوق ملاحظٌ واعٍ ولديه المقدرة من وجهة نظر ميكانيكا الكَمِّ أن يُحدِث انهيارًا لدالات الموجة. وعندما نفتح الصندوق مفترضين أننا محظوظون بما فيه الكفاية ونجد الإنسان ما زال حيًّا، فإننا سنكون متأكدين تمامًا أنه لن يشير إلى أي خبرة غريبة، بل إن الأمر ببساطة هو أن مصدر الإشعاع قد فشل في إنتاجِ أيِّ جسيم في الوقت المناسب. إلا أنه بالنسبة إلينا نحن الموجودين خارج الصندوق، الشيء الوحيد الصحيح حول ما يجري داخل الصندوق هو تراكب الحالات إلى أن ننظر داخله.
وسلسلة الأحداث بلا نهاية. تصوِّر أننا قد أعلنا التجربة مقدمًا إلى العالم الفضولي، ولكن لِنتجنَّب تدخُّل الإعلام أجرينا التجربة خلف الأبواب المغلقة. وحتى بعد فتح الصندوق وترحيبنا بصديقنا أو سحب الجثة من الصندوق إلى الخارج، لن يعرف مندوبو الإعلام في الخارج ما الذي يجري. فبالنسبة إليهم يكون البناء الذي به معملنا ككل في حالةٍ من تراكبٍ للحالات. وهكذا نعود إلى حالة تراجع لا نهائي.
لكن لنفرض أننا وضعنا مكانَ صديقِ ويجنر حاسوبًا. يستطيع الحاسوب أن يسجِّل المعلومات عن التفكك الإشعاعي أو عن عدم حدوثه. فهل يستطيع الحاسوب أن يُحدِث انهيارًا للدالة الموجية (على الأقل داخل الصندوق)؟ ولمَ لا؟ إلا أنه وفقًا لوجهةِ نظرٍ أخرى ما يهم ليس الإدراك البشري لما أسفرت عنه التجربة أو حتى إدراك أي مخلوق حي، لكن الحقيقة أن ما نتج عن هذا الحدث على المستوى الكَمِّي قد سُجِّل أو ترك تأثيرًا على العالم الماكروي. وقد تكون الذرة المشعة في تراكبٍ للحالات، لكن بمجرد «نظر» عدَّاد جايجر لناتج التفكك، تصبح الذرة مجبرةً على الوجود في حالة أو في أخرى؛ أي أنها تفكَّكت أو لم تتفكك.
وهكذا يكتنف تجربة القطة في الصندوق تناقض، على خلاف تجربة أينشتاين وبودولسكي وروزين الذهنية. فمن المستحيل التوافُق مع تفسير كوبنهاجن الصارم دون قبول «واقع» القطة الحية/الميتة، وقد أدَّى ذلك بويجنر وجون ويلر إلى أن يعتبرا احتمالَ أن العالم ككل ربما يَدين بوجوده «الواقعي» إلى حقيقةِ أنه قد يُشاهد بواسطة الكائنات الذكية فقط، ويرجع ذلك إلى تراجعٍ غيرِ محدودٍ للسبب والأثر. وأغلب تناقضات كل الاحتمالات المتأصلة في نظريةِ الكَمِّ تنحدر مباشرةً من تجربة القطة لشرودنجر التي تقف فجأةً مما يسميه ويلر تجربة الاختيار المتأخر.
الكون التشاركي
كانت هناك خطة تآمرية على ألا يتفقوا على الشيء المطلوب تخمينه، لكن كان هناك اتفاقٌ على أن كل شخصٍ عندما يُسأل فعليه أن يعطي إجابةً نزيهة تتعلَّق بشيء حقيقي يدور في ذهنه ويتوافق مع كل الإجابات التي طُرحت من قبل. وكلما استمر الحاضرون في اللعب أصبح الأمر أكثرَ صعوبةً للسائل وللمطروح عليهم الأسئلة.
ما علاقة هذا بنظريةِ الكَمِّ؟ مثل مفهومنا عن العالَم الواقعي الموجود هناك عندما لا ننظر إليه، تصوَّر ويلر أن هناك إجابةً واقعية للشيء الذي يحاول التعرُّف عليه. لكن لم تكن هناك إجابة؛ فكلُّ ما كان واقعيًّا هي الإجابات عن الأسئلة، بالطريقة نفسها التي يكون بها الشيء الوحيد الذي نعرفه عن عالَمِ الكَمِّ هو نتائج تجاربنا، وقد نتج جواب السحاب بشكلٍ ما نتيجةَ طرح الأسئلة، وبالمنطق نفسِه فإن الإلكترونات كانت نتيجةَ عمليةِ التحقُّق التجريبي الدقيق. وتُركِّز القصة على أن المحور الأساسي لنظريةِ الكَمِّ هو أنه ليس هناك ظاهرة أولية يقال عنها ظاهرة إلى أن تُسجَّل كظاهرة. وهذه الطريقة في التسجيل من الممكن أن تؤدي حيَلًا غريبة في مفهومنا اليومي للواقع.
