إشبيلية
المدن بروحها لا بصروحها، وبرسالتها لا بمساحتها. المدن بعظمتها الثقافية لا بثروتها المحصية. المدن بما استمتعت وبما قاست، لا بما انطوى من زمانها، ولا بعدد سكَّانها. المدن بيومها الخالد المجيد، لا بأيامها التكلانية والتجارية.
المدن مثل المرأة في مزاجها وخيالها، في الباطن والظاهر من حالها، في زينتها وفتنتها، في أوابد هواها، في قيود حبها، في سبحتها وبخورها.
تضع المشط الرفيع العريض التاج في شعرها، وتهز رأسها غنجًا ودلالًا. تفتل خصرها، إذ تسكت الخشيبة بيديها، فتنفتح طيات فستانها، وتنتشر منه الأماني والصدود! ثم تضرب الأرض برجلها، فتنصت إليها قلوب الرجال.
إشبيلية الراقصة هي التي تقرِّر مصير الرجل، فتؤيِّده في حبه، ثم تقيِّده بالبنين. هي إشبيلية الرومان.
وإشبيلية المرتلة للعذراء، المشعلة الشموع للقديسين. هي إشبيلية الغوط والإسبان.
هي مدينة الأعياد، والمواكب والمهرجانات — مواكب القديسين، ومهرجانات الربيع، وحرب الثيران. هي مدينة البهجة والحبور، بما فيها من خمر وبخور، وبما يتضوَّع في عرصاتها من طيب الرياحين والزهور.
وإن لإشبيلية مزاجًا يتجسَّم حينًا في رب من الأرباب، فتُنظم القصائد، وتُصوَّر الصور، وتُنحت التماثيل، وحينًا يتجسَّم في غول أو جنِّيٍّ، فتأكل أبناءها، وتضرم النار في مرابعها.
وإن لها روحًا ترفل، مثل بناتها، في الدمقس وفي الحرير، روحًا تأبى العُري، روحًا تتقنع للتمثيل على مسرح الوجود، والخيال المنشود، تمثِّل أمام الله حينًا، وحينًا أمام إبليس، تمثِّل جميع أدوار الحياة تمثيلًا صادقًا رائعًا فيطرب الله، ويطرب إبليس، ويهمس كلاهما في أذنها بالكلمة التي تعيد إلى قلبها النورَ والبخور، ومُرَّ الشعور، فينور فيه الياسمين، وينور فيه الصبر والقندول.
وإن لإشبيلية رسالة هي رسالة الحياة الوارفة الظلال، الوافرة الأنوار؛ هي رسالة الحياة الطامعة بخلود طيبات الحياة؛ هي رسالة الحبيب والأديب، وحاملات الطيب؛ هي رسالة المطرود وصاحب الجنود.
لله درك، يا إشبيلية! إشبيلية الرومان والعرب والإسبان.
إشبيلية قيصر أنت، وإشبيلية المعتمد، كما أنت إشبيلية ألفونس العالم وفرنند القديس.
لله درك، يا إشبيلية! فما أرحبَ فِناءك، وما أبعد مدى حنانك!
يزرع المعتضد الزهور في جماجم أعدائه وأعدائك، ويزين بها حديقة القصر، فتبتسمين وتنشدين الأشعار.
يشرب أبناؤك مياه الحمام لِحَظيَّة الملك السفاح، فتضحكين وترقصين.
يذهب سيدك، فلا يذهب ما عندك من حب ووفاء، ويوم يعود تقدِّمين له قلبًا عامرًا بالوفاء والحب.
وأنتِ في تقلُّبك أحجل منك في قلبك.
سمعت المؤذن يؤذِّن، والكاهن يرتِّل، فخشعت وسجدت.
وشيدتِ المعابد والمساجد والكنائس بيدَيِ العبقرية والإيمان، فقال الله: أحسنتِ. وقال الفن: حبيبتي، أنتِ!
شربتِ الكأس باسمهما، ثم الكأس على ذكرهما، فازددتِ جمالًا وافتنانًا. ثم أثلثت، ففرح إبليس.
هي إشبيلية تتأهَّب لمهرجانها الأكبر، مهرجان الأسبوع المقدس، المهرجان المنقطع النظير في العالم المسيحي، بل في العالم أجمع. فمن أحد الشعانين إلى أحد الفصح تغدو إشبيلية بأجمعها مهرجانًا حافلًا باهرًا، يستمر أسبوعًا كاملًا، هو أسبوع الآلام عند نصارى الشرق، والأسبوع المقدَّس عند الأوروبيين.
وها هو ذا الموكب يجتاز شارع الحية في طريقه إلى الكاتدرائية، هو موكب من الهوادج يحمل كل هودج، بما عليه من تماثيل، عشرة أو عشرين من الرجال، يحملونه على الأكتاف، وهو مغطًّى من الجهات الأربع بأستار طويلة، فلا يُرَى من الحملة غير أرجلهم؛ فيبدو في مجمله كجنِّيٍّ ذي عشرين أو أربعين رِجلًا!
هذه الهوادج تقف من حين إلى حين لتستريح تلك الأرجل، ثم تستأنف السير، وأهل إشبيلية والمتفرجون من أربعة أقطار العالم، جالسون في القهوات، وفي الأطناف فوقها، أو واقفون في الحانات، يشربون البيرة، ويأكلون القريدس، وينتقدون الهوادج أو يثنون عليها.
ومن نوافذ البيوت وأطنافها تنثر النساء ماء الورد من قماقمهن على الموكب، ويرفعن أصواتهن وقلوبهن بالإنشاد والابتهاج، فيذكِّرْنَ العربيَّ، في وقفاتهن وغنَّاتهن، بأهل التجويد. فهل هي يا تُرَى من بقايا الروح العربية، تتوارثها الأصوات والقلوب الأندلسية؟
وعندما يكون الموكب سائرًا إلى الكنيسة الكبرى، تُرَى الهوادج جارية مجرى الشراع في الريح الطيبة، فلا تميد ولا تضطرب، ولكنها في عودتها من الكنيسة تبدو كالمراكب التي تتقاذفها الأمواج، فتخشى وأنت تنظر إليها أن تميد فتهوي إلى الأرض …
هي المواكب المقدسة يمشي فيها قلب إشبيلية التَّقِيُّ الطروب، ويجلس عقلها في الحان، متفرجًا على قلبه، وعلى بطنه، وعلى الأجنبيات الحسان، المتفرجات مثله، المشاركات له في شرب الجعة، وأكل القريدس.
هي المواكب المقدسة، موكب كل يوم، وموكبان يوم الجمعة العظيمة؛ واحد في الصباح، والثاني في المساء.
وتُشعَل في اليوم التالي — أي في سبت النور — شمعة العيد الجبارة، التي تبلغ خمسًا وعشرين قدمًا طولًا، وأربعمائة كيلو وزنًا.
كدتُ أنسى حفلة الغسل، وهي من الحفلات المهيبة، تقام يوم الخميس في وسط الكنيسة، فيشهدها ألوف من الناس المزدحمين في الأروقة الرحبة. هو ذا مشهد من المشاهد الدينية، يمثِّله الأساقفة والكرادلة وبضعة صبيان فقراء، فيغسل كبير الكرادلة أرجلهم والناس في خشوع، ثم يمشي أمراء الكنيسة المتضعون في موكب بهيٍّ، وهم يردِّدون كلماتٍ لاتينية بلهجات غير متشابهة، تدل على ما بصدر كل منهم من حماسة أو فتور: «تديوم لودامس» مثلًا.
