الأندلس
يقول علماء الجيولوجية: إن الأرض التي تُدعَى اليوم الأندلس هي الجزء الأخير من شبه
الجزيرة الإيبرية الذي قُذِف به من جوف البحر إلى ما فوق المياه في الدور الجيولوجي الثالث
Tertiary period وبعده.
١
وإن شبه الجزيرة هذه، التي كانت مغمورة بالمياه حتى ما وراء جبال أفريقيا الشمالية،
كانت
في شكل ساعة رملية، يصل طرفيها الكرويين عنق دقيق، فدُقَّ هذا العنق — انكسر — في صعود
«الساعة» من البحر، خلال انفجارات بركانية، وتفتت صخور نارية في قعره، فتكوَّن بين البحرين
الممرُّ الذي يُدعَى اليوم مضيق جبل طارق.
وإن الضغط الناشئ عن ذلك التفتُّت وتلك الانفجارات كان يختلف قوة ودفعًا، عملًا بمدى
التفتُّت وعنف الانفجار، فتبرز الأرض فوق المياه بسائط منخفضة في بعض الأحايين، ورُبًا
وتلالًا وجبالًا في بعضها الآخَر؛ فتبدو متدرجة، وتبدو متقطعة، بأنجاد وأغوار، وأودية
وبطاح، كهذه الأرض التي نحن الآن فيها، الكائنة بين جبال مورينه اللاصقة بها شمالًا،
وجبال
إسبانيا الجنوبية العالية؛ أي جبال
نافادا Sierra de Navada، وفيها القنة العليا التي تبلغ ثلاثة آلاف ومائتي متر فوق سطح
البحر.
وهذه البلاد، الأندلس، تُقسَّم جغرافيًّا إلى قسمين: الأندلس العليا والأندلس السفلى.
فالعليا هي شمالي الوادي الكبير، والسفلى جنوبيُّه، وهي وأفريقيا الشمالية، كما أنهما
وسوريا، في الإقليم الواحد، فتتشابه في الجفاف الصيفي، وفي الاعتدال كل فصول السنة، وفي
النباتات والأطيار.
هذه الأرض الخصبة الناعمة الجوانب والرُّبا يشقُّها النهر الذي أسماه العرب الوادي
الكبير، وهو وواديه آخِر ما برز فوق المياه، إذ كان الضغط تحتها قليلًا؛ لذلك لا يعلو
عن
البحر في أعلى مكان من أكثر من مائة وخمسين مترًا.
وإن الوادي الكبير هذا لأكبر نهر في إسبانيا بعد نهر إبرة، فهو ينبع في جبال قزَورلا Casorla، ويجتمع إليه أنهر عدة صغيرة، تجري من سفوح جبال
مورينه، أعاليه هائجة صاخبة، ولكنه يصل إلى قرطبة هادئًا، ويجري في البسائط متسعًا مرتاحًا،
فيصلح للملاحة الشراعية إلى إشبيلية، حيث السفن التجارية المعتدلة الحجم تبحر منها إلى
خليج
قادش فالبحر الأطلنتيق. وهذا النهر عرضة للفيضان المفاجئ السريع، من ذوب الثلج على الجبال،
فيبلغ علوه — على ما يقال — ثمانية أمتار. شاهدته مرة في إشبيلية، في ربيع سنة ١٩١٧،
يوم
بلغ ارتفاع المياه خمسة أمتار، فاستحالت أسواق المدينة أَنْهُرًا، وساحاتها بحيراتٍ.
كانت الأندلس أيام العرب تنحصر في إشبيلية وقرطبة وجيان وغرناطة وملحقاتها، وهي تُقسَّم
اليوم إداريًّا إلى ثماني ولايات،
٢ أما اسمها فقد اختُلِف في تفسيره، فقيل إنه محرَّف من وندالسيا
Vandalicia نسبةً إلى شعب الوندال، أو إلى اسم الميناء
الذي عبروا منه البحر إلى أفريقيا؟ وقد قال بعض علماء الفرنجة إنها عربية الأصل معناها
أرض
المغرب، وهذا مستغرب! إلا أن في «القاموس»، مادة دلس: أدلست الأرض؛ أي اخضرَّت بالأدلاس،
جمع دلس، وهو نبت يورق آخِر الصيف. فهل يصح الافتراض أن العرب اشتقوا من أدلس فعلًا
للمطاوعة أندلس، ثم قالوا: الأندلس؟ إن لاخضرار الصيف في آخِر الصيف، بعد جفاف بضعة أشهر،
بهجة تؤهِّلها لاسم خاص بها، ولكن بهجة الاخضرار دائمة في الفصول الأربعة؛ لأن أكثر هذه
الأرض مغروسة بالزيتون.
