نور الأندلس١
من حسنات الحياة والكفارات عن ذنوب الناطق بالضاد؛ الحجُّ إلى الحمراء التي قال فيها الشاعر:
ومن حظي أني كنتُ من الحاجِّين. زرت تلك البلاد المباركة في موسم ظننته أولًا موسم الأعياد، ولكني بعد أن طفت شوارع سفيليا — إشبيلية — وتنشقت هواءها، وشممت طيبها، وسمعت حمَّارها وفلَّاحها وشريفها يتغنون ﺑ «أندلثيَّا» — وهو يلفظون السين ثاء — ويناجون ربة السرور ليلَ نهار بعيونهم وبأرواحهم الخفيفة ساعة الأشغال، وبالعود والقانون ساعة اللهو والطرب؛ علمت أن عام تلك البلاد مواسم، وموسمها أعوام دون انقطاع.
فأندلُثيَّا بلاد الرقص والقمار، بلاد الكنائس وصراع الثيران، إنها قطب السرور في فلك الإسبان، بل هي في نظر الأندلسيين بلاد الله وحدها، وقد قال أحد ظرفائها: «خلق الله العالم في ستة أيام، ثم جلس في اليوم السابع في الأندلس ليستريح.»
على أن الزائر لا يرى حتى للخالق تعالى فرصة للسكون أو مجالًا للارتياح؛ فالكنائس مثل المقاهي والمسارح وبيوت الميسر، كلها أبدًا مفتوحة، تتمثَّل فيها الحركة الدائمة، والناس قائمون قاعدون يودِّعون عيدًا ويستقبلون عيدًا. ومن غريب الأمور أن حيث تكثر الأعياد تقل الصلاة؛ فالأندلسيون قلَّمَا يصلُّون رغم مواكبهم الدينية العظيمة وموسيقى كنائسهم الرهيبة الفخيمة، وقد يَحُول الجمال الظاهر في الاحتفالات دون الصلوات، وقد يستغني المرء أحيانًا بالحركة عن البركة؛ إذ لا وقت لمَن عيده دائم أن يحاسب نفسه، أو يحسد جاره، أو ينشغل بالتذمر والشكوى.
والذي يُخَيَّل لي أن الله بعد أن جلس في الأندلس يستريح، بارَكَها ثم هجرها! وأبناء البلاد حتى الآن يعيِّدون كتلاميذ المدرسة عند تغيُّب المعلم، وما أجمل ما فاح من تلك البركة، وما تجلى وما تجسَّد في تلك البقعة من الأرض! ففي سمائها وفي شمسها عرش للعيد وَهَّاج، وفي بساتينها وفي مروجها حلة للعيد لا تبلى، وفي هوائها جرثومة سحر تدخل قلبك فتسرع ترقص فيه حتى تستهويك وتستغويك فتخفف الروح منك إلى نقطة الدائرة في مدينة الطرب والسرور، فتسترسل مثل أبناء البلاد، وتسير معهم من عيد صغير إلى عيد كبير، إلى عيد أكبر، إلى عيد الأعياد في الربيع.
ثلاثة أبواب ينبغي أن تظل مفتوحة في وجه الأندلسي: باب المقهى، وباب اﻟ «كاسينو»، وباب الكنيسة. فهو إذا خسر في المقامرة يؤم الكنيسة أو المقهى حسب ذوقه وإلهامه؛ ليغيِّر من حظه. ولم أرَ ما سوى ذلك في تلك البلاد للهرب من الأعياد بابًا مفتوحًا، إلا إذا لجأ السئوم إلى الجبال، أو طفق يركض جنوبًا حتى قادش أو مالقة، فيعتصم هناك بالبحر، أو لبس قبع الخفاء الذي يجده في خزانة الغابر من الزمان.
لكن مهلًا! ففي قلب الأندلس ملجأ قلَّما يلجأ الأندلسيون إليه. هناك مقام لا تسمع فيه ضجة العيد، ولا تصل إليه أصداء الأغاريد، مقام، بل مقامات هي أجمل ما في الأندلس أثرًا وذكرًا، وقد كان لها من السرور أيام زاهرة، ومن الطرب ليالٍ باهرة عاطرة، ومن المجد أعلام وقباب ومعاهد وأنصاب، ما تبقى منها اليوم غير قصور متهدمة نبتت في جدرانها الأعشاب، ونظم العنكبوت مرثاته فوق النوافذ والأبواب، وجلس في عروشها العالية السكون، ودُفِن في جناتها المهجورة الشعر والأدب والفنون. وإنك لَتسمع لسكونها المهيب وخلوِّها من الأنس الرهيب همس الشمس، وهي تتمشى في عرصاتها، ووقع نقط الندى من أغصان الليمون والرمان على ورق الورد والبيلسان.
