الفاتحون العرب والإسبان
وكان أهل المدينة قد أقفلوا أبوابها، ووقفوا في الأبراج وعلى السور يدافعون عنها، فدار القتال بينهم وبين العرب، واشتد وطال.
وكان موسى قد فتح إشبيلية، بعد أن حاصَرَها أشهرًا، وقرمونة، بعد قتال شديد، فأبت عليه همته العالية أن يعود من أمام ماردا مدحورًا.
استمر القتال، تتخلله الحيل الحربية، وأولها وأحبها لدى العرب الكمين، وكان الليل حليف الكمين؛ فانقضَّ على أهل المدينة عند خروجهم صباحًا للقتال، ففتك بهم فتكًا ذريعًا، فمات كثيرون، وفرَّ الآخرون هاربين.
مع ذلك ثبت أهل ماردا في الدفاع من وراء سورهم المنيع، فعمل العرب دبَّابة، دبَّ تحتها الفدائيون إلى برج من أبراج المدينة، فنقبوا الصخر الكلسيَّ، ووصلوا إلى حائط في داخله من الجلمود، فعملوا فيه الفئوس والمعاول، فاستفاق من صوت ضرباتهم العدوُّ، وقابلهم بما كان منهم يوم الكمين، فاستشهد جميع مَن كانوا تحت الدبابة، وأُسمِي ذلك البرج بعدئذٍ برج الشهداء.
وكانت بعدئذٍ الهدنة، فخرج وفد من أهل المدينة يفاوِض في الصلح، فدُهشوا لما رأوا أن قائد الجيش شيخًا ذا لحية بيضاء؛ فاستمعوا إليه وحملوا شروطه إلى أهلهم. كان ذلك في أواخر رمضان.
ثم عادوا في اليوم التالي، فإذا الشيخ صاحب اللحية البيضاء كهل بلحية حمراء، هو هو موسى بعينه، وقد صبغ لحيته بالحناء للعيد، أو لحسناء من حسان ماردا، والنصيريون كما يظهر قوَّامون على الأعجميات. فقد تزوَّج عبد العزيز بن موسى أغيلونة زوجة ردريق ملك الغوط بعد الوقعة التي قُتِل ذلك الملك فيها، وها هو ذا والد عبد العزيز أبو اللحية الحمراء، يمشطها بأنامله الرفيعة ويردُّ ذلك الوفد عن وجهه قائلًا: لا يرجع العرب عن قصدهم، ولا يغيِّرون في مطالبهم.
عاد الوفد يشاوِر أهله، فصبر المارديون، وما وهنوا في المساومة علَّهم يخلِّصون شيئًا من المفروض عليهم، ولو حليَّ الكنائس، فعادوا يساومون، أو كما يقول المؤرخ يراوضون.
وكان مجيء الوفد للمرة الثالثة يوم العيد، عيد الفطر، فدهشوا، صعقوا بما شاهدوا؛ إن هذا العربي لمن الجن يأكل ولد آدم، بل هو من الأنبياء يعمل العجائب، كيف لا وقد كان منذ يومين ذا لحية بيضاء، وكان بالأمس أحمر اللحية، وهو اليوم شاب ذو لحية سوداء! يغيِّر هؤلاء العرب لحاهم، ولا يغيِّرون كلامهم!
فما راوَضَ المارديون في ذلك اليوم، ولا فاوضوا، ولا جادلوا، ولا ساوموا، بل عادوا توًّا إلى أهلهم يقولون: إن مَن نقاتل أنبياء يتخلقون كيف شاءوا، فقد صار ملكهم شابًّا بعد أن كان شيخًا. أعطوه ما يسأل، ولا تترددوا، ولا تماطلوا، ولا تسوِّفوا.
صالح أهلُ ماردا العربَ — سقيًا في الجنة للحية موسى! — على كل ما طلبوا، فدفعوا للمسلمين دِيَة القتلى يوم الكمين، وأموال مَن فرُّوا من المدينة هاربين، وحليَّ الكنائس للقائد نفسه!
