أبطال طليطلة
مثِّلْ لنفسك نجدًا من الأرض ثمانمائة متر فوق سطح البحر، فيه ضلوع وتجاويف هي منازل المياه ومجاريها، وبطاح شاسعة بينها مزروعة قمحًا، مغروسة زيتونًا، يحيط بها عند الأفق هلال من الجبال العالية. ثم مثِّلْ في وسط ذلك النجد رابية صخرية تعلو مائة متر عن مستواه، يجري عند سفحها ويكتنفها نهر نشيط ضحَّاك، هو الطاخوس، فتتصل صخور ضفتيه العاليتين بالصف الأول من الحجارة المرصوفة المتراصة على تلك الرابية، وقد تخلَّلها خطوط وحروف رفيعة معوجة كالظلال الممدودة المتقطعة؛ هي ذي طليطلة بأسواقها وساحاتها وبيوتها المزدحمة، وهي ذي طليطلة في بيئتها الجغرافية.
وجاء بعد الرومان إلى طليطُم قوم من الغوط النصارى، المتشعثة شعورهم، الناعمة نظراتهم، فحوَّلوا المعابد إلى كنائس، وسرت إليهم من الشرق نزعات لاهوتية في طبيعة المسيح ومشيئته الإلهية والبشرية، فعقدوا المجتمعات لتمحيص تلك النزعات، فازداد شعورهم تشعُّثًا ورءوسهم وجعًا. فقال فريق منهم: الحق مع آريوس. فضَجَّ الفريق الآخَر وهو يُقسِم بروما المستقيمة الرأي، واستمروا متنازعين متخاصمين حتى انتصرت الآريوسية في بلدهم — انتصرت إلى حين. ثم قام أحد ملوك الغوط يطهِّر البلد من تلك الهرطقة الخبيثة، فطهَّرَها تطهيرًا، وغسلها بالدم، وأعادها إلى حضن الكنيسة الرومانية الكاثوليكية المقدسة سنة ٥٨٩م.
وأولئك الغوط النصارى المتشعثة شعورهم الساجية عيونهم اللطيفة اللحاظ، كانوا يتسلون بتعذيب اليهود، ويتقربون من الله وقديسيه بأموال يبتزونها من «شعب الله الخاص»، فلما جاء طارق بن زياد من جنوبي المضيق، ووضع السيف في رقبة مليكهم ردريق، ومشى بجيشه المظفر في البلاد، فاتحًا غانمًا باسم الإسلام والعرب، كان يمشي أمامه أبناء إسرائيل أدلاء أولياء، فيَصدُقونه الخبر فيما كان عامرًا من البلاد وخصبًا من الأرض.
ووصل طارق إلى طليطُم ففتحها، وغنم الغنائم، وخيَّرَ الغوط أهلها في واحدة من ثلاث نِعَم؛ فمنهم مَن فادوا بآريوس وروما ودخلوا في الإسلام، ومنهم مَن فرُّوا هاربين، ومنهم مَن دفعوا الجزية، وأقاموا والمسلمين في طليطلة — طليطلة الآن — آمنين مطمئنين.
وثبتت قدم العرب في طليطلة، فبنوا المساجد، وأنشئوا المدارس والمعاهد الصحية، لهم ولإخوانهم الجُدُد والذمِّيين، ثم قالوا لأولئك الذمِّيين قولًا صريحًا أيَّدوه بالسيف الناطق في غمده: أنتم في ذمة الإسلام، وهؤلاء اليهود في ذمتكم أبناء بلدكم إخوانكم؛ فأَحسِنوا إليهم نُحسِنْ إليكم.
تنفَّسَ بنو إسرائيل الصعداء، ورفعوا الصلوات إلى ربهم يهوه؛ ليكلأ الإسلام والمسلمين، وشرعوا بعد ذلك يُصلُّون بلغة الفاتحين — سبحان رب العالمين!