طلول كانت بالأمس معاهد وقصورًا، هي دائرة المجد وقطب الحبور، في قناطرها وقبابها وأبوابها صناعة دقيقة نادرة، وفي كل رسم من رسومها آية جمال تُدهِش حتى اليوم أرباب الفن، وفي كل بيت من الشعر على جدرانها درة من المعنى، أو زهرة من التقوى منقوشة في بلاط منقطع النظير لونًا وتذهيبًا.
هذي آثار العرب وقد أمست عروسًا لربة النسيان، ومدفنًا لمجد الزمان، وظلالًا تجلب الأحزان، وعِبرة بليغة للإنسان. وهي رغم ذلك بهجة للناظرين، ومصدر وحي لأرباب الفنون والمتفننين. ولكن الذكرى … لله من ذكرى تقبض على النفس فتجعلها كالجماد! لله من آثار تبتهج لمرآها العين فيذوب لمعناها الفؤاد! لله من بلد تغَنَّتْ بمكارمه كل بلاد! لله من عزكم ومجدكم ابنَ أمية وابن عباد وعبد الرحمن والمنصور والمعتمد، مَن شادوا معاهد العمل والدين! طالما اهتزت النفس لذكر مآثركم، وطالما وقفت العين شغفًا عند أسمائكم في التاريخ، وطالما تاقت النفس مني والعين إلى مشاهدة ما تبقَّى من تلك الآثار المجيدة. ها قد استُجِيبَتْ طِلبتي؛ فقد وطئت أرضًا عطرتها شمائل العرب، وجُلْتُ في بلادٍ عمَّرتها همم العرب، ووقفت أمام عروش هدمتها عصبية العرب.
سررت أني فزت بمهرب من العيد، فرحت كالهائم أنشد تحف النسيان بل مُخَبَّآت الزمان، وما البادي من أثر غير غلاف لكنز مكنون يستخرجه العلم وتجلوه الفنون. فمن قصر إلى برج، ومن برج إلى متحف، سرت كالهائم الولهان، نسيت العيد في القريب البعيد من الماضي المجيد، فمن اﻟ «هرلدا»؛ أي المئذنة التي شادها المهندس جابر للخليفة يوسف بن يعقوب، إلى برج الذهب الذي شاده ابن العلاء على ضفة الوادي الكبير، ومن البرج إلى القصر الذي لم يَزَلْ فيه زاوية عامرة يقيم فيها ملك الإسبان عندما يؤمُّ إشبيلية، ومن القصر إلى المتحف، وفيه من آثار الفنون والعلم ما يدهش. هذه أبواب خلاص من الأعياد … ولكن الفرح بالخلاص لا يلبث أن يزول، فيحل محله كآبة شديدة الوقع تكاد تشابه حزن المحب في فراق الحبيب. وفي مشاهدة الطلول والآثار يسترسل المرء الرقيق الشعور إلى مثل هذه العواطف، ومتى تكاثرت الأحزان واشتدت يقام لها في القلب عيد، فيضحك صاحبها وهو يبكي، ويردِّد الألحان وهو ينوح.
وقفت في تلك المئذنة القائمة إلى جانب كاتدرائية إشبيلية وهي أعظم كنيسة في أوروبا بعد كنيسة القديس بطرس في روما، فانكشفت تحت عيني مدينة هي مشرقية، بل مغربية في سطوحها البيضاء، وجادَّاتها العوجاء، وعرصاتها الخضراء، ومصاطبها الحافلة بالفل والقرنفل والمردكوش، وأهلها السائرين في الأسواق كأن لا شغل لهم غير شم النسيم وقطف الزهور؛ فتراءَى لي العيد ثانيةً كأنه يقول: لا مهرب لك مني وأنت في هذه البلاد! فحوَّلت نظري إلى القصر وبستانه الفسيح الجميل، ثم إلى البرج على ضفة نهر الكبير، فساح بي الفكر إلى الشام، إلى الكوفة، إلى الحجاز، إلى الحرمين. جالت بي الأحلام، فأدنتني من مجد العرب الغابر، بل مثَّلته أمامي حيًّا.