•••
لقد حرمت إشبيلية المهرجانات مدة الحرب الوطنية، فتضاعَفَ شوقها إليها؛ فخرجت في ربيع هذا العام تحمد الله، وتسبِّح العذراء، وتحتفل بالنصر وتقيم المهرجان. خرجت بعشرين ألفًا من نسائها وبناتها ورجالها وشبانها إلى مركز السيدة ربة العيد، فكانت تتدفق مرحًا وطربًا وحبورًا.
هي «عمارة» الحمامة البيضاء عذراء الندى، فيركب المعتمرون والمعتمرات الخيل والبغال والعربات الضخمة تجرها الثيران، ويحملون فرشهم ومواعينهم إلى مَريسما! هولا! كُرَّه! ويقيمون هناك في هرج ومرج، ومرح وطرب؛ يقيمون الصلوات، ويشربون البيرا، ويأكلون القريدس، ويصيدون الطيور!
قال الدليل: إنْ شئتم أن تشاهدوا الموكب راجعًا قبل أن ينتثر، فعليكم أن تلاقوه خارج المدينة.
استصوبنا الرأي، وسرنا نقطع الجسر عند برج الذهب إلى تريانا — بلدة العمال والمعامل، وخصوصًا منها معامل الزليج أي القيشاني. تريانا فخارية إشبيلية، ومربض عمالها.
وفي طريق الموكب العائد من مريسما، التقينا بطلائعه، بعد أن اجتزنا نحو عشرين كيلومترًا، واستقبلنا قسمًا منه، ثم انخرطنا في سلكه، وأمسينا من المعتمرين، ولا اعتمار غير الفضول!
ولكننا سررنا بما شاهدنا من مظاهر الفرح الشعبية، بخيلها ورجلها وعرباتها، وبدفوفها وشُقيفاتها، وما كان يسمع غير أصوات النساء يرتلن، ويضربن على الشقيفات، وصريف الدواليب الضخمة للعربات الخشنة تجرها الثيران.
وهناك عربات النقل الكبيرة وقد كدست فيها النساء بعضهن على بعض، أسراب منهن في أثواب العيد، الزاهية الألوان، كأنها قطعة من قوس قزح تجرها الثيران، والرجال على الخيل والبغال، في تلك القبعات السوداء القوراء القاسية، الرفيعة التاج، المجسمة فيها عظمة الرجل الإسباني (الكابابيرو-الفتى)، وقد أردف امرأته أو أخته أو عمته على حصانه أو بغله.
الدواليب الضخمة المطوقة بالحديد، وبينها عربات بمجالس من خشب، تجرها الثيران، ويسوقها رجال باسمو الوجوه، وإلى اليمين واليسار منهم أنوار وجوه الحسان، ووراءهم في العربة على فراش من التبن سرب منهن يغنين. هو ذا الموكب بصورة ظاهرة، وبروحه وقلبه.
يعود، بعد ثمانية أيام من الطرب، وبلوغ الأرب، ولا وهن ولا تعب، يعود كما خرج حاجًّا، في غمرة السرور والطرب.
وها هو ذا عائد، له أول وليس له آخَر، وها نحن أولاء في غمار المعيِّدين والمعيدات. مكره أخوك لا بطل! فلا طريق إلى المدينة غير هذا الطريق، والموكب يحتله احتلالًا مهرجانيًّا، فيسير سير السلحفاة ولا عجب؛ فقد قطعت ثيرانه في هذا اليوم أربعين كيلومترًا، والخيل والبغال مثل الثيران مكدودة مرهقة.
ويجب أن نقف في كل قرية لنسمع نساءها يرحِّبن بنا منشدات الأناشيد، ويجب أن نقف عند كل ساحة إلى جانب الطريق، ثم نستأنف السير. تتحرك السلحفاة! فيا قدِّيسة مريسما، يا سيدة الطل، يا أيتها الحمامة البيضاء طيري إلينا، وبجناحيك أنقذينا. لقد دنت الشمس من الأفق، وكادت تغيب.
ومع ذلك يقول قاموس الأعلام: «يجب ألَّا ننسى، على ما كان من فضله في الاكتشافات، وتوسيع نطاق علومنا الجغرافية، أنه في معاملته للهنود أهل البلاد كان جائرًا عتيًّا.»
وهل نسيتِ الأقدارُ كرتيس الذي مات ها هنا في هذا القصر بالقرب من إشبيلية، منبوذًا منسيًّا؟ قيل إنه تصدَّى مرةً في آخِر أيامه، لعربة الإمبراطور «شارلس الخامس» فأنكره، فقال: «أنا الرجل الذي أعطاك من الولايات أكثر مما أورثك أجدادك من المدن.»
رحم الله كرتيس، وإن في العلم بعض التعزية والرحمة. فهل هناك مَن يعلمه بما كان من معاملة الحكومة الأمريكية بعده للهنود أبناء أولئك البُسَّل الذين تغلَّبَ هو عليهم؟ فإنهم اليوم، باسمهم واسم أجدادهم، يترحَّمون عليه.
وله الفضل الآن بما أنسانا من مرِّ الانتظار. فها هي ذي السلحفاة تتحرك، بل هي تمشي، بل هي تمشي مسرعة، وهاك فارسًا بين فتاتين يطلق لجواده العِنان. تقدَّسَ اسم «الحمامة البيضاء» فقد استجابت طلبنا!
ما كدت أنتهي من التسبيح حتى عادت السلحفاة إلى طبعها، وعاد الفارس إلى سابق سيره، يطمئن المليحتين، التي يحضن والتي يردف، يطمئنهما بصوت خشن وكلمات عذبة.
وكان الطريق يضيق في بعض الأماكن فيغص بالموكب، أو يحدث فيه احتقانًا، فيقف ربع ساعة – نصف ساعة – ثلاثة أرباع الساعة، اللهم هوِّنْ هوِّنْ!
فأسمع مَن يقول: تأمَّلِ الثيران يهُنْ أمرك.
كنت أتأمل غير الثيران، كنت أتأمل النساء المعيدات بأيديهن وأصواتهن، فما كانت تقف تلك الخُشيبات في «تَرْتَتاتها» حتى خلال الانتظار، ولا تلك الأصوات في أغانيها، بل كانت تزداد عملًا وعنفًا، لله درها!
وهذه الثيران، نعم هي مكدودة مرهقة، وصابرة مع ذلك طائعة صامتة. ما سمعتُ ثورًا يخور ولو مرة، وكنتُ أخشى أن يفلت بعضها من السيور، وتفر هاربة، فما كان شيء من ذلك.
ولكننا نحن الثلاثة أكثر منهم طاعةً وصبرًا وخنوعًا، فإننا أحرار نستطيع الفرار من السيارة، ولا نفعل.
فقال البستاني ألفريد: نحن نُجرُّ، وهم يَجرُّون.
فقلت: أَوَليس لجائع وعطشان من فضل في السكوت والصبر؟
وصلنا بعد منتصف الليل، فشربنا الماء؛ لأن اﻟ «بار» كان مقفلًا، وجاءنا الخادم بشيء يشبه سناويج اللحم والجبن.
•••
ونمنا تلك الليلة على أصداء الأغاني، وأصوات الشُّقيفات، التي كانت تتراجع في آذاننا، وتتردد في الأحلام، بل في الكوابيس.