انعقدت عُرَى الولاء والإخاء بين جميع سكان طليطلة في ذلك العهد العربي السعيد، الذي دام ثلاثمائة وخمس وسبعين سنة، منقطعًا طبعًا في سعده، تقطُّع حبل الخير في الإنسان.
ومما لا ريب فيه أنه كان أسعد زمان من أزمنة هذه المدينة، فازدهرت فيها الثقافة العربية العبرية، وشيِّد فيها صروح للعمران؛ فتعددت أنوال النسيج، وتجددت مصانع الحديد والسلاح، فازداد عمران طليطلة، وبلغ عدد سكانها مائتي ألف نفس. طليطلة السعيدة، بنت قرطبة السُّعدى. وبعد ذلك؟ لكل شيء إذا ما تَمَّ نقصان!
وما أسرع ما كان نقصانه في العرب، وما أشده وأعمَّه، العرب … ليس في الفاتحين شعب يضاهيهم اقتدارًا وانتصارًا، وليس في المتقهقرين مَن يستطيع أن يشق غبارهم. سقطت قرطبة، فتعدَّدت القرطبات الساقطات، بل تعدَّدت الإمارات المستقلات، والألقاب والسخريات، والضغائن والمذلات، إنما لطليطلة في عهد بني ذي النون يوم آخَر من أيام النعيم، يوم مقداره خمسون سنة.
ثم دارت بهم الأيام، فجاء ملك البلدين المتحدين، قشتالة وليون، الملك ألفونس السادس، سنة ١٨٨٥، يساعده ذلك البطل الصنديد زيد السروجي — السيد ابن بيبار — فتغلَّبَ على أصحابها العرب، ودخل المدينة ظافرًا، وصلى كُهَّانُه صلاتهم الأولى في مسجدٍ من مساجدها، وبعد سنتين نقل عاصمته من برغوس إليها، فتغيَّرَت روح طليطلة، تغيَّرَت وما تطورت، بل عادت إلى الوراء، إلى عهد الغوطيين، وعادت إليها الشعور المشعثة، دون العيون الناعمة اللحاظ.
بل كانت العيون في الزمان الجديد حمراء جاحظة باسم الدين الصحيح، دين المسيح، فتركَّزت السيادة وانحصر خيرها وشرها، كما انحصر صَوْلها وطَوْلها، في الإكليروس. وأمست طليطلة تُدعَى «روما إسبانيا»، فاشتهر فيها أصحاب الأرجوان ذوو القلنسوة منهم، وذوو العراقية الحمراء، الأساقفة والكرادلة، أولو الأمر والنهي، فكانوا دولةً ضمن دولة، فأنشئوا المدارس، وأسَّسوا المستشفيات وعمَّروا الجسور والحصون، وجدَّدوا في الناس النعرة الدينية الخبيثة، نعرة التعصب والاضطهاد؛ فكان اليهود أول المضطهدين. أجل، قد عاد الناس إلى تقليد أجدادهم الغوط؛ إلى تعذيب اليهود فيسخَّرون ويُبلَّصون، ويسامون أنواع الذل والعذاب، باسم «الدين الصحيح؛ دين المسيح».
قال المؤرخون إنه ليس من حادث في تاريخ إسبانيا في القرون الوسطى إلا ولأساقفة طليطلة يد فيه، إن خيرًا أو شرًّا.
لقد كانت قرطبة مهد أمثال ريشيليو، فكانوا يُعدُّون بالعشرات، فكَسَفتْ عظمتهم عظمة الملك، وقد أبى فيليب الثاني أن يستظل بظلهم، فنقل بلاطه إلى مدريد التي صارت بعد ذلك عاصمة إسبانيا الوحيدة.
منذ ذلك الحين بدأت طليطلة مرحلتها الأولى في التقهقر، وما طال أمرها هذا حتى أمست من الدرجة الرابعة أو الخامسة في مدن إسبانيا، وأمست المائتا ألف من سكَّانها عشرين أو خمسة وعشرين ألفًا فقط.