ثم فتحوا له المدينة في ذلك اليوم، يوم عيد الفطر من سنة أربع وتسعين للهجرة (٧١٣م).
كان موسى بن نصير اللخمي الحجازي كبير الهمة، عظيم الخلق، طموحًا شجاعًا، شديد الإيمان والإرادة. هو فاتح المغرب ومدوِّخ البربر، البربر الذين ارتدوا اثنتي عشرة مرة في أقل من اثنتي عشرة سنة.
علَّمهم موسى الإيمان والطاعة والإخلاص باسم الله والرسول، ووضع في رءوسهم عيونًا ترى لهيب نار الجحيم، والكافرين فيها وتحتهم المرتدُّون! فهو الذي رفع أعلام العرب والإسلام في بلدان المغرب كلها، وأدخلها في حوزة العرب المسلمين.
وهو الذي فاوضه يليان حاكم سبتة في أمر الأندلس، وشوَّقه إلى غزوها بما لدى طارق من الجنود، وبما يقدِّمه هو من السفن. قيل إن يليان فعل ذلك انتقامًا من الملك ردريق، والذي يظهر أنه فعل ما فعل لِيُبعِد أولئك العرب والبربر المسلمين عنه.
فكتب موسى إلى الخليفة الوليد يستأذنه في غزو الأندلس، فكان جواب الوليد أن اتقِ الله ولا تغررْ بالمسلمين في بحر شديد الأهوال. فأصلح موسى علمه بالبحر الشديد الأهوال قائلًا: إنه خليج يُرَى من أوله ما وراء آخِره.
وغلبت إرادة موسى خوف الخليفة، فأرسل وليَّه طارق بن زياد يفتح الأندلس.
وجاءته أخبار طارق تثير أشواقه إلى الفتوحات، وتغضِّبه بما فيها من تصرُّف يخالف أمره؛ فصمَّمَ على الغزو في دار العدوة، وشمَّر في الإعداد له، فعبر المضيق بعد طارق بسنتين بذلك الجيش من وجهاء العرب وعرفاء البربر، ومعهم واحد من أصحاب النبي محمدٍ عمرُه مائة سنة، وكثيرون من أبناء الصحابة.
ومشى موسى في غير الطريق الذي سلكه طارق، ففتح إشبيلية، كما قدمت، ثم قرمونا، ثم ماردا.
وزحف بعد ذلك شمالًا إلى طليطلة حيث كان وليُّه طارق بن زياد، فخرج لملاقاته وتعظيمه، فكان سلام وكان بعد السلام أن وضع موسى السوط على رأس طارق، ووبَّخه فيما كان من خلاف رأيه، ثم سأله عن الغنائم عندما دخل طليطلة فأتاه بها، وعن تلك المائدة …
تلك المائدة التي تغزَّل بها صاحب القصة في كتاب «ألف ليلة وليلة»، فقال إنها من عجائب الدنيا، وهي مائدة بوجه من المرمر في إطار من الخشب المذهَّب، وبأرجل من الذهب الصافي.
وكانت إحدى تلك الأرجل مكسورة، فوضع السوط على رأس طارق، فأقسم طارق بالله وبالنبي أنه لا يعلم — والله كذلك أصبتها. فأمر موسى بأن يُعمَل لها رِجل من ذهب، ثم وُضِعت في سفط من الخوص، وحُمِلت مع الغنائم.
يقول أحد المؤرخين إن موسى رضي بعد ذلك عن طارق، ومشى وإياه، مشى خلفه في جيوشه إلى الثغر الأعلى، فافتتحوا سرقسطة.
ويقول آخَر من المؤرخين إن طارقًا شكا موسى إلى الخليفة الوليد، وأيَّدَه في شكواه رسول الخليفة مغيث الرومي، فكان ذلك من أسباب النكبة التي نُكب بها.