عرب الأندلس، عرب الشام، عرب العراق، عرب الهند. أيعرف بعضهم بعضًا اليوم إذا اجتمعوا في نجد مثلًا أو في الحجاز؟ وأي صلة بين بني عبَّاد في أوج مجدهم وبني أمية، وبين بني العباس وبني بربر المغول؟ بل أي صلة تصلهم كلهم بعرب الجزيرة؟ وأي من تلك الدول العظيمة يُدرِك سرَّها اليوم أبناءُ اليمن مثلًا، ويحترمون شارتها، ويؤمِّلون بتجديد عزها؟ أليس للعرب من الفكر نَيِّرًا إلا إذا احتكَّ بأفكار بعيدة غريبة؟ أَوَلَا يثمر النبوغ العربي إلا إذا لُقِّح بنبوغ أجنبي؟ هل الفضل ببغداد كان للبرامكة، وبالشام لبيزنطية، وبالأندلس للفرنجة، وبسمرقند للعجم، وبكشمير للهنود؟ فما السبب في مجدٍ شادَه أولئك العرب خارج الجزيرة؟ وما السبب في قِصَر عهده واضمحلاله؟
•••
زرت الأندلس حاجًّا لا باحثًا منقبًا، وعدت منها وفي نفسي بهجةُ مَن شاهد أجمل الآثار وحدَّث أفضل مَن في الديار.
فبعد أن شاهدت ما في إشبيلية من الآثار العربية والإفرنجية أيضًا، وأصبحت في محشر من الأعياد، قلت في نفسي: الهرب رأس الحكمة. فسافرت إلى غرناطة قاعدة الدنيا في ذلك الزمان وحاضرة السلطان، وأقمت في القصبة الحمراء أسبوعًا وددت لو كان أشهرًا، وكان قصدي أن أقيم ثلاثة أسابيع لولا دفُّ العيد وزَمْرُه.
فقد صادَفَ أن زيارتي كانت في الربيع، ولم يكن أهل غرناطة قد أقاموا بعدُ مهرجان أيار، عيد الأندلس العظيم — وهو شبيه بعيد النيروز عند العجم والعرب، وقد يكون أُخِذ عنهم — وكنت شاهدت في إشبيلية فاتحة ذا المهرجان الذي يدوم شهرًا كاملًا، وهربت منه كما قلت، ولكن الويل للهاربين؛ فها إنه لحقني بِخَيْلِه وَرَجْلِه، بخيامه ونوباته ومشعوذيه، بأعلامه وراقصاته وأغانيه، فهربت ثانيةً، تركت الحمراء وقصورها الحافلة بجيِّد الشعر في مدح ملوكها، وذكر مجالسها، ووصف جناتها وبركاتها، وسافرت إلى قرطبة مسقط رأس ابن رشد أبي الوليد؛ لأشاهد فيها الجامع الكبير الذي شيِّد، عهد عبد الرحمن الأول، مسجدًا صغيرًا، فنما والدولة نموًّا طبيعيًّا؛ إذ أضاف إليه خلفاء عبد الرحمن الأربعة أقسامًا كبيرة زادت بفخامته وجماله، وهو اليوم كنيسة قائمة على عُمُد الجامع القديم التي تتجاوز الألف.
وصلت إلى قرطبة مساءً، وأنا أحمد الله على خلاصي من المهرجان، لكني ما كدت أنزل من عربة السكة إلا ورب العيد والأغاريد والكابوس العنيد … فظننت أنها أصداء من غرناطة لم تَزَلْ ترن في أذني، فدخلت المدينة مستعيذًا مستسلمًا، فإذا بالأصوات وقد تضاعَفَتْ وتعدَّدَتْ وتجدَّدَتْ وتردَّدَتْ. لها غنات وهدير، غريبة الألحان والأغاني والضوضاء، وقد ملأت الفضاء وحيَّرَتْ حتى السماء، فلا زئير الأُسْد وقد خالطها صفير البلابل، ولا نهيق الحمير بين عجيج الثيران وصياح الديوك، ولا صدى المدافع وقد تخلَّلَها نعيق البوم وعواء الثعالب، ولا الأبواق وقد نفخت فيها القرود، ولا الدفوف في أيدي الجنود؛ بل كلها اجتمعت في قرطبة ضجيجًا وتصاعدت عجيجًا، كأنها ألحان من الجحيم. سددت أذني مستغفرًا الله مسترحمًا، فإذا بصوت يهمس فيها: يا هارب، يا جبان، هي نوبات المهرجان.