وطليطلة اليوم هي المدينة الإسبانية الوحيدة التي لا يزال طابعها العربي سليمًا في شكله القديم، لا جديد في بناء طليطلة، ولا تجدُّدَ في حياتها؛ بيوتها عالية واجمة، ذات أبواب ضخمة، مصفحة بالحديد، بخوخات تذكر بأبواب القلاع والقصور، وبحلقات — دقاقات — طريفة الأشكال، وبنوافذ تفتح على الصحن لا على الجادة، وأكثر تلك الجادات لا تأذن لغير الأرجل البشرية أن تطأ حجارتها — وأرجل أشباح الماضي كذلك — فيسود فيها على ازدحامها سكون رهيب. هو الماضي يحيِّيك صامتًا، وقد يهمس في قلبك باللسان العربي كلمة حنين وأسًى، من وراء خَوْخَة مفتوحة تنيرها عين نجلاء، أو من خلال الدقات لحلقة صقلتها أيدي الطوارق والطرَّاق.
أسواق طليطلة وجاداتها، إنها في ضيقها والتفافها واعوجاجها لكالسراديب، تضيع فيها، وإن كنت لا تضيع في لندن أو باريس، وإنك لَتفرحن بالجادة إن كنتَ من أولئك الذين تروقهم الاكتشافات التاريخية والمعنوية في غابر الأحقاب والأجيال. تلك الجادات تنقلك روحًا وجسمًا إلى عهد العرب في القرن الثالث للهجرة.
أما قصر طليطلة، فهو مثل صورةٍ من صور ذلك الفنان العظيم، عُثر عليها في خرائب الزمان، محروقة الأطراف بالية ممزقة، فيلوح خلال الخروق فيها والحروق، شيءٌ من جمال عتيق، في بقية من الألوان الرائعة. ولقد شاهدته في مثل هذه القرون الغابرة، فهو كثير النكبات، دُمِّر ثلاث مرات، وذهب مرتين فريسةَ النيران، فأُعِيد بناؤه في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأُسِّسَ فيه سنة ١٨٨٢ مدرسة عسكرية.
فالقصر قصور بحصون وأبراج، في قلبه صحن بأروقة إغريقية الهندسة، وفي وسط الصحن تمثال لكارلوس الخامس ممتطيًا حصانه.
هذا قبل الثورة الأهلية الأخيرة، وأما بعدها فالقصر عاد إلى ما أَلِفَه في الماضي من الدمار. تدخل إليه من بين الردوم، وتقف في صحنه أمام قاعدة التمثال، والحصان مطروح على الأرض، والفارس — كارلوس الخامس — لا يزال على الصهوة، كأنه جزء متمِّم لها! ضربه بقنبلةٍ طيارةٌ من طيارات الحكومة الجمهورية رَمتِ الحصان وما رمتْ راكبه! قال الدليل التقيُّ: هي ذي أعجوبة من أعاجيب الحصار، بل من أعاجيب إسبانيا الخالدة؛ يسقط حصانها ولا تسقط هي!
والحق يقال إن حصار القصر في الشهرين الأول والثاني من الثورة لَمِن أروع مظاهر البطولة البشرية، فقد كاد العالم ينسى طليطلة، وكادت طليطلة تتوارى في خمول ذكرها عن عين الشهرة والتاريخ، فأعادها ذلك الحصار إليهما، بل عاد بها إلى أيامها الأُوَل؛ العربية والغوطية المشهورة بالبسالة والبطولة، فوقف العالم صباح مساء من شهري أوغسطس وسبتمبر ١٩٣٦ يستمع إلى حديث ذلك الحصار وأهله الفدائيين.
وقد انتخب الضباطُ كبيرَهم الجنرال مسكردو قائدًا، فأمر في ٢١ يوليو بأن تُقفَل كل أبواب القصر، وأُعلن فيه الحكم العرفي.
منذ ذاك اليوم بدأ الحصار، فطار فوق القصر طائرات الحكومة، ورَمَتْ بعض القنابل، فقُتِل اثنان، وجُرِح أحد عشر. ثم رَمَتِ المناشير وفيها بيان وإنذار، ذهَبَا مع الريح، بل كانت القنابل والإنذارات تزيد المتحصنين رغبةً في الدفاع وشدةً في المقاومة.