كل ما يتجاوز حد المعقول، أو حد الإدراك الهنيء المستريح في عمله، يخرج عن وضعه الأصلي ومعناه؛ فالذي يحب الغناء مثلًا ويتذوقه لا تروقه شلالات منه، تتدفق من مائة حنجرة مجهودة، والذي يهوى مشاهدة الرقص لا يهزه مرقص يضم مائة أو خمسين من الراقصات والراقصين؛ فالعين لا ترتاح إلى ما لا تستطيع حصره في مشهد واحد، أو بصورة واحدة، والأذن لا تلتذ بغير الممكن استيعابه، بمجمله وبدقائق جزئياته، من الألحان.
هذا الذي أقوله في الغناء والرقص يصح كذلك في الكنائس الكبرى التي لا تتم فيها كل شروط العبادة، وأولها حصر الفكر والإرادة في الاتجاه الروحي، إلا إذا كان المتعبد ضريرًا، فلا يرى من الكنيسة غير غرضها الديني الأسمى، وأين هذا الغرض من الفنون الجميلة، أو غير الجميلة التي تملأ المكان بآثارها وخنفشارها، بتحفها وتوافهها، فتتحكم بالإحساسات، وتُبعِدها عن كل ما هناك من بواعث الغبطة والحبور.
ويقول لك إن في الكاتدرائية خمسة وسبعين شباكًا من الزجاج المزين بالرسوم الملونة، فتود لو كانت كلها شباكًا واحدًا، بحجم معقول، تستطيع أن تدرسه بعينك وذهنك، وتحصره في قفص حبك؛ لتتلذذ بمحاسنه الجليلة كلها.
أما الخشب المحفور، على وفره وأنواع فنه في هذه الكنيسة، فهو دون الفن العربي الذي نشاهد في القصر أمثلة منه رائعة.
وأما أن في الكاتدرائية، إلى جانبيها، مجموعة من الكنائس الصغيرة، وكل كنيسة هي متحف للصور الزيتية والتماثيل، فليس في القول مبالغة، ولكن أكثر تلك الآثار الفنية هي الوسط أو الدون في الفنون.
وبينا أنت شاخص ببصرك إلى النافذة المدورة الكبيرة، فوق الباب الكبير، تلك النافذة التي هي كالشمس وقد رصعت بالزمرد والياقوت، يستوقفك الدليل، ويلفت نظرك إلى بلاطة تحت قدميك، قائلًا: ها هنا مدفون فرنندو كولون — كولمبس — ابن المكتشف العظيم. ابنه! نعم.
وفي هذه الكنيسة مدفون كذلك الملك فرنند غالب العرب، ومعيد إشبيلية إلى الملك الإسباني (١٢٥٢م) فصار بعد موته القديس فرنندو. وها هنا، تحت المذبح المدفون أمامه القديس، بقيَّة ذلك الملك الآخَر الملقَّب ببطرس العاتي، ومعه حظيته ماريا باديليا.
هذا في التاريخ، وفي الكنيسة الشاملة برحمتها الملوك، القديسين منهم والخاطئين.
إن هذا الأسلوب لجدير بالدرس؛ لأن نزعاتنا الثقافية والفنية اليوم تعود إلى الجمع والإدماج؛ لتساعد في تقرُّب الشعوب بعضها من بعض.
هذه الأمثلة تثبت أن اندماج الفنين العربي والغوطي أو الإسباني ممكن، وهو جميل متى كان متناسقًا منسجمًا، كما في لاخيرالدا وبرج الذهب، وأما التزيين والنقش فإن في القصر أمثلة رائعة منهما.
هذا القصر مثل فارس مغوار قضى حياته في الغزوات والحروب، فطُعِن في وجهه وصدره وجوارحه كلها، ضرب فيه التشويه عصاه والدهر عوامل أيامه، وما زال بالرغم من ذلك معروفًا مهابًا بطلعته وروحه وعظيم خلقه.
ثم شيَّدت الملكة إيزابلة الكنيسة في الطابق الثاني، ورمَّمَ وجدَّدَ فيه عمَّال ومهندسون إيطاليون للملك شارلس الخامس.
وقد أُصلِح ورُمِّم كذلك في عهد فيليب الرابع (١٦٣٤)، وفي القرن الثامن عشر (١٧٦٢) شبَّت فيه النيران، فذهبت بكثير من خشب سقوفه، فرُمِّم بعد خمسين سنة ١٨٠٥، ولا تَسَلْ لماذا أُهمِلَ خمسين سنة! هي الحروب التي تشغل الملوك والأمم عن كل شيء سواها.
بَيْدَ أن فيه ما هو من غير هذا الأسلوب، وما هو مخلٌّ به، وما هو جامع بينه وبين غيره مما ذكرت.
ومع ذلك لا يزال على الإجمال معروفًا بطابعه الأول العربي، خصوصًا في روافد سقوفه وخشبها، المحفور الملوَّن منها، والمموَّه بالذهب.
أما جدران ردهة السفراء، فالمدقق النظر فيها يكتشف أشكالًا من الأسلوب المدجن، وأخرى في الإدماج والاختراع.
وهذه مناطق أخرى من الحروف الكوفية، وإن كانت ألفاظها مشوشة، تتخللها دوائر مذهبة، تحتوي على صور أسد وأبراج أو قصور بالأسلوب الغوطي. إن هذا التقطيع لَجميل، بل هو في نظري ذروة بلغها الفن المزدوج، ذروة فنية ذوقية؛ فالمنطقة العريضة الطويلة المتواصلة من الكلمات الكوفية تُتعِب البصر وتُرهِق الذهن المستكشف خفايا ألفاظها؛ فيجيء هذا التقطيع مريحًا بأسده وأبراجه، ومفرحًا بتناسُقه وانسجامه وسهولة بيانه.
وتلك مناطق من الحفر والنقش والتلوين على الجدران، وهي غوطية الرسم والأسلوب، يحيط بها إطار عربي تُقلَّد فيه الحروف الكوفية والمغربية.
وهناك حائط حافل بالفن العربي، خطًّا ورسمًّا، من أسفله إلى أعلاه، تعدَّدَتْ مناطقه وتنوَّعَتْ، وهو واحد من أربعة حيطان تذكِّر بردهة السفراء بالحمراء، إنما يكلِّلها سقف بقبة من الخشب المحفور والملون الغوطي الشكل والأسلوب، ولا تنافُرَ بين هذا السقف وتلك الجدران، ولا بين الفنين، بل إن اقترانهما يبدو طبيعيًّا بجماليه: البساطة والبلاغة.
فهل يصح هذا الاندماج الفني الهندسي في الثقافتين العربية والإسبانية إرث الأجداد المتحاربين بالأمس، المتآخين اليوم في المغرب الأقصى؟
وهل يمكن الاندماج في عادات الشعبين وتقاليدهم، فتنشأ من ذلك حضارة شرقية غربية، عربية إسبانية؟ قد لا يكون ذلك ممكنًا إلا في البلاد التي يتم فيها تعاون الشعبين على أساس العلم والفن، وعملًا بالمصالح الاقتصادية المشتركة.
أما الأديان، فهي لا تَحُول في زماننا دون هذا الاندماج، وهذه الثقافة. الأديان قد تحارَبَتْ في الماضي، وتعبت من الحروب!