وليوضِّح ويلر هذه المقولة أجرى تجربةً ذهنية أخرى، وهي تحوير لتجربة الشقين، وفي هذه النسخة من اللعبة ربط الشقين بعدسةٍ لتركيز الضوء المار خلال المنظومة، وجرى استبدال الشاشة القياسية بعدسةٍ أخرى تجعل الفوتونات القادمة من كلا الشقين تتباعد. وكل فوتون يعبر خلال أحد الشقين يتجه إلى الشاشة الثانية، ثم يحيد لوجود العدسة الثانية في اتجاه الكشاف الموجود إلى اليسار، إلى جانب أن الفوتون الذي يعبر خلال الشق الآخر سيتجه إلى الكشاف الموجود ناحية اليمين. وبهذا الإعداد للتجربة، فإننا نعرف أيَّ شق مرَّ خلاله كل فوتون. وبكل تأكيد فإن مثل تلك النسخة من التجربة التي نراقب فيها كل شق، لكي نرى كل فوتون يمر، تمامًا كما في حالة التجربة التي لو سمحنا فيها لفوتون واحد عند زمنٍ معيَّن أن يمر خلال الجهاز، فإننا من دون أي لبْسٍ سنحدِّد المسار الذي يتبعه الفوتون، ولا يوجد هنا تداخل لعدم وجود أي تراكب للحالات.
والآن فلنعدِّل في الجهاز مرةً ثانية. نغطي العدسة الثانية بفيلم فوتوغرافي على شكل شرائح طولية كتلك المستخدَمة في النوافذ. ويمكن إغلاق هذه الشرائح الطولية لتكوِّن شاشةً محكمةً تمنع الفوتونات من العبور خلال العدسة والحيود. أو يمكن فتح هذه الشرائح لتسمح للفوتونات بالمرور كما كان في السابق. الآن عندما كانت الشرائح الطولية مغلقة، تصل الفوتونات إلى الشاشة كما في حالة تجربة الثقبين الكلاسيكية. وليس هناك وسيلةٌ تدُلنا من أي الثقبين مرَّ الفوتون، ويوجد الآن نسقُ تداخل كما لو أن كل فوتون منفرد قد مرَّ خلال الثقبين في اللحظةِ نفسها. وهنا تظهر الخدعة في هذه التجربة. فليس من الضروري أن نقرِّر ما إذا كانت الشرائح الطولية مفتوحة أو مغلقة إلا بعد مرور الفوتون خلال الثقبين. فمن الممكن أن ننتظر حتى يمر الفوتون خلال الشقين، وعندئذٍ نقرِّر هل سنجري تجربةً يمر فيها الفوتون خلال ثقب واحد أو خلال الثقبين معًا. وفي تجربة الاختيار المتأخر هذه هناك شيء نفعله له تأثيرٌ لا يمكن تتبُّعه من حيث ما الذي نستطيع قوله عن الماضي. فتاريخ فوتون واحد على الأقل يعتمد على اختيارنا كيفيةَ إجراء القياسات.
إلى أي مدًى يمكن الدفع بهذا المفهوم؟ سيخبرك طهاةُ الكَمِّ السعداء، وهم يجهِّزون أجهزةَ الحاسوب، ويتعاملون مع المادة الوراثية، أن كلَّ ذلك ما هو إلا تخمينات فلسفية ليس لها أي معنًى في حياتنا اليومية في العالم الماكروي. ولكن كل شيء في العالَم الماكروي يتكوَّن من جسيماتٍ تخضع لقواعدِ الكَمِّ. فكلُّ ما نطلق عليه واقعًا يتكوَّن من أشياءَ لا نستطيع اعتبارها واقعًا؛ «أي خيار لدينا عدا أن نقول بطريقةٍ ما، ربما سنكتشفها فيما بعد، إن كل الأشياء لا بد أن تُبنى على إحصائيات للمليارات فوق المليارات لمثل أفعال مشاركة المشاهد؟»
واصل ويلر غيرَ خائفٍ إطلاقًا ليصل إلى الفقرة الملهِمة الهائلة (تذكَّر رؤيته حول الإلكترون المنفرد الذي ينسج طريقه عبْر الزمان والمكان)، وذهب إلى اعتبار أن الكون ككل دائرةٌ مثارة ذاتيًّا وتشاركية. وبدءًا من الانفجار الكبير حيث يتمدَّد الكون ويبرد، ثم بعد آلاف الملايين من السنوات ينتج كائناتٍ قادرة على مراقبة الكون و«فعل المشاهدة التشاركية — عن طريق آليةِ تجربةِ الاختيار المتأخر — ويعطي هذا بدوره واقعًا متشابكًا للكون، ليس الآن فقط، ولكن منذ بدايته.» وبملاحظة فوتونات الخلفية الإشعاعية الكونية، صدى الانفجار الكبير، ربما نخلق الانفجار الكبير والكون. فإذا كان ويلر على صواب، فإن فاينمان كان أكثر قربًا مما كان يتصوَّر من الحقيقة عندما قال إن تجربة الثقبين «تحتوي على الغموض الوحيد».
لقد هِمْنا في عالَم الميتافيزيقيا متتبِّعين ويلر، وإنني لأتخيَّل أن كثيرًا من القراء يعتقدون أن كلَّ ما تم يعتمد على تجاربَ افتراضية ذهنية، وبذا فأنت تستطيع أن تلعب أيَّ لعبةٍ تشاء، وإنه فعلًا لا يَهُمُّ أن تلتزم بأي تفسيرات للواقع. وما نحتاج إليه هو بعض الأدلة القاطعة من تجاربَ حقيقيةٍ نبني عليها حكمنا حول أفضل اختيار للتفسير من بين كل الاختيارات الميتافيزيقية المتاحة، وكانت تجربة أسبكت في بداية ثمانينيات القرن العشرين هي البرهانَ القاطع الذي أمدَّنا به؛ برهانًا على أن غرابةَ الكَمِّ ليست فقط «واقعًا»، بل يمكن مشاهدتها وقياسها.