قال أحد علماء المسلمين إن النصارى حُرِموا جنة الآخرة، فأعطاهم الله جنة الدنيا؛
أي
الأندلس. فلا ريب في النصف الأخير من هذه الكلمة، ولا عيب في النصف الأول إن كان الحارم
الله.
فبعد أن خرجنا من المضيق المشهور في الطرف الشرقي من جبال مورينه، وشرعنا نهبط إلى
السهول، تغيَّرَ كل شيء؛ الأرض والهواء والنبات وطبائع الناس.
مررنا بقصور متداعية كانت للعرب، وبأبراج بُنِيت في عهد الأمويين، فوصلنا إلى القرية El Carpio التي هي على الحدود بين الأندلس العليا والأندلس
السفلى، بعد أن هبطنا من علو ثمانية آلاف متر عند سنتَالينة Santa Elena، إلى نيف ومائة متر فوق البحر عند قرطبة. وقبل أن ندخل العاصمة
نمر بالمدينة الجديدة، التي تُدعَى باسم أختها العربية القديمة؛ أي الزهراء Mediva Azahra، مررنا بها ساعةَ كانت الشمس ترشقها بسهام
الهجيرة، فكادت أسواقها تخلو من الناس.
وقفنا في قرطبة للزيارة، وفي قولي قرطبة أقول: الجامع الكبير؛ ذلك الأثر التاريخي
الديني
الفني النادر النظير في العالم.
٣
زرت الجامع سنة ١٩١٧، فكانت دهشتي في هذه الزيارة الثانية عظيمة؛ في زيارتي الأولى
كان
الجامع كنيسةً بأجمعه أو كنيسة تكتنفها من الجهات الثلاث مجموعة من الكنائس الصغيرة،
مثل
الكاتدرائيات الغوطية، وكان السقف بروافده محجوبًا بسقف من الجص مبيض، وكانت قواعد العمد
مدفونة تحت البلاط. عظمة تُذَل بالفأس والمعول، جمال يشوَّه باسم الدين، روعة تُكفَّن
بالجص، وتُقبَّح بتماثيل تافهة من الجفصين.
رُوِي أن الملك شارلس الخامس قال يوم زار الجامع بعد أن استولى المسيحيون عليه: لو
كنتُ
عالمًا بما عزموا على عمله لما أذنت به؛ لأن ما بنيتم موجود في كل مكان، أما ما هدمتم
فمنقطع النظير في العالم.
وبعد ستمائة سنة قامت الحكومة الإسبانية تُصلِح ما أفسده النصارى الأقدمون؛ فقد أخرجت
من
وراء الجص أمثلةً من الروافد المنقوشة الملونة، وقد كادت تبلى من ظلمات الجهل والتعصُّب،
وراء ذلك السقف السمج، إلا أنه لا يزال للفن — شكلًا ولونًا — أثرٌ فيها، فباشَرَ الصُّناع
عمل الروافد الجديدة الشبيهة بها بالنقوش والألوان الأصلية، وكانوا قد أنجزوا جزءًا من
ذلك
السقف، فأعادوا إليه جماله القديم، وهو إلى جنب ما بقي من السقف الأمسح المبيض، آية من
الحسن والبهاء.
وممَّا عملوه لإتمام المنبر الفني أنهم حفروا حول قسم من العُمُد، نحو نصف ذراع، فبدت
قواعده الجميلة، وأعادوا التبليط في مستوى الأرض الجديد.
وأهم من كل ذلك أنهم نزعوا من جوانب الجامع تلك المذابح، أو الكنائس الصغيرة، التي
كانت
تزيد في تشويهه.
أما القنادل، تلك المئات التي تنوِّر الجامع فتزيد بروعته وجلاله، فلم يَبْقَ منها
غير
قنديل واحد كبير من النحاس المطرق، يزيِّن اليوم القسم الذي لا يزال كنيسة تقام فيها
الصلاة.
وكان أناس ساعة زيارتنا يصلون، وأناس من العمَّال في ناحية أخرى من الجامع يعملون
في
تجديده. وقد قيل لنا إن العمل سيتم بنقل هذه الكنيسة، فيغدو الجامع أثرًا من الآثار العربية
الخالدة، أثرًا للزيارة والعلم فقط، كالحمراء في غرناطة، والصومعة في إشبيلية.
إن أجمل بقعة في الأندلس هي هذه التي بين قرطبة وإشبيلية، كنا نرسل النظر في الآفاق
البعيدة المشرقة، والأرض بيننا وبينها تتموج ألوانًا بما في حقولها ورباها من البقع
المزروعة والمحصودة، البقع الخضراء والحمراء والذهبية والبنيَّة، وهناك الأراضي التي
تهبط
وتعلو برفق ورشاقة، فتبدو كالأراجيح وقد غُرِست بالزيتون صفوفًا كأنها صفوف العمد في
الجامع
الكبير، أو صفوف من الجنود؛ جنود السلام.