ولكن المؤرخين متفقون في أن موسى وطارقًا اشترَكَا في غزو بلاد الشمال، فكان طارق ورجاله في المقدمة، فيجيء موسى مكمِّلًا عمل مولاه، ومثبتًا ما عاهَدَ الأهالي عليه.
مشوا في البلاد فاتحين ظافرين غانمين الغنائم، حاصدين زرع قلوب نضج للمنجل، فما كان هناك مَن يقول لا، ولا مَن كان يعارض بغير طلب الصلح.
قلت إن موسى كان عالي الهمة طموحًا شجاعًا، وما كانت إرادته مجردة من قوة التصوُّر؛ فنظر إلى تلك البلاد الشمالية، ورأى وراءها الأرض الكبيرة، أي أوروبا، فطمع بأن يقطعها فاتحًا بسم الله والرسول للعرب والمسلمين، وأن يعود إلى الشام عن طريق ألمانيا فالآستانة فآسيا الصغرى، فيسلك بعده الأندلسيون العرب طريق البر إلى الشرق بدل طريق البحر.
ولكن الخليفة الوليد قطع عليه تلك الرؤية المجيدة، فكتب يلح عليه في القدوم إلى دمشق؛ ليقف منه على حقيقة خبر الأندلس.
فقال موسى للرسول مغيث الرومي: في الشمال بلاد تنادينا، تنادي المسلمين تعالَ معنا نفتحها، فتكون شريكنا في الأجر والغنيمة، ثم نعود إلى الشام.
وبينما هو في هذه الفتوحات، إذ قَدِمَ عليه رسول آخَر من الخليفة أردف به مغيثًا، ومعه كتاب فيه توبيخ لإبطائه في العودة.
فعاد موسى من جليقيا، واستخلف ابنه عبد العزيز على إمارة الأندلس التي اندمجت يومئذٍ في ولاية المغرب، وأقرَّه بمدينة إشبيلية.
وركب البحر بعد ذلك ومعه طارق بن زياد، وأحمال من الغنائم والأموال والجواهر التي لا يُقدَّر قدرها، وثلاثون ألف رأس من السبي.
عاد الفاتح ظافرًا غانمًا، فماذا لقي من مليكه أمير المؤمنين؟
قيل إنه ما وصل إلى دمشق حتى مات الوليد وخلفه أخوه سليمان، وقيل إنه لما توجَّهَ إلى المشرق، وانتهى إلى مصر، بلغه الخبر بمرض الوليد، ووافاه كتاب يستحثه على القدوم، وكتاب آخَر من سليمان يثبِّطه، فأسرع موسى في العودة ووفد على الوليد قبل وفاته بثلاثة أيام، ودفع إليه ما معه من الذخائر والأموال، فغاظ ذلك سليمان وأساء مكافأته حين أفضى الأمر إليه.
قال المؤرخ: أوقفه في يوم شديد الحر في الشمس، وكان رجلًا بادنًا ذا نسمة — ربو — فوقف حتى سقط مغشيًّا عليه، وقال له سليمان: كتبتُ إليك فلم تنظر كتابي. هلم مائةَ ألف دينار. فقال: يا أمير المؤمنين، أخذتم ما كان معي من الأموال، فمن أين لي مائة ألف؟ فقال سليمان: لا بد من مائتي ألف. فاعتذر، فقال الخليفة: لا بد من ثلاثمائة ألف دينار. وأمر بتعذيبه، وعزم على قتله وقتل جميع أولاده.
ولقد أمر عامله بإفريقية بأخذ عبد الله بن موسى بن نصير وتعذيبه، واستئصال أموال بني موسى، فسجنه الأمير وعذَّبَه ثم أمر بقتله.
وأما عبد العزيز بن موسى فلما بلغه ما حلَّ بأبيه وأخيه وأهل بيته، خلع ابن مروان، فجاء أمر سليمان إلى وجوه العرب بالأندلس بقتله، فقتلوه وأرسلوا برأسه إلى الخليفة.