هل هناك فن في الهندسة والزخرف يصح أن يُدعَى فنًّا عربيًّا؟ أجيب: نعم. إلى البادية لأعطيك المثل والبرهان؛ هناك القصر أو الحصن أو الاثنان معًا، تراهما اليوم في نجد أو في إمارة من الإمارات على الشواطئ العربية، هما أساس كل فن دُعِي بعدئذٍ بالعربي أو المغربي.
وأما صفة البناء الأولية، فهي سور بأبراج، أو مربع بجدران عالية، وفيها أو في السور نوافذ صغيرة مرتفعة، وذلك للأمان والاطمئنان فيأمنون أعاصير الرمال، أو للدفاع عن الأهل والقبيلة فيأمنون غزوات العدو.
وفي داخل المربع أو السور حصن ببئر ماء، وبيوت حوله للسكن، بيوت من لبِن أو طين، جافة الظاهر، قاسية في بساطتها كالبادية نفسها، وكجو البادية. لا زهور، لا ألوان، لا مياه جارية، والنفس توَّاقة إلى ما حُرِمت، وعلى الأخص نفس العربي الذي نطق بالشعر، أو بالكلام الموزون المقفَّى منذ القِدَم، وقرأ في مظاهر الحياة شيئًا مما تنطوي عليه، وأشياء مما في قلبه.
إذن لا بد من شيء يلطِّف هذا الظاهر الجافَّ القاسي؛ فلجأ إلى الجص والألوان الأربعة — الأصفر والأخضر والأزرق والأحمر — يزيِّن بها حائطًا داخل بيته، وبابًا ونافذة. وإنك لتراه حتى اليوم يحفر الرسوم الهندسية دوائر ومربعات وخطوطًا بالجص على جدران المجلس أو غرفة القهوة، وتراه يصبغ أبوابه بالصبغة التي ذكرت، ويرسم فيها الدوائر المقسمة والمربعات القائمة والمائلة، وغيرها من الرسوم الجامدة.
هذه القاعة في بساطة المجموع وقساوته، وفي القليل من التزيين الداخل عليه تتمثَّل كذلك في لباس العربي، من الصوف كان أم من الخام ذي اللون الواحد، القاتم والأدكن، والخطوط القويمة البسيطة كخطوط السور للحصن أو القصر أو البيت العادي. مثال ذلك العباءة الفضفاضة ذات اللون الواحد، والخط الواحد، كأنها سور الرجل، ولكنَّ فيها حول الطوق وعلى الصدر قليلًا من التطريز بخيط الفضة أو الذهب؛ ليخفِّف من وجوم مجموعها، وينعش النفس التوَّاقة إلى الجمال.
هذا ما حمله العربي من البادية: ذلك القصر الواجم في ظاهره، المشرق بعض الإشراق في الداخل، وتلك العباءة الفضفاضة الخشنة، المطوقة بشيء من القصب — من الزينة — من الشعر. هذا ما حمله، مع الدين الجديد، دين التوحيد، إلى البلدان التي فتحها واحتلَّها وعمَّرَها.
واجتمع الاثنان، العربي الفاتح والعربي الماهد، واقترن الفنان في دمشق. فمن سور الحصن تدرجنا إلى جدران القصور، المهيبة مثل السور في انبساطها القاتم الأصم، وفي القليل من نوافذها العالية، ومن القوس البيزنطية صنعنا قوسًا تلائم مزاجنا، أو تُشبِه شيئًا عزيزًا عندنا، هو نعل الفرس. ومن العمود الروماني نزعنا الضخامة ولزمنا أشكالًا تعودتها العين، وأحبها القلب، كالنخلة في صحن الدار، أو كالخيزرانة بيد الأعرابي!
ومن هذا الاختراع وذلك الاقتباس وُلِدت النوافذ الشمسية، ذات العمد الرفيعة المزدوجة والأقواس النعفرية، ومن الخط الواحد بالقصب وبعض الرسوم الهندسية بالجص تدرجنا إلى فن التقرنص، وإلى ذلك الذخر من النقش والرقم والتزيين التي دعاها العرب بعدئذٍ بالتسطير والتصغير والتوريق والتقضيب.
أجل، لقد نشأت تلك الأساليب في البناء، وتلك الأشكال في الزخرفة، من الفنين: الفن العربي الأوَّلي، والفن السوري الرفيع، واقترنا ونشأا فنًّا واحدًا خلال مائة سنة من الخلافة الأموية الأولى في المشرق والمغرب، فحمله مع دين التوحيد الفاتحون، حملوه من الشام إلى القيروان – إلى المغرب الأقصى – إلى فاس إلى ديار العدوة.
وقد كانت حصون المغرب وقصوره، قبل الفتح الإسلامي، على الشكل الخارجي الذي وصفت، فغدت بعد الفتح عربية في زينتها الداخلية. جاء الفاتحون يحملون الرماح بيدهم، والثقافة الجديدة مع الدين الجديد في القلوب.
وبعد أن دخلوا الأندلس، واستقروا بها، جاء إخوانهم المستعمرون من سوريا ومصر وفلسطين، وجاء مع السوريين — الشوام والحماصنة — البنَّاء والنقَّاش والرسَّام والمشتغل بالرخام.
وكان قد تأسَّست في الشمال بدير من الأديرة مدرسةٌ للنسَّاخ، يتعلمون فيها الخط والرسم والتوريق — تصوير ورق الأشجار — العربية كلها، وكان لهذه المدرسة وآثارها تأثير بليغ في فنَّيِ التصوير والنحت، ليس في إسبانيا فقط، بل في أوروبا جمعاء.
ومن الطبيعي، والفن في ذلك الزمان ديني محض، أن تتأثَّر إسبانيا بفنون غيرها من الأمم المسيحية كالألمان والفلامند والطليان. وبما أن فنونها الأولى كانت منحصرة على الإجمال في تزيين الكنائس ومذابحها، حفرًا في الخشب، ونقشًا في الفضة والنحاس؛ كان الفن العربي، خارج المخطوطات التي مرَّ ذكرها، كبضاعة «التهريب» شيئًا محظورًا، ومع ذلك فإن الباحث المدقق يرى من آثاره — من التوريق والتسطير والتقضيب — في بعض صور المدارس الفنية التي نشأت في بلنسية وقشطيلة وليون وإشبيلية في مقدمتها.
وقد يُستغرب قولي إن المصورين، وفي مقدمتهم موريليو وبتشيقو وزورباران، أخذوا عن الفنون العربية، مثل المهندسين والنقَّاشين؛ فاستوحوا تلك الأشكال الخارجية في تعمير الألوان والظلال في صورهم، كما استوحوا في الزخرف والتزيين ما كان منها داخل الجدران.
أقف عند هذا الحد فيما هو مستتر، وما هو ظاهر، من عوامل الفن العربي في الفن الإسباني، وقد كان مجهولًا في الماضي، إلا عند الاختصاصيين، بل أقول: إن الباحثين في الموضوع قديمًا وحديثًا أهملوا أو جهلوا الأساس العربي — لا المغربي — الذي كشفتُ النقاب عنه، والفن السوري في الهندسة والتزيين الظاهر حتى في بعض الآثار البيزنطية والرومانية، ولا يصحُّ رأي، ولا يستقيم نظر في الموضوع، بدون درس الفنين السوري والعربي.