«عيد بأية حال عدْتَ يا عيد!» … أَلَا مهرب منك في بلاد الأندلس؟! أَلَا ملجأ للغريب فيها من نعيمك وخمرك وطبلك وزمرك؟! وقد زاد في الطين بلة أن المنازل والفنادق بسبب هذا العيد المبارك كانت كلها ملآنة، لا غرفة ولا فرشة ولا مسند فيها لغريب ولا لقريب.
فبعد أن جُلنا المدينة كلها أو ما تلألأ بالأنوار منها، وأجرة العربة تصعد كالزئبق في تموز، ودليلي الترجمان يحرك يديه ويهز كتفيه، شاكيًا خجلًا من ضيق بلده في وجه الزائر الكريم، وقفنا عند بوابة كبيرة إلى جانبها مصباح صغير ضئيل، فترجَّلَ الدليل، وقال كمَن أُنزِلَ عليه الوحي: «انزل يا سنيور انزل! سآخذك إلى بيت عمي، وهو بيت يليق بك.»
فنزلت والحقيبة بيدي، وكذلك قلبي، فمشيت وراءه، وكان المصباح عند الباب آخِر عهدي آنئذٍ بالنور. مشينا في زقاق ضيق لا يمكن أن يقع السائر فيه؛ لقرب حائطيه الواحد من الآخَر، إلا إذا وقع على وجهه أو ظهره، ومنه إلى ساحة منَّ عليهما ببعض النور مصباحٌ من شباك مفتوح. تنفستُ الصعداء، ولكننا لم ندخل الساحة إلا لنخرج منها إلى شبه جادة فيها شبه قنديل ظننته لبعده بصيص الحباحب، ولم نصل إليه لأتحقق ظني، بل سرنا يمينًا ثم شمالًا إلى زقاق آخَر مظلم، وقف الدليل فيه وقال: أعطني يدك! فأنزلني دَرَجًا درجاتُه مثلُ دكات لبنان متهدمة، وهو يقول: لا تخف وصلنا. وأنا أسائل نفسي: أيقيم عمه تحت الأرض؟
نزلنا الدرَج دون حادث يستوجب عناية طبيب، فانبسطت أمامنا طريق شعَّ فيها ما كدنا نسيناه من حقيقة النور. مشينا مسرعين، فإذا هناك مصباح لا ريب فيه فوق باب مفتوح، دخلناه كأنه باب الجنة، وسرنا إلى فِناء الدار فكانت عامرة بالأنوار، فيها أقفاص تغرد فيها الطيور، ومستنبتات نوَّرَتْ فيها الزهور، ولكن الدار خالية من الإنس، وقد كان أهلها في المدينة يعيدون، ما سوى رب البيت وهو شيخ جليل، فتقدَّمَ يتأهل بالغريب وبالدليل.
تكلَّمَ الدليل فابتسم الشيخ، وسار وهو يشير أن أتبعه، فأدخلني غرفةً صغيرة لا نافذة فيها ولا شباك، إلا أن في بابها — وهو قبالة الحوض من الفِناء — ثقوبًا تؤذن بدخول الهواء وصوت خرير الماء، وبعد المساومة — لا ضيافة في الأندلس اليوم — سألني الشيخ عن أصلي. فقلت: عربيٌّ، فهشَّ وبشَّ، ونادى قريبه وهو يشير إلى قلبه ويقول: كلنا هنا عرب. إلا أنه تقاضاني أجرة الغرفة ثلاثة أضعاف إكرامًا للعيد، وقبض القيمة سلفًا إكرامًا — على ما أظن — للعرب.