فلما أُحضِرَ الرأس بين يدي سليمان، استدعى إليه موسى بن نصير، وقال: أتعرف هذا؟
فقال موسى: نعم، أعرفه صوَّامًا قوَّامًا، فعليه لعنة الله إن كان الذي قتله خيرًا منه.
وذُكِر في وفاة موسى أنه حجَّ مع الخليفة سليمان، فلما وصَلَا إلى المدينة قال لأصحابه: لَيموتَنَّ بعد غدٍ رجل قد ملأ ذكره المشرق والمغرب.
•••
منذ أن فُتِحت ماردا (٧١٢م) إلى أن استعادها الملك ألفونس التاسع (١٢٢٨م) كانت في حكم العرب، مدينة عربية إسلامية.
توطَّنوها خمسمائة وست عشرة سنة، وكانوا سادتها، ولم يَبْقَ فيها اليوم من آثارهم الظاهرة القائمة غير الحصن.
على أن فيها، وفي ضواحيها من آثار الرومان، شيئًا كثيرًا؛ فقد كانت أصلًا مستعمرة عسكرية رومانية ثم صارت، بعد أن استقر الرومان في البلاد، قاعدة لولاية لوسيتانيا التي امتدت غربًا إلى البحر، وهي لشبونة عاصمة البرتغال اليوم، على خط العرض الواحد، وبينهما من المسافة ما بين إشبيلية وماردا؛ أي نحو مائتي كيلومتر.
دخلناها قبل الغروب قادمين من إشبيلية، راغبين في المبيت فيها، فكان نُزُلها غاصًّا بالضباط الإسبان والمُسرَّحين من الجيش.
وما رسخ في الذهن مما شاهدناه، ونحن نمر بأسواقها، غير مشهد من مشاهد الحرب المحزنة. هو في حقل قبالة إحدى ساحاتها، شبيه بهرم من الحديد المكسر المكدس بعضه فوق بعض؛ هو بقايا سيارات ودراجات ومدافع وغيرها من الآلات المحطمة والمعطلة لحرب هذا الزمان الميكانيكية، فقد كانت ماردا، على ما يظهر، مرفقًا من مرافق الثورة تصب فيه خرابها، وهو أول ما شاهدنا من خرائبها، وخرائب العمران.
شتان بين حروب الزمان الغابر وحروبنا، شتان بين خسارة وخسارات، بين دكِّ الحصون وهدم الأبراج والأسوار بالأمس، وتدمير كل ما ينتجه العلم ويصنعه الإنسان، في هذا الزمان.
بيزارو! عادت بي الذكرى إلى أيام المدرسة بنيويورك؛ إذ كنَّا ندرس تاريخ أمريكا، وما يزين ويشين أوله من الاستكشافات والفتوحات والاغتصابات، الإسبانية والإنكليزية والهولندية والفرنسية.
وها نحن أولاء في بلدة أحد أولئك المكتشفين الفاتحين، بل في ولاية استرمادورا، مهد الكبار والصغار، مَن خاضوا البحار واقتحموا الأهوال والأخطار، في العالم الجديد من الإسبان.
والمحزن هو أن أكثرهم نُكبوا في آخِر أمرهم كما نُكب موسى بن نصير وولداه وآل بيته.
أما وقد قصصنا عليك قصة موسى بماردا، فسنقصُّ الآن قصة ابن تروخيو فرنسيسكو بيزارو وبعض زملائه من الفاتحين الإسبان. فالدهر قُلَّبٌ في الناس والأمم، يُركبهم يومًا منكبيه إلى ذروات المجد والثروة، ويومًا يركبهم كالكابوس فينامون نومة «رِبْ فان وِنْكَل» وأهل الكهف.
خمسمائة سنة ركب الدهر الإسبان، فاستكنُّوا تحت كابوسه، بعد أن أنُّوا، ثم هجعوا هجعتهم الطويلة — خمسمائة سنة!
ثم ظهرت علامات اليقظة، فقاموا يدافعون عن الوطن، فاستعادوا طليطلة وإشبيلية وماردا، ووقفوا عندها، ومَن يقف يركبه الدهر!