عليَّ كذلك أن أقول إن العوامل التي ذكرت هي كائنة، ليس فقط في فن الأولين من الإسبان، الذين قَلَّدوا كثيرًا وقَلَّمَا ابتدعوا، بل في آثار الفنانين، زعماء النهضة الفنية الوطنية، وفي مقدمتهم موريليو وزورباران وهريرا وبتشيقو وريبيرا، وكل هؤلاء نبغوا في زمن واحد — في القرن السابع عشر. فلم يكن الاقتباس في فن التصوير عن الفنون العربية مغلَّفًا بغلاف الخطر والتنكُّر كما كان في الماضي، في عهد الاستيلاء العربي.
وهذه الظاهرة في تاريخ الفن الإسباني والنهضة الإسبانية الوطنية حَرِيَّة بالتأمل، فما كان في البلاد أيام العرب شيء يُذكَر من الفن الإسباني والوطنية الإسبانية القومية الجامعة، والسبب في ذلك هو التجزؤ السياسي، والتفسُّخ الاجتماعي، والحروب الأهلية، فضلًا عن تلك التي قامت بينهم وبين العرب المغاربة.
ولكن هذه الآفات السياسية والاجتماعية والقومية كانت متأصِّلة في العرب أنفسهم؛ فقد كانت بلاد الأندلس مجزَّأة بينهم إلى إمارات صغيرة وكبيرة، وكان التفسُّخ الاجتماعي أو التحزب السياسي والإقليمي والمذهبي ضاربًا أطنابه بينهم، وكانت الحروب الأهلية في البلاد، فضلًا عن تلك الحروب التي قامت بينهم وبين الإسبان.
ومع ذلك فقد كانت النهضة العلمية والفنية عند العرب في أبهى مظاهرها، وما كان منها عند الإسبان شيء يُذكَر.
فما السبب؟ السبب في ذلك، على تشابُه البيئتين، اجتماعيًّا وسياسيًّا، هو أن العرب كانوا فاتحين محتلين سائدين، وأصحاب دعوة كبيرة — أصحاب دين جديد — وكان الإسبان مغلوبين على أمرهم، وواقفين في مجمل أحوالهم موقف الدفاع عن وطن هو لهم، وما هو لهم بسبب تخاذلهم.
ليس مَن ينكر أنهم، مع ذلك، أصحاب البلاد، وأن العرب الأجانب — نعم الأجانب — متغلبون فيها مسيطرون. فما ضرت الحزبية بهم ولا ضرهم التخاذل، كما ضر الإسبان المغلوبين.
ولا نهضة للفن أو للعلم أو للوطن في أمة مغلوبة، ولا يقوم لهذه الأمة قائم؛ لا تتفتح أزاهر نبوغها ولا تظهر أعلام نهضتها، ما دام للأجنبي يد في حكمها، أو تدخُّل سياسي في شئونها.
وهذا الذي أقوله في ماضي إسبانيا يصح في حاضر البلاد العربية، فإذا كان الحكم الأجنبي في إسبانيا هو سبب تقهقرها، أو بالحري سبب جمودها أثناء ذلك الحكم، فهو كذلك في البلاد العربية اليوم.
وليس في الحالين غير نتيجة واحدة. ما قامت النهضة الإسبانية الفنية الوطنية وازدهرت إلا بعد انقراض الحكم العربي في البلاد، ولا تقوم النهضة العربية الثقافية الوطنية وتزدهر ازدهارًا شاملًا، إلا بعد أن يخرج الأجانب المسيطرون من البلاد العربية.
•••
في هاتين الكلمتين نور يضيء مهد النهضة الأدبية الفنية الوطنية، التي ازدهرت في القرن السابع عشر، وقد كانت إشبيلية مهد تلك النهضة.
وقد سافر إلى إيطاليا في عهد رفائيل وميكل آنْج؛ أي بعد سنة ١٥٤٠، كثيرون من فنَّاني البلاد، طالبين العلم في كَنَف كبار المعلمين، فبدأ النفوذ الإيطالي منذ ذلك الحين يعلو كل نفوذ آخَر ويتقدَّمه. هي النهضة التجديدية الأوروبية في إسبانيا.
وقد كان لزعمائها الذين ذكرت اتجاه واحد، إسبانيا الجديدة، على اختلاف الأساليب والأمزجة. فما خلت نزعاتهم من الخزعبلات، ولا كانت المبالغات الفنية دائمًا مرنة رصينة. خوَّف هرِّيرا زملاءه بضربات ريشته الغليظة، وبشرار مزاجه العصبي، وأضحكهم زورباران بشذوذه وادعائه. لا تقاليد ولا خيال ولا وهم في فن زورباران، ولا رصانة، فقد كان يجيء بصبيان الأزقة مثلًا ويُلبسهم قمصانًا من الخام ليمثِّل الملائكة في لوحاته تمثيلًا واقعيًّا غير خيالي، وله في ذلك شطحات إذا صحَّ التعبير الصوفي في فن بعيد من التصوف إلا في الحقيقة العارية المرعشة؛ فقد كانت النساء في زمانه يَلْبِسْنَ المشدات العالية فترق خصورهن وتصغر منهن الصدور، فجاءت القديسات في صور زورباران بصدور مسحاء كالرجال!
لقد أجاد موريليو في تمثيل حياة الأنبياء والقديسين، كما أجاد في تصوير الأولاد؛ أولاد الأزقة، فإن في النوعين صدقًا وبلاغة وعلمًا بعيد القرار بكوامن النفس، بل إن الجمال الذي يتخلَّل نور عيون الصبيان في هذه اللوحات هو من رصانة الأنبياء، وما في عيون الأنبياء هو من روح الصبيان.
ومن أسلوب الدور الثاني صورة كبيرة في كاتدرائية إشبيلية للقديس أنطونيوس بلغ فيها ذروة الفن.
أما أسلوبه المبخَّر، فهو ذاك الذي تنتشر من ألوانه الحواشي الرقيقة كالضباب والبخار، وتلبسها روعة الغسق المتخلف فيه بعض ألوان الشمس الغاربة.
قلت: إن موريليو هو كبير فنَّاني ذلك العهد، وهناك أكبر منه هو فلاسكيز، وإن كان موريليو أشهرهم في إسبانيا، فقد كان فلاسكيز أشهرهم لدى العارفين المتذوقين روعة الفنون، وهو اليوم أشهرهم على الإطلاق. وُلِد مثل موريليو في إشبيلية، ولكنه وإن كان تلميذَ بتشيقو يُعَدُّ خارج مدرستها الفنية.
إن فلاسكيز في التصوير يمثِّل سرفنتس في الكتابة؛ فقد رفع الاثنان حقائق الحياة الإسبانية اليومية إلى مستوى النبوغ العالي، وهو مثل سرفنتس عبقري فذ، لا تصح المقارنة بينه وبين أحد من نوابغ الأمم الأخرى، رأى الفن في زمانه إسبانيًّا دينيًّا، فصمَّمَ على أن يجعله أوروبيًّا بل عالميًّا. في فنون زملائه طغت إسبانيا على أوروبا!
نَقل فلاسكيز من إشبيلية، حيث كان الفن خادمًا للدين والكنائس والأديرة، إلى مدريد — إلى العاصمة — إلى القصر الملكي في العاصمة؛ صورةً من صوره، تلك التي يتمثَّل الملك فيليب ممتطيًا جواده، ففتحتْ له بابَ القصر، وما لبث أن صار من المقربين في البلاط.