وبعد حديث كان الترجمان صلته، علمت أن الشيخ ممَّن يعجبون جدًّا بعرب الأندلس، وإن كان لا يعرف للضيافة معنًى، ويعرف للمال ألف معنًى. فهو في هذا مثل كل الإسبان، بل مثل أكثر الأوروبيين اليوم، وهو من القليلين في الأندلس الذين يفرِّقون بين العرب والمغاربة، أو بين مَن جاء من بر الشام ومَن جاء من أفريقيا؛ فلا يقول «مورو» إذا أراد أن يقول «عربي»، والعكس بالعكس. وهو يفضِّل الأمويين على سواهم، ويعجب بما كان لقرطبة في عهدهم من الشهرة والمنزلة في العلوم والفنون. وأخبرني أيضًا أن له ولعًا في درس الآثار، وبالأخص آثار قرطبة العربية، ودلَّني إلى بيوت في المدينة لا ذِكْرَ لها في كتاب الدليل حيث تُشاهَد فيها نماذج من البلاط الزليجي؛ أي المزجج المذهَّب.
ولم يخطر ببال الشيخ — وقد أطلق لِلِّسان العِنان — أن قد أكون تَعِبًا نَعِسًا من السفر والضجر، فقد سُرَّ بغريب الصدفة، واسترسل في سروره، ودعاني إلى رَدهة الاستقبال ليريني أثرًا جميلًا نادرًا، وحقًّا إني انتعشتُ بما شاهدتُ، فتجدَّدَتْ فيَّ الرغبة بالسهر والحديث. كيف لا والأثر عربي، ذكَّرني بما قرأته مرة عن أحد الأولياء، وكان قد مَرَّ بالزهراء قصر المنصور، فقال: «يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك في كل دار!» ولم يكن بعد دعوته إلا أيام يسيرة حتى «نُهِبت ذخائرها، وعَمَّ الخراب سائرها».
وهاك أثرًا جميلًا من ذاك الخراب في تلك الردهة الأوروبية الفرش والبناء. على الجدران الأربعة زُنَّار من البلاط الزليجي منقوش فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله على نعمة الإسلام.»
وكذلك نتف من الشعر مفكَّكة الألفاظ، مقطَّعة المعنى، سألني الشيخ قراءتها وترجمتها، ففعلت طاقتي، فهَزَّ رأسه موافقًا وسُرَّ جدًّا، ثم قال: وعندي أثر آخَر يهمك. وحمل القنديل الذي كان على الرف، وخرَجَ يتقدمنا إلى زقاق خارج الدار، وهناك في حائط ظاهره قديم حجرٌ منقوش فيه «رشد»، وقد كاد يمحو الأحرفَ الزمانُ، فقرأتها مدهوشًا، فهَزَّ الشيخ رأسه، وقال: لا شك عندي أن هذا بيت آفِرُّوس — أي ابن رشد — الذي كان يعلِّم الفلسفة في كلية قرطبة.
والأغلب أن بيت الفيلسوف وبيوت كبار المسلمين أُصِيب بما أُصِيبت به قصور السلاطين، فتبعثرت حجارته، ورسا في ذا الجدار بعضها، ولكني لم أحاول أن أزعزع رأي الشيخ أو أفسد ظنًّا له فيه فخر، فقلت: وهل هذه الدار قديمة؟ فقال: الغرفة التي تنام فيها هي أقدم ما في الدار بناءً، وهذا الحائط من حيطانها.
عدت إلى غرفتي، وأنا لا أدري أني دُرت مع الشيخ حولها، فدخلتها والهواجس تملك نفسي وتتجاذب الفكر مني. نعم، إن ما شاهدته لتافه جدًّا بالنسبة إلى الفخامة والعظمة في قصور إشبيلية وغرناطة، ولكن العين لا ترى ما تراه النفس، وقلَّمَا تحسب للرؤيا حسابًا. إن ثلاثة أحرف عربية منقوشة في حجر لِشِبْه نافذة في غرفة صغيرة، أرتني — بل قرَّبت منِّي — ذلك العهد القديم المجيد.
قد يكون هذا البيت بيتَ ابن رشد! قد تكون هذه الغرفة، وهندستها عربية، غرفةَ ابن رشد الخصوصية! أضغاث أحلام! قد يكون الحجر من حجارة قبر ابن رشد، فالإفرنجة هدموا وبعثروا حتى قبور المسلمين. اعترتني الرعشة من ذي الذكرى.
