الجزيرة الخضراء١
لم يكن من أغراضي في الرحلة المغربية أن أزور إسبانيا، ولكني بعد أن سِحْتُ في المنطقة، وشاهدت من أعمال الحكومة الحامية ما هو في دور الإنشاء، وما لا يزال عهدًا وأملًا، رأيت من الواجب عليَّ أن أقابل الجنرال فرنكو لأتحقَّق ما لاح لي — ولم أُخْفِهِ على القارئ — من أنوار وظلال الخطة المغربية الجديدة.
ولم يكن بحسباني أن الرحلة ستدوم شهرين، وتمتحن الأعصاب والعظم مني في أشد ساعات العمل تجوالًا وتفكيرًا، إنما كنتُ فَرِحًا بما تراكَمَ بين يدي من أسباب الدرس والكتابة، كما كنتُ مسرورًا بما مهَّدته الحكومة من سُبُل السياحة والعلم.
وها أنا ذا والرفيق البستاني على الدوام، نعود من تطوان إلى مطارها؛ لنطير هذه المرة في طيارة ألمانية إلى إشبيلية، لا تشبه طيارتنا الإيطالية في وجهها وأثاثها، وقد تشبهها باطنًا في الجهاز. إن على هذه الألمانية مسحة من العتق والقِدَم، لا تذهب بشيء من متانتها، وإن كانت المتانة غير معقودة بالراحة والهناءة.
ولقد أضحكني من قِدَمها — والمرجح أنها كانت في صباها للجيش — أن مجالسها القاسية مجهَّزة بالسيور، يشدها الركاب إلى أوساطهم إذا ما خطر لها، في منطقة من الرياح العاصفة، أن تعمل عملًا بهلوانيًّا، فتنقلب مثلًا ظهرًا لبطن أو جناحًا لدولاب!
هذه الطائرة الألمانية كانت قادمة من الجزائر الخالدات؛ حيث يغرِّد الكنار المسحور على أفنان الخمائل الدرية، وتركب القيان الساحرة مناكبَ الأمواج الزمردية — هي سجعة من السجعات، تغتفرها لنا المقامات.
فوق بحرين من الضباب والماء نطير غربًا معرِّجين عن جبل طارق. ليس الجناح أن يطرح ظله على هذا الجبل — جبل طارق؟ أستغفر الله؛ إنه لجبل جَانْ بُولْ، إنه لبريطانيا العظمى، هو وما فوقه من سماء البِر والتقوى. كيف لا، وللحصون كما للقديسين هالةٌ هي رمز القداسة وحرمتها، فلا تُمتهن من البَر أو البحر، ولا من السماء، إلا إذا كان المتجاسر عليها حاملًا حديدًا ونارًا؟ وما كان الألمان حاملين يومئذٍ غير السلام وأبنائه، فجنحنا ونحن فوق المضيق إلى الغرب فالشمال، فغدت مدينة الجزيرة تحتنا، والصخرة إلى يميننا تتحجب بالضباب.
الضباب، كنَّا على نحو ألف متر فوق بحره الفضي، وكان جوُّنا صافيًا، إلا غشاء منه يُحس به ولا يُرَى، فيحجب الشمس ولا يحجب نورها.
الضباب والأرض والسماءُ، ونحن بينها، منسلخون عنها، ومتصلون بها. نسير، نطير آمنين مطمئنين. نحن الصبية الجبابرة، أبناء العلم، ندرك حرفًا من الناموس، فنعقل يومًا في استعماله، ونجن أيامًا، نسالم هذه الأرض حينًا، فننثر عليها ماء الورد من عليائنا، وحينًا نرميها بالحديد والنار، والأرض تستمر في دورانها، ولا تبالي بحديدنا، ولا بماء الورد.
وهي تدور تحت الطائرة دوريتها اليومية والسنوية، فيسرع الضباب فوقها من الشمال إلى الجنوب، ونسبح نحن فوق الضباب من الجنوب إلى الشمال. حركات أربع متناقضات غير متنافرات، شمالية وجنوبية وشرقية، وحركة الأرض السنوية.
وأما الخط المستقيم، فهو يستحيل في غير الكوارث والخوارق، حتى في سقوط القنبلة المقذوفة من الطائرة الحربية. فلا بد من حدبة في طريقها، ولو صعد الضباب عموديًّا علينا بسرعة تلك القنبلة المقذوفة من علٍ، لما ترك لنا مجالًا للنظر بالخطوط واعوجاجها، ولو طرنا نحن عموديًّا بسرعة البرق، أو بسرعة النور، فقد نتغلب لحظة على عوامل الاعوجاج في الكون، فنعلو إلى حد الاختناق في الفضاء، أو نهبط وأنف طائرتنا في التراب أو بين الصخور.
قلت إنها — لا فض جناحها — من الطراز القديم، تعلن بسيورها الأخطار الكامنة للإنسان، وتمتحن المناعة والشجاعة فيه بما تيبسه وتضيقه في مجالسها، ولا تحرمه استماع موسيقى الكائنات في محركاتها.
فمن علو ألف وسبعمائة متر يجب أن نتصوَّرَ الحركات؛ لأننا قلَّمَا نشعر بها، اللهم إلا حين تنفصل قطع الضباب بعضها عن بعض، فتظهر من خلالها بقعة من الأرض الخضراء أو الدكناء، ويتبيَّن بالإضافة أن الضباب فوقها متحرك من الشمال إلى الجنوب — في حالنا الحاضرة — ونحن فوقه طائرون من الجنوب إلى الشمال.
وإننا لنشعر بذلك وندركه أيضًا عندما نرى خيال الطائرة على الضباب تحتها، ومع ذلك لا ندرك حقيقة السرعة ولا نشعر بها؛ فنظن أننا نطير طير الهون، والسبب في ذلك هو الفضاء حولنا، فليس فيه شيء جامد ساكن يصحِّح البصر المخدوع ويُنبِئ بالسرعة وحقيقتها الكيلومترية في الدقيقة. إنه — في حالنا الحاضرة — أربعة كيلومترات ويزيد.
ثم نتبيَّن، ونحن نهبط من عليائنا، طرق السيارات، وهي كظلال عمد البرق، وفيها الخنافس تدبُّ دبيبًا.
ثم نتبيَّن البيوت في الأرياف، والمواشي في الحقول، والدخان يصعد من مدخنة حمراء.
وبينا نحن نراقب التغيُّر في وجه الأرض وألوانه، يفاجئنا دولاب الطائرة بتحويلها إلى سيارة تدرج على الأرض دروجًا عنيفًا رجراجًا، فنتنبه للمطار؛ مطار إشبيلية.