وقيل إن الملك فيليب الرابع، لما رأى صورة العائلة المالكة وفيها فلاسكيز نفسه واقفًا يصوِّرها، أخذ الريشة ورسم الصليب بالحبر الأحمر على صدر المصوِّر، ولكنه لم يمنحه الوسام قبل أن تمت الأصول التي تتعلق به؛ وهي أن تتعين لجنة للبحث في عائلته والتحقيق في نسبها، فقرَّرت تلك اللجنة بعد البحث أن عائلة فلاسكيز خالصة من شوائب الكفر، وشوائب الدم اليهودي أو المغربي، ومن دنس المكاسب في التجارة. هو ذا النبل الإسباني المؤيَّد — والمقيَّد — بالبلاط.
ويوم أعطى الملك الفنانين موضوع طرد المغاربة من إسبانيا يتبارون فيه، حاز فلاسكيز الجائزة بصورة صوَّرَها، ولم يحتفظ بها.
إن لفن فلاسكيز أدوارًا كما لفن موريليو وغيره من كبار الفنانين؛ فالدور الأول يمثِّل الطبيعة تمثيلًا صادقًا أمينًا بديباجة بارزة التقاطيع كالنقش في الحجر، وبانسجام من الألوان الحمراء والصفراء والبنيَّة.
والدور الثاني يبدأ بزيارته لإيطاليا، وتأثُّره بفنون ميكل آنج وتيتيان وتنتورتو، فشرع يصوِّر مثلهم في فيض من النور، وكان يصوِّر كذلك في النور المنعكس؛ ليلطِّف ألوانه، ويعزِّز الرحابة في أوضاعه وأشكاله.
لا يمكن ونحن نستعرض الفنون إجمالًا كركنٍ من أركان النهضة الإسبانية الجديدة، التي نشأت في إشبيلية، أن نخص كل فنان ممَّن ذكرنا بما يستحقه من البحث والتحليل، ولكننا معرِّفون كلًّا منهم إلى القارئ تعريفًا جزئيًّا؛ فعسى أن يحبب إليهم مواصلة الدرس والتعرُّف؛ لما في ذلك من لذة، ولما فيه أيضًا من الفائدة في تكوين الشخصية المثقفة التي لا يتم تكوينها إلا بمعرفة الفنون الجميلة.
هذه الكلمة نخطُّها اعتذارًا عمَّا طال في هذا الفصل، وعمَّا قصر في الوقت نفسه عن الإشباع للمواضيع الفنية التي تتعلق به، وأهمها — كما أسلفتُ القولَ — فلاسكيز وفنه. على أنَّ فلاسكيز كان معجبًا جِد الإعجاب بالفن الإغريقي، وما خلا محترفه، بإشبيلية أو بمدريد، من آثاره الفنية.
أما العامل الأجنبي في فن الغريكو فليس إيطاليًّا، مع أنه تلميذ تيشيان، وإنما هو بيزنطي؛ هو إرثه الجنسي الثقافي الفني، إرثه الشرقي، ظهر في لوحاته منذ بدأ يصوِّر في توليدو — طليطلة — المدينة التي أقام فيها، بعد سفره من مسقط رأسه، إلى إيطاليا.
وأما العامل البيزنطي، فهو لا ينحصر في التلوين فقط، بل يتجاوزه إلى الشكل؛ أي إنه يشمل القالب والمعنى والديباجة. وقد كان لأوَّل ما صوَّره وقعٌ مدهش في عالم الفن الإسباني، على وفرة الآثار الفنية فيه وكثرة الفنانين؛ فها هنا وجوه للقديسين غير مألوفة، وألوان للديباج والدمقس جديدة، ها هنا نوع من الأرجوان الذي لا يزال إلى يومنا نادرًا في غير صوَر الإغريقي.
وها هنا مقدرة غير اعتيادية في تأليف الألوان وتصريفها، ولجميع هذه المزايا كلمة شاملة المعنى؛ هي العظمة.
فالعامل البيزنطي في فن التصوير الإسباني هو قسم من العظمة التي تميِّز كذلك صور فلاسكيز عن سواها، كما أنه قسم من الفخامة التي تتجلَّى في الفن العربي بالحمراء، وعلى الأخص في الجامع الكبير بقرطبة. وهذا العامل ظاهر في أجمل وأروع مظاهره في الفن الإغريقي الخالد، ومع ذلك فما تعَدَّتْ شهرته في حياته إسبانيا، أو عالم الفن والمشجعين والمعجبين بالفن من أرباب الكنيسة. فظل هذا العبقري ثلاثمائة سنة مغمورًا بالخمول الذي يكاد يكون نسيانًا.
ثم بُعِث في أواسط القرن الماضي، وذاع اسمه وخبره وفنه، فوقف الناقدون أمام لوحاته وِقفة الإعجاب والإكبار.
وها ها هنا أريد أن أقول كلمة في اﻟ «إمبرثيونيزم» وقد أضع لفظة عربية لها. فما هو أصل اللفظة الفرنسية، وما هو معناها؟ أول مَن خرج على المدارس الرسمية، وراح توًّا إلى الطبيعة يستخبر حالها، ويستطلع أسرارها، هو إدوار مونه، وأول ما قرَّره مونه هو أن مظهر الأشياء الزائل هو أهم للفنان من مظهرها الدائم. ثم شرع يدرس هذه المظاهر الزائلة في الأنوار والظلال، والأشياء الجامدة والمتحركة، ويصوِّرها في تلك الأحوال وهو متأثر بها، فلُقِّبَ لذلك باﻟ «إمبرثيونست»، وترجَمَ كُتَّابُنا اللفظةَ إلى العربية ترجمة حرفية فقالوا: الفنان التأثيري والمدرسة التأثيرية. وهذا في نظري خطأ؛ لأن التأثير ممكن أن يكون دائمًا وزائلًا، ولا يُراد بالأصل الفرنسي غير الزائل كما قدمت. وإن في لغتنا العربية لفظةً تؤدي هذا المعنى كاملًا نجدها في مادة فعل. فمن اشتقاقاتها الفعل … وهاك بقية الخبر من القاموس:
الانفعالُ عند الحكماء التأثرُ، والانفعاليات عندهم الكيفيات الراسخة المحسوسة كصفرة الذهب، والانفعالات هي الكيفيات المحسوسة غير الراسخة — الزائلة — كصفرة الخوف (القاموس) أو كصفرة الأفق المقابل لمغرب الشمس.
إذن، يصح ويجب أن نقول: مدرسة الانفعالات، والفن الانفعالي، والفنانون الانفعاليون وصورة انفعالية.
بقي أن نذكر في هذه اللمحة الفنية العبقري الإسباني الآخَر الذي يشارك فلاسكيز في شهرته ومجده، ولا يشاركه في عذوبة النفْس وسمو التفكير، ولا عجب؛ فهو من غير زمانه ومن غير مكانه، جاء بعد فلاسكيز بنحو مائة سنة، وعاش في زمن الثورة الفرنسية والحروب النابليونية، وشهد بعد عودة البوربون، روحتهم الأخيرة، ثم الحرب الأهلية الإسبانية، ومرحلة أخرى من مراحل التقهقر؛ إذ بيعت فلوريدا للولايات المتحدة، واستقلَّت بيرو والمكسيك.
وفيها جميعًا معرض طريف للحياة الإسبانية الدينية والسياسية والاجتماعية والتاريخية، فقد جاب فنُّه الأمة ومعاهدها، من مجلس التفتيش إلى المهرجانات، إلى ساحة حرب الثيران، إلى البلاط الملكي، إلى المراقص، إلى قدس أقداس الكنيسة نفسها؛ فتناول هذه المواضيع كلها بريشته وإزميله، وحوَّلها على لوحاته ونحاسه إلى مشاهد حية ناطقة صادقة ضاحكة متهكمة.