على كل حال وجدت نفسي تلك الليلة في دار لم تزل الروح العربية حية فيها، الروح الخالدة في الشعر وفي العلم وفي الفنون، الروح الحافلة بمصابيح من النور كابن رشد، والإدريسي، وابن العوام أبي زكريا، والخلف أبي القاسم، وابن زيدون، وابن الخطيب، وأصحاب الموشحات.
ها إن آثارهم أمست في كل دار من دور الفرنجة، وهم أو أبناؤهم اليوم من المعجبين بهم، ففي قلب الأندلس روح العرب خالدة، ولكنَّ مُلكًا شيَّدوه أمسى أثرًا من الآثار، ومجدًا أقاموه استحال طللًا من الأطلال، ومعاهد عِلْم أسَّسوها لم يَبْقَ منها حجر على حجر، إلا ما استقَرَّ — بعد انفجار بركان التعصب — في حائط جديد أو في بيت حقير مجهول.
فما السبب يا تُرَى في سقوط ذلك الملك الذي شعَّت أنواره في ظلمات أوروبا كنجوم البادية في الدجى؟ وما السبب في اضمحلال أركانه وأصوله؟ ما السبب في قِصَر عهده وزوال مجده؟
أقفلت الباب ونزعت ثيابي وأنا هدف لمثل ذي التساؤلات، ثم أطفأت الشمعة، وسرت إلى السرير مضطرب النفس أعلِّلها بالنوم، ولكني توسَّدتُ الأرق وأن أسمع خرير الماء في فِناء الدار، وأرى منعكسًا على الحائط نقطًا من النور الذي دخل متكسرًا من ثقوب الباب، وما هي إلا هنيهة حتى بدأت تلك النقط تمتد، فاتصل بعضها ببعض، وأصبحت كدائرة وهي ترتج وتتحرك. نهضت من السرير لأرى ما في الدار، فتحت الباب وخرجت مستكشفًا، فإذا هناك مستنبتات الزهور والشاذروان والأقفاص والعصافير فيها نائمة، ولا نور غير ما يشع من المصباح في الإيوان. عُدت إلى غرفتي وأنا أظن أن ما بدا لي إنما هو خدعة البصر، فإذا بالنور، بعد أن أقفلت الباب، قد أحاط بالكرسي كالهالة، واستحال دفعة واحدة شخصًا هيوليًّا، بل رأيت — جالسًا أمامي — شيخًا جليلًا يشبه صاحب البيت، إلا أنه لابس جبة وعمامة.
ذعرت وهممت بالخروج، فسارَعَ مُطمئِنًا وقال بالعربية: السلام عليكم.
فقلت: ورحمة الله وبركاته، أيتفضل سيدي الشيخ باسمه الكريم؟ فقال: ابن رشد يدعو لكم بالخير وطول البقاء.
– أبو الوليد؟
– بعينه.
– ولِمَ استحققتُ من فضلكم ذي الزيارة؟
– فكَّرْتَ يا ريحاني وسألتَ، فجئتُ أجلو فكركَ وأجيب سؤالكَ.
– غمرتني والله بفضلك.
– الفضل لذويه أرباب الفكر والرؤيا، ولستُ اليوم منهم.
قال ذلك وهو يهز رأسه كمَن تؤلمه الذكرى.
– ولكن زَيْتك يا سيدي لم يَزَلْ يشتعل في مصابيحهم.
– نعم، في مصابيح الفرنجة لا العرب، والسبب في ذلك أن قد امتزَجَ بزيتنا كثيرٌ من الماء، ولم يُحسِن العرب تصفيته مثل الفرنجة. أجل، قد خالَطَ علومنا كثير من الخرافات والتقاليد والأوهام، نظرنا إلى العالم خلال ستار هو الإسلام، كان شفافًا باهرًا في الأحايين كحالة قرطبة عهد بعض الأمويين، فتراءت لنا، من حقيقة الوجود والكون، أشياء جُلِّيَّ بعضها وبعضها غامضٌ أو مقطع، فاستخدمنا منها ما استطعنا وأهملنا منها ما أهملنا، كرهًا أو جهلًا، ما خالف قواعد الدين. لا يخدعنك ما تقرؤه في التاريخ عن تساهل الخلفاء في الأندلس وحلمهم، فإنهم — ما خلا اثنين أو ثلاثة — آثروا الملك على العلم، والسيادة المطلقة على الحرية والعدل. كان أكثر العلماء والشعراء يأتمرون بأمرهم ويتزلفون إليهم، فجاء علمهم ناقصًا، بل مزيجًا من العلم والخرافة والخيال، وكان الفيلسوف الحقيقي مكروهًا، فجارَى ودارَى اتقاء سيادة مطلقة، جائرة، عمياء. ولا شك أنك تعلم ما كان من إحراق الكتب في هذه المدينة في عهد المنصور، ثم في عهد أولئك البرابرة المرابطين، حتى إن أحد قضاة قرطبة أصدر فتواه بإحراق كتب الغزالي، وحرَّمَ قراءة «إحياء علوم الدين»، مع أن الغزالي من أكبر المزَّاجين. هذا أحد الأسباب في سقوط الملك العربي في الأندلس.