هي ذي الطبيعة في مجدها، في لطفها وحسنها وسكوتها وثمارها.
وهاك الوادي الكبير يجتمع بنهر غرناطة، نهر الشنيل، بالقرب من بَلما دِل ريو Palma Del Rio، وفي
بينا فلور Pena Flor شلالات تدير مياهها طواحين حديثة وقديمة، وبين القديمة طاحون من
عهد العرب لا تزال عامرة.
وهذه قرمونة قائمة على رأس الرابية، هي البلدة التي احتلها موسى بن نصير بعد احتلاله
إشبيلية، يمر الطريق من أسفلها إلى أعلاها فينكشف منه الطرَف الغربي من جبال مورينه،
التي
قطعناها في ذهابنا إلى مدريد.
وهي ذي قلعة وادي الغار Alcala de Guadaira فرن إشبيلية
ومورد خبزها، وزاوية من زوايا القلب الشارد في الرحلة الأندلسية الأولى، فقد طالما فرَّ
هاربًا إليها من الحب، وعاد منها إلى العاصمة والحب رائده.
ومن إشبيلية نصل بعد قليل إلى قرية حُسن الفرج على ضفة النهر، ولا بد من قديس تُدخِل
القداسة الإسبانية رقبته في النِّير العربي. فقرية حُسْن الفرج التي كان يؤمُّها أهل
إشبيلية العرب للتنزُّه، تُدعَى اليوم San Juan de
Aznalfarache أي القديس حنا حسن الفرج!
وفي سيرنا جنوبًا نمر بقرية الأختين Dos Hemanas، حيث
قضينا في ربيع سنة ١٩١٧ يومًا سعيدًا نقوم بعمل غير سعيد، وهو التفتيش في الريف على بيت
نسكنه، إنما كان معنا مفتاح لبيت هو قُصَيْر منمنم، كثير الغرف والأروقة، وإلى جانبه
مستودع
مفتوح بابه، فدخلناه فإذا هناك مئات من البراميل الكبيرة ملأى بالزيتون الأخضر الفاخر
المكبوس بالماء والملح. الزيتون! وكانت منَّا هجمة عليه، ذهبت بقيمة الغذاء الذي حملناه
معنا من المدينة.
وهذه الكروم التي تطبِّق الآفاق تذكِّرني بكروم زحلة، وهذه مدينة شريش المشهورة بخمورها.
إننا الآن في الطرف الجنوبي الغربي من الأندلس السفلى، حيث تكثر كذلك المناجم والمرافئ
التاريخية؛ ففي جوار شريش في شمالها الغربي، سان
لوكار ده باراميدا Sanlucar de Barameda التي يصب الوادي الكبير في برزخها المتصل بالبحر. فقد
كان ميناؤها عامرًا في الماضي، يجاري ميناء قادش، ومنه سافَرَ كولمبوس سفرته الثالثة
إلى
أمريكا، ومنها أبحر ماجلان Magellan ليرحل رحلته (١٥١٩)
حول الأرض.
وفي ذلك الجوار اليوم أكبر معادن النحاس في العالم، فمعادن النهر الأحمر Rio Tinto شمالًا من ميناء حلفة Huelva شَغَلَها قديمًا الفينيقيون، واليوم تشغلها شركة إنكليزية فتستخرج
منها مليون طن في السنة.
وبالقرب من حلفا كذلك، على أربعين كيلومترًا منها مناجم ترشيش — ترشيش التوراة
والفينيقيين، ترشيش الذهب. فمنها كانت ثروة مدينة صور.
ولا تزال قادش ميناء إسبانيا على الشاطئ الجنوبي من البحر الأطلنتيق. مررنا بها، أو
بالحري بالقرب من خلجانها، وانتهينا في طريقنا الجنوبية إلى رأس بَرٍّ دونها، فجنحنا
منه
إلى الشرق الجنوبي، وبعد أربعين أو خمسين كيلومترًا دخلنا في غابات الصنوبر والسنديان،
التي
تكلِّل الرُّبا بجوار طريفة.
وها نحن أولاء على رأس برٍّ آخَر نطل على الثلاثة الأبحر: الأوقيانوس والخليج والبحر
المتوسط، وبعد أن نطوي بضعة أكواع من الطريق، ونحن نهبط إلى مستوى البحر، ونشرف على جبل
طارق، نصل إلى نهر العسل الذي يشرِّف مدينة الجزيرة.