وإن ضحكة غويا غير ضحكة سرفنتس؛ فضحكة سرفنتس تضحك وتطرب في كل مكان، وضحكة غويا هي ضحكة حفَّار القبور حينًا، وحينًا ضحكة مدمن في حانة، ودائمًا هي ضحكة سيَّاف يقطع ولا يعدُّ الرءوس!
إن فن غويا لَفنٌّ إسباني مجرد من العوامل الأجنبية كلها، هو فن ديوان التفتيش الأعلى، هو فلاسكيز بدون حرارة قلبه، وهو سرفنتس بدون حرارة إيمانه.
•••
قال العرب في قرطبة وإشبيلية كلمة ردَّدَها الكتَّاب، ولا يزالون يردِّدونها حتى في هذا الزمان دون تروٍّ وتحقيق. فقد تَصدُق في العهد الأموي الذي ازدهر بالعلم في غرناطة واشتُهر بالطرب والغناء في إشبيلية، فكانت تروج هنا آلات الموسيقى كما تروج هناك الكتب، والأغلب أنها كلمة أقرب إلى النكتة منها إلى الحقيقة، وهي في الزمان الذي عنينا به، وفي زماننا، غير صحيحة. فإشبيلية كما تبيَّنَ هي مهب النهضة الفنية والأدبية في التجدُّد، وهي كذلك من الأشجار الأندلسية التي تغرِّد على أفنانها طيور المرح والمهرجانات، ولا فرق بينها — من هذا القبيل — وبين مدينة أخرى أندلسية؛ فقد شاركت غرناطة وبلنسية وقرطبة في نهضة التجدد، كما تشارك في هذا الزمان في كل مهرجان.
إنما تختلف إشبيلية عن سائر المدن بلطف مزاجها وتقلُّبه، وشدة هواها على الدوام. هي روح مركَّبة من أرواح مختلفة متعددة، صاخبة الألوان؛ حمراء حتى الأرجوان، صفراء حتى الذهب، زرقاء حتى اللَّازَوَرْدِ، خضراء حتى الزُّمرُّد. فهي الراقصة، وهي القديسة، وهي المحسنة، وهي العاتية القلب، وهي في هذا الزمان، أو بالحري بنتها تريانا عبر النهر، محور من محاور العمال؛ يتصاعد منها دخان المعامل، وخصوصًا معامل الزليج، ودخان الاضطراب والإضراب.
وهي على الدوام إشبيلية الشاعر والفنان، والعيد والمهرجان، وهي ساحة الثيران، وساحات البخور والصلبان، والخنجر ودولاب الزمان، هي هي إشبيلية فلاسكيز وموريليو وهرَّيرا، إشبيلية ألفونسو وفرنندو وريبيرا، إشبيلية المعتمد بن عباد، وبطرس ابن إبليس!
نعود إلى إشبيلية العرب، فنسمع الدليل يقول إن هذه المدينة، إشبيلية، كانت قديمًا مستعمرة إيبرية، قائمة على طريق التجارة بين قادش ومارندا وسكمنقا، فاستولى عليها يوليوس قيصر سنة ٥٤ق.م، وبعد العهد الروماني صارت عاصمة الوندال، فعاصمة الغوط بعدهم، ثم جاء العرب — فنرجو الدليل الآن أن يستمع إلينا.
وكان في سبتة يومئذٍ السوريون، من حمص ودمشق، يريدون العبور إلى الأندلس، وعبد الملك لا يجيز ذلك لثأر كان له على أولئك السوريين، حمله في صدره من الشام، بل من الحجاز. ولكنه وقد أحاق به خطر البربر، تناسى الثأر واستظهر السوريين، فعبروا المضيق وحاربوا في جيشه مستبسلين، فغلبوا البربر في مواضع عدة، واستتبَّ الأمر بعد ذلك للعرب.
فقام أبناء عبد الملك يثأرون لأبيهم، فنصرهم المدنيون، وغيرهم من العرب، وبينهم عبد الرحمن اللخمي وعبد الرحمن الفِهري ورجالهما، ثم انضم إليهم أولئك البربر أعداؤهم بالأمس، وأصحاب ثأر اليوم، فبلغ عددهم جميعًا خمسين ألفًا، وما تجاوز عدد جيش بلج الاثني عشر ألف مقاتل.
وقعت الوقعة بين الجيشين (٧٤٢م) فانتصر السوريون فيها، ودخلوا قرطبة ظافرين، ولكنهم فقدوا قائدهم بلجًا الذي جُرِح في تلك المعركة ومات بعد أيام قليلة، فعيَّنَ الخليفة هشامٌ ثعلبةَ اليمني عاملًا على الأندلس.
وكان ثعلبة أعدل أو أقل جورًا، في معاملته الأعداء؛ أي عرب الحجاز، أي القيسيين، وما زالت العداوات مع ذلك، بل شبَّت نار الحرب ثانيةً بين أبناء الوطن الواحد، وما هو في نظر أحد الفريقين كذلك. هو وطننا نحن العرب، وما أنتم إلا سوريون. نحن — السوريين — العرب، نحن اليمانيون، وما أنتم إلا قيسيون.
السيف يثبت ما نقول؛ انتصر السوريون ثانيةً على المدنيين. انتصر ثعلبة على أمية وقطن، ابني عبد الملك وجيشهما، فأخذوا منهم ألف أسير من رجال ونساء، وباعوا النساء كالأرقاء بالمزاد، فكان ذلك أفظع أعمالهم. العربيات تباع كالجواري؟! هي الصفحة السوداء في تاريخ السوريين الفاتحين، وهي التي زادت في النفرة والضغينة بين الحزبين؛ فقام فريق من العرب يحتجون عليهما ويطلبون من حنظلة الكلبي حاكم إفريقية أن يرسل إلى أرض العدوة مَن يستطيع أن يُعِيد النظام والعدل إلى مجاريهما القديمة؛ فأرسل حنظلة أبا خطار الكلبي، من وجهاء دمشق، فقبله السوريون والحجازيون.
وكان أبو خطار حكيمًا كريمًا، فاستبشر الناس به وبحكمه، فأول ما فعله أن أطلق سراح الأسرى، وأبطل بيع الجواري العربيات، ثم سرَّحَ الجنود وأقطعهم الأراضي، فأنزل الحمصيين بإشبيلية، والدمشقيين بالبيرة، والقنسريين بجين، والمصريين بتدمير، والفلسطينيين بالجزيرة وضواحيها.
وبعد ذلك؟ حرب أخرى وخلافة أموية جديدة، سنقص عليك قصتها عندما نصل إلى قرطبة.
قال الدليل: وعندما سقطت خلافة قرطبة قام كلُّ مَن مَلك فدانًا من الأرض ينصِّب نفسه خليفة في البلاد — ملوك الطوائف!
فنستأذن الدليل لننير زاويةً من علمه.
وكان هو رئيس الجمهورية الأولى — الجمهورية اسمًا على ما يظهر — فإن حكمه دام تسع عشرة سنة، فخلفه ابن عباد آخَر هو ابنه المعتضد، فحكم سبعًا وعشرين سنة، ثم المعتمد المشهور أبو القاسم محمد بن المعتضد، الذي حكم نحو خمس عشرة سنة، ومات في المنفى بأغمات.