جدَّدَ العرب صولتهم في غرناطة فأنَّ الإسبان ثانيةً، ثم استكنُّوا وعادوا إلى هجعتهم التي دامت مائتين وخمسين سنة.
ثم اتحدَتْ مملكتَا أرغون وقشطيلة، ووُلِدت إسبانيا الجديدة. نهض الشعب الإسباني.
وكانت حروف الطباعة قد اكتُشِفَتْ في أوروبا، وكان كولمبوس قد اكتشف عالمًا جديدًا، وكان قد انتصر فرنند وإيزابلة المتحدين على أبي عبد الله آخِر بني الأحمر.
وبعد اكتشاف أمريكا سَرَتْ في البلاد روح المغامرة والاستكشاف طمعًا بالذهب، وحبًّا بنشر الدين المسيحي الكاثوليكي — خسئت يا لوثير! — بين الهنود. فإن خسرت روما ألمانيا، في تلك النهضة الإصلاحية اللوثيرية، فإسبانيا الابنة التقية النقية الغيور تجيئها بعالم جديد.
منذ سبعمائة سنة كان طارق وكان موسى، واليوم — في هذا القرن السادس عشر — يوم كرتيز ومليباو وبيزارو وبنسه ده ليون وغيرهم.
منذ سبعمائة سنة مشت روح البطولة والمدنية من الشرق إلى الغرب، ولا تزال بعد سبعمائة سنة، بعد ألف سنة، تمشي غربًا — غربًا عبر الأوقيانوس — إلى العالم الجديد.
لنعد إذن إلى إسبانيا، إلى تروخيو مسقط رأس المستكشف الفاتح فرنسيسكو بيزارو.
•••
ما كاد كولمبوس يعود من رحلته الأولى حتى انتشرت في أوروبا، وخصوصًا في إسبانيا، وعلى الأخص في مقاطعة استرمادورا روح المغامرة والاكتشاف. كان بيزارو يومذاك في العشرين من سنه، يرعى خنازيره في حقول تروخيو، فترك تلك الحقول وباع تلك الخنازير، وسارَعَ إلى إشبيلية المدينة القريبة من البحر، ينشد سفينة تحمله إلى العالم الجديد، فالتقى بكولومبوس وانخرط في سلك بحَّارته في رحلته الثانية.
وبعد عودته من تلك الرحلة رافَقَ بلباو في رحلته إلى أمريكا الجنوبية. بلباو مكتشف الأوقيانوس الهادي، كما سنذكر في الكلام عنه. كان يزن ذات يوم شيئًا من الذهب جمعه من الأهالي، فضرب أحد الهنود الميزان بيده ونثر الذهب على الأرض قائلًا: إن كان هذا ما تطلبون وتشتهون، فأنا أدلكم على بلاد يأكل أهلها ويشربون بآنية من الذهب.
كان ذلك الهندي يعني مملكة بيرو التي عزم بلباو على اكتشافها، فحالت الأقدار دون ذلك، وقد خدمت تلك الأقدار بيزارو، الذي عاد إلى بلاده ليهيِّئ حملةً لاكتشاف بيرو وفتحها.
فنزل الإسبان إلى البر بشيء من الأهبة التي كان لها وقعها في قلوب الأهالي الهنود، فرحَّبوا بالأجانب أجمل ترحيب، وهم يظنونهم من أبناء الآلهة.
وكأنهم ثبتوا في ظنهم عندما زاروا السفينة، وشاهدوا ما فيها من أسباب العلم بالملاحة ومن الذخيرة والمئونة والدجاج؛ فعجبوا جدًّا للدجاج، وقدموا للأجانب في اليوم التالي هدية الترحيب والضيافة خبزًا وثمارًا ورأسين من اللاما؛ غنم البيرو التي أسماها الإسبان الجمال، وقد أهدى بيزارو زعيم القوم فأسًا من حديد، وهو أندر وأعز عندهم من الذهب عند النصارى.