– وهل يرى سيدي الأستاذ خيرًا في عصبية كبرى تجمع عصبيات أكثر الناطقين بالضاد مثلًا؟
– وهل لعرب الجزيرة أمل بالترقِّي والتمدُّن؟
– لا أمل ما دامت العصبية أساس أعمالهم؛ فالعصبية من أهم الأسباب في سقوط العرب في الأندلس وفي الشام وفي العراق وفي الهند. قد جاءوا هذه البلاد مثلًا ومعهم نزعاتهم اليمنية والمضرية والقيسية والشامية، وما مرَّ عشرون سنة حتى اشتعلت الحرب بين قحطان ومضر، وكانت أول حرب أهلية في الأندلس، وأخذت هذه الروح العصبية تمتد بامتداد الملك، فكان ملكًا واهيًا متزعزعًا. لقد تفكَّكَتْ أوصاله، فكان في «المرية» ملك، وفي «مرسيا» آخَر، وفي «غرناطة» سلطان، وآخَر في «إشبيلية»، وهم يتقاطعون ويتطاحنون، فجاء يوسف بن تاشفين البربري، فاغتنم فرصة خلافهم ونزاعهم فسَادَ، ثم اعترى قوم يوسف ما اعترى سلفاءه، فتعاون الفرنجة عليهم فتغلَّبوا وسادوا. كذلك كان في دولة المغول في الهند، فإن نزعاتهم القومية تغلَّبَتْ عليهم، فمهَّدتِ السبيلَ لتغلُّب أمراء الهند على ملكهم العظيم القصير العهد.
وأطرق الشيخ عندئذٍ ثم قال: إن للعرب فضلًا لا يُنكَر، وإنْ بالَغَ الناس بذكره، وقد سمعتك تسائل نفسك سؤالات يُشتَمُّ منها إنكار هذا الفضل. أنت مُصِيب في قولك: إن نبوغ العرب قلَّمَا يثمر إلا إذا احتكَّ بنبوغ غيره من الشعوب. ولكن هذا الاحتكاك لم يذهب بميزة النبوغ العربية، بل أظهرها قوية نيِّرة مشعشعة، أخفت في نورها الباهر ميزة النبوغ الأجنبي، ونور العرب شديد التوهُّج، جميل الأشعة، سريع الانطفاء، والصبغة العربية أو ميزة النبوغ الخاصة بالعرب ثابتة في الصناعات والفنون. فإذا كان للرومان فضل في تَدْمر، ولبزنطية فضل في الشام، ولبني ساسان والبرامكة فضل في بغداد، وللفرنجة فضل في قرطبة، وللهنود فضل في كابول؛ فذلك لأن النبوغ العربي بعث ما دُفِن من علومهم وفنونهم، فأضاءها وأحياها، وأعاد إلى مدنياتهم مجدها، وقد تَجَلْبَبَ جلبابًا عربيًّا فخيمًا. إن النبوغ العربي استولى في الماضي على النبوغ الأجنبي، فاستخدمه وانتفع به، وهو اليوم واقف بين قوات من النبوغ الأوروبي عظيمة لا يستطيع اقتحامها.
– وهل يستطيع الانتفاع بها مع حفظ الميزة العربية فيه؟
– نعم، إذا كان العرب يدركون أسباب سقوطهم في الماضي فيتقونها.