أُعدِم ابن الجنرال مسكردو بالرصاص في ذلك اليوم، واستمر الحصار، فازداد المتحصنون نشاطًا وعزمًا.
ثم حاولت الحكومة أن تخلِّص النساء والأولاد قبل أن تضرب الضربة القاضية؛ فقالت في منشور رمته إحدى طائراتها إنها ستعفو عنهن وعن أولادهن إن استسلموا وأخلدوا بعد ذلك إلى السكينة، فقالت النساء للجنرال ليبلِّغ الحكومة أنهن يفضِّلن الموت مع رجالهن على هذا الأمان.
هي بطولة المسيحيين الأولين، فرائس السباع بروما. هي البطولة التي تتجاوز حد الشجاعة الجسمانية؛ لأن منشأها العقيدة والإيمان، وقد تجَلَّتْ في أولئك الإسبان، وفي ذلك المكان التاريخي، وفي تلك المدينة القديمة الجليلة، كأن أرواح شهداء الماضي وأبطاله قد تجسَّمَتْ فيهم، فكانوا جميعًا قلبًا واحدًا وروحًا واحدة مع زعيمهم وقائدهم مسكردو، ذلك الأب الروماني وابن هذا الزمان العجيب، الشامل لكل ما مضى، الخصب في كل شيء.
استمرَّ الحصار شهرًا، وتلا الشهرَ شهرٌ آخَر، والحكومة ترمي القصر بالقنابل من مدافعها الضخمة، وبالقذائف من الطائرات. ثم في ٩ أيلول طلبت من القيادة أن ترسل إليهم رسولًا حاملًا قرارًا فيه خيرهم، فجاء الرسول فأُدخِلَ القصر بعد أن شُدَّتِ العصابة على عينيه ثم حُلَّتْ في مكتب الجنرال مسكردو، فكان حديث وكان سكوت. أُخرِج الرسول من القصر كما أُدخِلَ إليه، فعاد يحمل جواب مسكردو، بل جواب عائلته المحصورة جميعًا؛ تفضِّل الموت على التسليم، إنما تطلب من الحكومة طلبًا واحدًا فقط، وهو أن ترسل إلينا كاهنًا يعرفنا ويعطينا القربان المقدس.
أجابت الحكومة طلبهم بأن أرسلت كاهنًا إلى القصر، فقام بواجبه، فسمع المحاصرون القدَّاس، واعترفوا وتناولوا القربان المقدس، وعمَّدت أمٌّ طفلها ابن شهر — وُلِد في ذلك الحصار — وهي تقول: فدية لمَن فدانا بدمه على الصليب وفدية لإسبانيا.
ثم مضتِ الحكومة في عملها، وقد كانت حفرت لغْمًا تحت القصر من الجهة الجنوبية الغربية، وحشت الصخور في الأساس بالديناميت.
وفي صباح اليوم الثامن عشر من أيلول أُشعِلت النار في الأسلاك الممتدة إلى تلك الألغام، فحدث الانفجار الذي ملأ السماء دخانًا ودويًّا، وتردَّدت أصداؤه في أسس المدينة، وفي اضطراب أمواج النهر الذي يحيط بها.
وقد تلا ذلك الانفجار هجوم على المحاصرين، فصمدوا للعدو في الأروقة والسراديب، واحتدمت المعركة في دخان ذلك الانفجار، وبين الجدران المتهدمة، فكُتِب النصر لرجال الجنرال مسكردو.
رجع جيش الحكومة مدحورًا، واستأنَفَ العمل في الحفر تحت القصر ووراء جدرانه، فكان المحاصَرون يسمعون وقع أصوات الحديد على الصخور، ولا ينتظرون هذه المرة هجومًا من الجنود، بل من حجارة القصر بنفسه وقد دُمِّرَ تدميرًا: سنموت جميعًا تحت الردم وبين الأنقاض.