– وهذه البندقية! أشار الزعيم إليها. فسأله بيزارو بواسطة الترجمان إذا كان يريد أن يشهد عملها، فأجاب الهندي بالإيجاب؛ فأمر بيزارو أحد رجاله أن يطلق بندقيته على هدف من خشب، فأطلقها، فلما سمع الزعيم ورجاله دويَّ البارود ورأوا فعله في الخشب المحطم، رفعوا أيديهم إلى السماء خاشعين مكبِّرين.
لقد اكتشفنا بلادًا جديدة، فيجب أن نحتلها باسم الملك، ولا يسهل ذلك بغير هذا العمل الذي يُلقِي الرعب في قلوب أهل البلاد.
وقد حار أتاولبا بأمر هؤلاء الناس؛ فلو كانوا من أبناء الآلهة لما كانوا يقابلون معروفه بالإساءة، فسألهم ذات يوم ما يريدون، فأجاب الكاهن: نريد أن نهديك إلى الدين الصحيح. وأجاب بيزارو: ونضم ملكك إلى ملك إمبراطور إسبانيا.
فهزَّ رأسه ثم قال: أخبروني أنكم تريدون الذهب. فإن أطلقتم سراحي أفرش لكم هذه الغرفة بالذهب.
أرسل بيزارو إلى رفيقه الكاهن نظرة استفهام وإعجاب، ثم سمع أتاولبا يقسم بربه، ورآه يرفع يده إلى أعلى ما يستطيع من الحائط، ويقول: إن أطلقتم سراحي أملأ لكم هذه الغرفة إلى هذا الحد بالذهب.
وكان من بيزارو برهانًا على حسن نيته أن رفع القيود عن الإنكا، وأذن لأهله وبعض وجهاء المدينة في زيارته، فكانوا يخلعون نعالهم قبل أن يدخلوا الغرفة المسجون فيها.
فقال بيزارو لكاهنه: نحن لا نحترم قديسنا احترام هؤلاء البرابرة لمليكهم، ولكنهم على ضلال، وكل ما عندهم من الذهب هو في غير محله.
وما مرَّ الشهر حتى جاء الرسل بالذهب، بالتحف والأواني والمواعين الذهبية، فملئوا الغرفة بها إلى الحد الذي أشار إليه الإنكا بيده، فكادت عيون أولئك الإسبان تطير من رءوسهم، لما شاهدت.
وقد قرَّر بيزارو القسمة، بعد أن أفرز ما يوازي الخمس ليُرسَل إلى الملك بإسبانيا.
وقرَّر كذلك أن تُصهَر تلك الآنية والمواعين والكنوز؛ ليتمكَّن من توزيع قسمة رجاله على السواء بينهم.
على أنهم أبقوا على بعض التحف الفنية لتُرسَل إلى الملك، ومنها ما هو آية في التوريق وتقليد الأزهار والثمار، وكان بيت القصيد عرنوس من الذرة بحَبِّه الذهبي الملفوف بأوراق من فضة، وقد تدلَّت منه شرابة خيوطها من ذهب.
صُهِر الباقي من الذهبيات، وأُعِيد صبه سبائك بالوزن الواحد، فبلغت قيمتها ما يوازي ثلاثة ملايين ليرة إنكليزية!
فأين منها غنائم طارق وموسى؟ وأين من هذه التحف المائدة الذهبية التي أصابها طارق في طليطلة؟
وبعد كل هذا لم يظفر أتاولبا بحريته، فلقد صدق هو وبَرَّ بوعوده، وأخلف بيزارو وشركاه بوعودهم.
فكيف يستولون على مملكة بيرو ومليكها حيٌّ يُرزَق؟
لقد قدموا للجريمة بعمل مسيحي، وكان الكاهن هذه المرة ممثل الدور الأول في الرواية.
– إلهك، يا أتاولبا، غير الله خالق السموات والأرض، وخالقك وخالقنا.
– خالقكم وخالقي؟ إذن نحن إخوان.
– إخوان بالرب.