هذه الجمهورية أو الإمارة دامت إذن ستين سنة لا غير، فانضمت إليها خلال هذه المدة: قرطبة التي كان يحكمها بنو جَهْور، والجزيرة ورندا وتوابعها التي كانت في حوزة بني حمود، ونبلة بني يحيى، وسلبة بني مرين، وطليطلة وسرقسطة حيث تولَّدت تلك الألقاب التي قال فيها الشاعر بيتًا من الشعر ذهب مثلًا، وما كان كاذبًا فيمَن أَسْمَوْا أنفسهم عماد الدولة ونظام الدولة وجناح الدولة … وهلم جرًّا.
في هذه الحقبة السعيدة من الزمن (١٠٢٣–١٠٨٤) كانت إشبيلية أول مدينة في الأندلس، فكَسَفَتْ قرطبة حتى في العلم والأدب، فكانت في أيام المعتمد على الأخص كحلب في عهد سيف الدولة، يقصدها الشعراء والأدباء من كل نواحي البلاد؛ ليتمتعوا بأنس أميرها الشاعر ومُعطياته.
وما طال صفاء الجو للشعر والشعراء؛ لأن ألفونس السادس ملك قشطيلة وليون قام يحارب المسلمين، ويشن على مدنهم الغارات ليخرجهم من البلاد، ومع أن ملوك المسلمين جمعوا يومئذٍ كلمتهم عليه، فما تمكَّنوا من خَضْد شوكته.
لنستنجد إذن بإخواننا عبر المضيق. هناك كان قد ظهر زعيم جديد للمرابطين، هو يوسف بن تاشفين، مؤسس مدينة مراكش، وفاتح بلاد تلمسان، فاستنجده الملوك المسلمون في الأندلس فسارَعَ يوسف إلى نجدتهم. وما كاد يصل إلى الجزيرة الخضراء حتى الْتحم جيشه وجيش النصارى في الوقعة المشهورة؛ واقعة الزلاقة، وكان منتصرًا.
نصر الله المسلمين على يد يوسف، ثم نصر يوسف على أمراء المسلمين، فقد رأى ابن تاشفين أن أولئك العرب المقسَّمِين المتحزِّب بعضهم على بعض لا يصلحون لِمُلك هو كالجزيرة في بحر النصارى؛ فأزاحهم عن عروشهم، وقرأ عليهم فصلًا من كتاب الفتوحات المباركة.
وقد أدرك المعتمد بن عباد أن نظم الأشعار لا يقي المُلك من الدمار؛ فاستلَّ سيفه على يوسف، وكان مدحورًا، فنُقِل هو والرميكية إلى أغمات بالمغرب، هو والرميكية صاحبة القصة المشهورة ببيت من الشعر:
فأُغلِق على الوزير الشاعر، وفُتح على جارية كانت تتنزه في تلك الساعة على ضفة النهر الكبير، وهي قريبة من المَلك المتنكِّر ووزيره، فسمعته يقول:
فقالت على الفور:
تلك الجارية هي الرميكية، وتلك الساعة هي الأولى من أيام وأشهر وسنين نادرة في حياة المحبين.
نسج الريح على الماء زَرَد!
وكان ملك المعتمد كالريح على الماء.
وكانت حياته والرميكية كالنسيم العاطر في روضة العاشقين.
قال الدليل: وحمل المهَّاد على المراويد — الموحدون على المرابطين — وانتزعوا المُلك منهم في سنة ١١٤٧.
ودخل القديس إشبيلية ظافرًا، ثم طرد منها المسلمين — ثلاثمائة ألف من المسلمين.
•••
إيه إشبيلية العرب، ما أقصر يومكِ، وما أطول ذكراكِ!
وما أنصع يمينكِ، وما أقتم يسراكِ!
المعتمد الشاعر، والمعتضد السفاح، كلاهما كان أميركِ، وكلاهما كان نِيرًا عليك.
كلاهما أحب نفسه، ثم أحبَّك، وما أخلص لكِ.
ونفس المعتضد في جماجم الأعداء، المزروعة بالزهور.
الشعر في الفواجع، والشعر في الغرام!
والحكم لله — وللمرابطين.
وهل يُحتقَر الشِّعْر، وهو من روح الله؟!
عادت الرميكية وأميرها من رحلة في الشمال حيث شاهدت الثلج على أفنان الأشجار، فراقها المشهد، وغدت في إشبيلية حزينةً تحنُّ إليه، فسألها أميرها الشاعر الملك: ما بكِ؟ فقالت: أشتاق إلى منظر الثلج. فقال سترينه من نافذة هذا القصر.
وجاء بأشجار من اللوز فغرسها في الحديقة، واللوز يزهر في الشتاء. وها هو ذا يا اعتماد، الثلج على الأفنان!
ما أجمل حبك، وما أرقَّ شعورك، وما ألطف خيالك، أيها الملك، يا شاعر الحياة!
وكان المعتضد يأمر بالتعذيب، وبالقتل، وبسلخ الجماجم، ولا يأذن لعينه أن ترى، ولا ليده أن تلمس غير الزهور.
ما أدق ظلمك، وما أرق خيالك الدموي، أيها الملك، يا شاعر الموت!
وبذكرى الاثنين يتلمظ التاريخ …
في حديقة القصر شجرة من المنغولية، جذعها ضخم قصير معقد قبيح الوجه، وأغصانها عالية وارفة زاهرة، هي أكبر شجرة شاهدت من نوعها، وهي رمز ذينك العهدين من حكم بني عباد. جذعها ضريح المعتضد، وزهرها يردِّد ذكرى المعتمد كل ربيع؟
وفي الطابق الأسفل من القصر، وراء شجرة المنغولية، ذلك الحمَّام الذي كانت تستحم فيه ماريا باديليه حظيَّة بطرس أخ المعتضد.
وجدران ذلك الحمَّام لا تزال تسمع قهقهة أولئك المخنثين الذين كانوا يشربون من الماء الذي تستحم فيه باديليه الحسناء.
وبطرس والمعتضد لا يسمعان اليوم غير قهقهة الأبالسة، وهم يهيئون لهما شرابًا من غسلين!
فيا أيها الملك الشاعر، ويا أيها الملك الحكيم، إن ذكركما الطيب لَخالد بين زهور المنغولية ورياحين درب العشَّاق!
في عهد الإمبراطور هدريان (١١٢–١٣٨) نشأت في سوريا هندسة سورية شكلًا وزخرفًا؛ ذلك لأن في البلاد تكثر الحجارة ويقل الخشب، ولأن الروح الشرقية تميل إلى الزخرف والتزيين، وكثيرون من البنَّائيين في ذلك العهد وبعده كانوا سوريين، أو أنهم تمرَّنوا في سوريا، وآثار فنهم ظاهرة في قصر الإمبراطور ديركليسيان ﺑ «سبالاتو»، وفي بعض مباني الإمبراطور قسطنطين في القسطنطينية.
قال الدكتور فرديناند كلر Keller السويسري في كتابه «غارة العرب على سويسرا»، الذي ترجمه الأمير شكيب أرسلان وضمنه كتابه «تاريخ غزوات العرب» صفحة ٢٧٣ ما يلي:
كانت مادة النسيج من الخز وخيوط الفضة مصنوعة بالتطريق، وكانت تدور بخيطان الفضة بنود من الحرير الأصفر بحيث لا تزال الفضة تلمع في أثناء النسيج، وتنعكس عليها ألوان الأطلس الأصفر، فيخال الرائي تلك الفضة ذهبًا.