– وهل لسيدي الشيخ أن يذكر غير ما ذكر من أسباب السقوط؟
– قد أشرت إلى العصبية الدينية، فأزيدك إيضاحًا، واعلم رعاك الله أني أتكلم الآن مسلمًا، وإنْ كنَّا في العالم الخالد مجرَّدين تمامًا من صبغات الأديان كلها، أتكلم الآن مسلمًا؛ لأني لم أزل أذكر القوم الذين كان الجسد منهم، وأقام بينهم فترة من الزمان، ولم أزل أنظر إلى تلك الذاتية الإسلامية كمَن ينظر إلى خيال الحبيب في بحيرة الذكرى. على أني لو عدتُ اليوم إلى الحبيب، فلا أظنني أكون من الراغبين فيه المعجبين به. لا يُدهشنَّك ما أقول؛ فإن الاسلام اليوم لم يَزَلْ كما كان يوم كنتُ أعلِّم الفلسفة في كلية قرطبة، إسلامًا في الدين وفي السياسة وفي الاجتماع. إن النبي أول مَن شاد العصبية العربية على هذه الأركان الثلاثة، لكن خلفاءه أساءوا الاستعمال، فكان أنَّ الخليفة رفع صولجانه فوق الأرض ومده إلى السموات، وفي الجمع بين السلطتين السياسية والروحية إفساد للاثنين، وهذا الخلط في الأحكام مثل الخلط في العلوم، يبدو القبيح فيه أولًا فينمو سريعًا فيفسد الصحيح، ولو سُئل النبي في ذا الخلط لما كان عنه اليوم راضيًا.
– وهل يرى سيدنا الشيخ في جوهر الدين خلاصًا للناس من شكليات الأديان وسيادات الدنيا؟
– إن نظر الإنسان محدود، كذلك نظر الأرواح، على أن آفاقنا على كل حال أوسع جدًّا من آفاق الأحياء حتى الصالحين المقربين منهم؛ فالمسافة بين جرم وآخَر عندنا كالفرسخ مثلًا عندكم. ويصح هذا القياس في المعنويات أيضًا؛ لذلك أقول، إجابةً لسؤالك: إن كل ما ظهر في العالم حتى اليوم من حقائق الاجتماع والسياسة والدين، إنما هو خاضع لناموس التطور والتحول، ناموس النشوء والارتقاء، وهذا الناموس صحيح في الطبيعيات وفي الاجتماعيات وفي الروحيات أيضًا، صحيح على قدر ما نرى الآن. وقد يسلك بنو الأرض وكل حي فيها سبيله ألفًا بل ألوفًا من السنين، فيصلون إذ ذاك إلى حيث ينتهي السبيل ويبتدئ سبيل آخَر قد يكون أوسع منه وأطول. إن الله لا يكشف لسكان الأرض من أسرار الوجود إلا ما كان موافقًا لحال الإنسان المادية والروحية، والكشف يكون بالنسبة إلى الرقي في الحالين. إنه تعالى مقيم الحدود وعالم بها، فلا يقدِّم لكم في الأرض من حقائبه إلا ما تستطيعون هضمه واقتباسه، فلو أُعلِمتم مثلًا ما قد يكون حال البشر بعد ألف سنة، لما كنتم بذا العلم راضين؛ لأنه إذا أُنبِئتم بحال أحسن كرهتم ما أنتم فيه، وإذا أُنبِئتم بسوء المستقبل أسأتم إلى الحاضر باسترسالكم إلى الشهوات واللذات، فتفسدون حسناته الحقيقية على قلتها. وحالنا نحن عالم الأرواح شبيه نوعًا بحالكم، إلا أن حدود الإدراك عندنا أبعد من حدودكم؛ لذلك أقول إن ناموس النشوء والارتقاء اليوم أمامكم وحولكم وفوقكم وفيكم، فادرسوه وافقهوه وانتفعوا به، ولا تمدوا أيديكم إلى ستار الأسرار إذا رأيتموه يتحرك، بل كونوا متيقظين متبصرين، راغبين بكل مظهر من مظاهر الحقيقة والوجود، تائقين إليها، وانبذوا من ثمار البارح ما لا يليق بمائدة اليوم.
وما كاد يُنهِي كلامه حتى زال النور دفعةً واحدة، إلا نقطًا كانت تهتز فوق كرسي فارغ، وقد انعكست على الحائط خلال الثقوب في الباب.