– نريد أن نعرِّفك إليه، تعالَ ونقرِّبك منه قبل أن نعيد إليك حريتك، وقبل كل ذلك يجب أن تُنكِر إلهك وتَنبذه؛ فلو كان إلهك حقًّا لَخلَّصَك من الأسر، بل ولما أذن في أسرك.
هو ذا البرهان الذي أفحم أتاولبا؛ لماذا يتركني الرب ربي، فلو كان ربًّا لما تركني.
وقيل إن أتاولبا اعتنق الدين المسيحي، وكتب اسم الله على ظفر إبهامه، وشرع يردِّده صباح مساء، وهو لا يزال أسيرًا.
قال الكاهن لوك: ولك في الدين الصحيح التعزية الكبرى.
وماذا بعد ذلك؟
قال المؤرخ بريسكوت: إن إعدام آخِر إنكا لمملكة بيرو، الإنكا أتاولبا، لَمِن أفظع ما ارتكبه أولئك الإسبان.
أسلفت القول إن لبيزارو شريكين، وقد شهدت وسمعت شريكه الكاهن، أما شريكه الجندي دياغو ده ألمِغرو فقد توغَّل في اكتشافه شواطئ شيلي، وعاد إلى بيزارو يقتسمان ملكهما، فاختلَفَا في الحدود والسيادة واحترَبَا، فغلب بيزارو ألمِغرو، وأمر بإعدامه فأُعدِم.
وكان للقائد ألمِغرو ابنٌ هُمَام محبوب من رجاله، فلما قام يثأر لأبيه نصروه، وراحوا جميعًا يطلبون بيزارو، فظفروا به في عاصمة بيرو وقتلوه سنة ١٥٤١.
انتهت هذه الأخبار المفجعة إلى الإمبراطور شارلس الخامس، فعيَّنَ نائبًا له في البلاد الجديدة، التي اكتشفها بيزارو، وبعث معه قوة كافية لقمع الفتن وتثبيت الأمن والنظام، فأرسلها نائب الملك فور وصوله إلى بيرو على ألمِغرو ورجاله الثائرين، فوقعت بينهم الوقعة التي قُتِل فيها الابن وجُرِح وأُسِر أكثر رجاله.
كذلك انتهت المقدمات الدموية للاستيلاء المنظم، وكذلك انتهت حياة بطل تروخيو وشركائه في اكتشاف أرض الذهب واغتصابها من أهلها الهنود.
•••
وخَرَّ بلباو ساجدًا يشكر الله، ثم نزل من الجبل إلى الشاطئ الغربي، وصاح بملء صوته قائلًا: هذا البحر وهذه الأرض ملك إسبانيا، وإني أرفع فوقها العلم الإسباني باسم الله والملك.
وكان بلباو قد عزم على مواصلة الاكتشاف على تلك الشواطئ الغربية؛ ليصل إلى البلاد التي قيل له عنها إن أهلها يأكلون ويشربون في آنية من ذهب؛ أي بلاد بيرو، التي اكتشفها بعده بيزارو، كما قدمت.
لله من القانون بيد صغار الأنفس والعقول! وما شأن بلباو وبدرارياس غير شأن كل كبير ذي عبقرية، وكل صغير ذي سيادة.
ولقد زكَّى ذو السيادة حسده وكيده بالغدر، فأغرى بلباو بكتاب استدعاه فيه إليه، فلما حضر ألقى القبض عليه وسجنه، ثم اتهمه بخيانة الوطن، وأجبر القاضي على أن يحكم عليه بالإعدام.
•••
وكان بُنسه في اللامْأَلِف من عمره، والأَلِفْبَاء من جديد آماله، فشمَّر في الاستعداد للرحلة الكبرى، للاكتشاف العظيم. وهل اكتشاف أعظم منه في العالم الجديد، بل في العالم كله؟!
أبحر بنسه ده ليون ورجاله من إسبانيا الجديدة، ينشدون ذلك النبع، فوصلوا إلى أرض كثيرة الأزهار؛ فأسماها لذلك فلوريدا، ونزلوا فيها. ومشوا يبحثون داخل البلاد ويسألون، ولا يبالون بالمشقات والأخطار، بل يحاربون وهم يبحثون، يحاربون الهنود الذين كانوا يصدُّونهم ويردُّونهم ويرمونهم بالنبال.
وأين نبع ماء الشباب؟! بدأ الرجال يشكُّون، ويشكُّون في صحة ما سمعوا؛ فقد كان ذلك النبع يتوارى كلما تغلغلوا في البلاد، يتوارى في عالم العدم!
وأوشك رجال خوان بُنسه ده ليون أن يتمرَّدوا، وما سكنت عداوات الهنود، فتراجعت الحملة إلى شاطئ البحر، ومنه إلى المستعمرة بجزيرة هايتي.
حشد خوان بُنسه ده ليون جيشًا للمستعمرة، وعاد به إلى أرض الأزهار، وما كانت العودة حميدة؛ فما كاد المستعمرون ينزلون إلى البر، ويشدُّون الأوتاد حتى قامت عليهم قيامة الهنود، وَلْوَلَ الهنود مستنفرين وهرولوا مستبسلين: العدو، العدو! جاءوا يطردون العدو من بلادهم، وشنُّوها عليه حربًا حامية؛ فقتلوا عددًا من الإسبان، وشرَّدوا الآخَرين.
وقد أُصِيب بُنسه ده ليون سنة ١٥٢١ بسهم ما شفي من جرحه. مَن لم يَمُتْ بالسيف مات بالنبال!
وما كان ولاؤهم مجرَّدًا من الريب والتفلسُف.
– إن كنتَ ابن الشمس، كما تدَّعِي، فأعطنا البرهان. نشِّفْ هذا النهر، نصدقك.
لقد كانت حملة ده سوطو أكبر الحملات الاستكشافية وأتمها، حملة مؤلفة من ستمائة رجل بمعداتهم للقتال، وبنوافل الأبهة، حملة فخمة بخيلها وبنادقها ورماحها وأعلامها وأبواقها وخوذاتها اللامعة.
فلا عجب إذ استقبلها الهنود بشيء من الولاء، ولكن البلاد التي حلُّوها، وتغلغلوا في أوديتها وجبالها، وفي فيافيها ومستنقعاتها، كانت أصرح من الهنود وأصدق، قولًا وفعلًا، صيفًا وشتاء، في حرها وبردها وعمقها وتجهُّمها.
فلقد أمعنتْ تلك الحملة شمالًا وغربًا وشرقًا، فجابت الأراضي التي هي اليوم ولايات ألاباما وأركانسو وتانيسي، شرق النهر وغربه، وقاست من المشقات أشدها، ومن خيبة الآمال أقساها. لا كنوز، ها هنا، ولا ذهب.
إنما ها هنا حرٌّ في الصيف، وبرد في الشتاء، وجوع وبرغش وحُمَّى، فَتكَتْ كلها بتلك الحملة، فذهبت في سنتين بأكثر من نصفها، وعاد الباقون شبه حفاة عراة يتقهقرون إلى ساحل البحر.
وما نجا ده سوطو من ضربات إسرائيل في وادي الميسسبي.
مَن لم يمت بالسيف من المكتشفين، مات بالنبال، ومَن لن يمت بالنبال مات بالحمى!
وقطعوا جذع سنديانة وحفروه، وواروا جثة زعيمهم فيه، ثم بحثوا في النهر عن عمق ساتر حنون، فأنزلوه هناك سنة ١٥٤٢.
وجاء الرسول من قِبَل زعيم الهنود يسأل عن الزعيم ده سوطو، فقيل له إن الله استدعاه إليه لأمر مهم.
ثم جاء ومعه شابان من الهنود فقال: من عاداتنا، عندما يموت رجل عظيم أن نرسل واحدًا منَّا يرافقه في عالم الأرواح؛ فالزعيم يقدِّم هذين الشابين لتختاروا واحدًا منهما.