طبائع الأرض وأهلها
مررنا بها مرَّ الجاهل السعيد، فما شممنا نفح طيبها، ولا سمعنا عندليبها، ولا وقفنا لنتحقَّق ما يقوله الدليل عنها، وإنه لَعجيب هذا التغيُّر في المناخ، والأرض واحدة في طبيعتها وعلوها. ليس بين أرنخويس وطليطلة مثلًا غير خمسة وثلاثين كيلومترًا، ولا تفاضل في العلو، ولا في جمال المكان؛ فنهر الطاخوس يجري في سهول المدينتين ويطوقهما بذراعيه، ومع ذلك فإن أرنخويس تنفرد بالحر والحمى، كما تنفرد بالقبَّرة التي تغرِّد على أفنان أشجارها المجلوبة من إنكلترا، وبالهليون الذي ينبت في أرضها.
إننا لا نزال في نجد إسبانيا، على تلك المائدة المربعة من الأرض، الممتدة شرقًا بغرب وشمالًا بجنوب، لتصل في منحدراتها العنيفة إلى البحر الأبيض والأوقيانوس، وقد قامت في شمالها الغربي جبال الرحمة بين القشتالتين الجديدة والقديمة، وفي جنوبها جبال مورينه بين قشتالة الجديدة والأندلس، تتنوَّع التربة فيها، فتخصب وتجدب وتبور، كما يتغيَّر وجهها ومناخها، وفيها التناقض الذي نجده أحيانًا في أسماء ضياعها، كقصر القديس حنا مثلًا، فمن أين جاء القصر للقديس؟ أو كيف اتصل القديس بالقصر؟ قد لا نجد في غير إسبانيا مثل هذه التناقضات في الاسم الواحد.
إن نجد إسبانيا ليختلف عن نجد البلاد العربية في علوه المستمر المستوي على مسافة بضع مئات من الكيلومترات كيفما كان الاتجاه، في حين أن نجد العرب الذي يبدأ في الحجاز عند حضن — مَن رأى حضنًا فقد أنجد — يأخذ في الانحدار المتواصل غير المحسوس، فيصل تدريجيًّا إلى مستوى البحر في الأحساء، وهو في طبيعته الجغرافية والجوية واحد، فلا تتغيَّر التربة، ولا يتغيَّر المناخ، إلا في بعض الواحات، مثل العارض. أما في نجد إسبانيا فإن العلو، بعد أن اجتزنا مائة وخمسين مترًا من مدريد هو واحد ونيف وستمائة متر فوق البحر، ولكن طبيعة الأرض بعد «قصر القديس حنا» هي غيرها في طليطلة وجوارها.
لامنشا، هي بلاد ضون كيخوته، وليس لمسقط رأسه بلد معروف ليتنافس به المتنافسون. لامنشا، وكفى. ليت شعري! لِمَ اختار المؤلف هذه الأرض اليابسة العابسة ليمثِّل فيها أعظم أدوار العبقرية خصبًا وإشراقًا؟ أَلِيُتِمَّ غرضه في تصوير زمانه اليابس العابس، وأبناء زمانه الماحلة أيامهم وأحلامهم بريشة السحر والسخرية؟ إني أجنح إلى هذا الظن. وكأني به يقول: هاكم العوسج ينبت تينًا، وهاكم التين وقد استحال عوسجًا، إيهٍ يا أشراف إسبانيا، ويا أبناء إسبانيا المقلدين للأشراف! أنتم اليوم العوسج، وقد كنتم التين، وأنتِ يا لامنشا، يا عوسجة إسبانيا ستصبحين تينة مثمرة ثمارًا طيبة للعالم أجمع. هذه هي — في نظري — رسالة سرفنتس في ضون كيخوته، وما سوى ذلك في الكتاب تفكهة وتطريب.
ليحارب إذن دواليب الهواء في هذه الصحراء، وفي صحراء إسبانيا الاجتماعية. هي ها هنا حقيقة ورمز، وما هي عالية. كان الهواء يعصف، مثل عبقرية سرفنتس، من تحت إلى فوق، فيقتصد الفلاح المنشاوي بضع دواليبه، فيجعلها من ثمانية إلى عشرة أقدام فقط فوق الأرض؛ لذلك يستطيع الفارس أن يجرد عليها سيفه أو يذيقها طعن رمحه، كما فعل ضون كيخوته، ومزَّقَها شر ممزق. أتقول إنها هي التي مزَّقت، وما وقَّرت؟ لست أذكر ما فعلت بالبطل المغوار، أو ما فعل هو بها؛ لأن عهدي بالقصة قديم.
وفي هذه الجبال تاب ضون كيخوته إلى الله، تنسَّكَ وتعبَّدَ وتقشَّفَ، وجلَدَ نفسه كفَّارةً عن ذنوبه من الفروسية، وتزلفًا إلى مليكة قلبه دلشنية الطبوزية. وفيها كذلك اجتمع بالساحر منتيسينوس، بكهفه المثير الشهير، الذي كان منجم نحاس في عهد الرومان.
لنَدَعِ الغابر من تواريخ وأساطير، ونأخذ الحياة في حاضر خبرها وخيرها، فإن في هذه الأرض قرًى كثيرة، تبدو كالبثور في وجه المجدور، وليس فيها صرح قائم غير الكنيسة، أو شيء متحرك غير دواليب الهواء، وفي هذه الأرض حياة زراعية اجتماعية قديمة العهد — رأينا النساء يحملن على رءوسهن الجرار وقد ملأنها ماءً من العين كأنهن لبنانيات أو فلسطينيات.
ورأينا العجلة الكبيرة المتقلقلة، ذات الدولابين الضخمين المقرقرين، يجرها بغل أو ثور، أو اثنان من البغال أو الثيران. رأينا هذه العجلات تتقلقل، وسمعناها تقرقر في القرى وفي المدن.
وهاك فلاح لبنان أو فلسطين، بل فلاح بابل وآشور، يحرث أرضه — يدغدغها — بمحراث ما بَلِيَ، وقد يكون محراث اللبناني أطول وأمتن ظفرًا من محراث الفلاح المنشاوي، الذي يجره بغل في الغالب أو بغلان.
عجبت لهذا القديم العاصي على أدوات الزراعة الحديثة في أرض مثل إسبانيا كثيرة السهول، ولا عجب أن ظل مستعصيًا في جبال لبنان ومنحدراتها الكثيرة الدكات، حيث يستحيل استعمال المحراث التجاري أو آلة الحصاد الميكانيكية.
إن الإسبان متشبثون بالتقاليد، مقيمون على ما ورثوه من عادة وعقيدة، إن كان في الزراعة أم في الدين، أو في البطولة — كما قدمت — أو في المعاملات التجارية، وإنهم لَمثل العرب لا يُحسِنون الإعلان لأنفسهم، بل يستنكرونه، ولا يرغبون كثيرًا في الدعاية، دينِ حكومات وأمم هذا الزمان. هم قانعون قنوعنا، متوقِّرون توقُّرَنا، ومؤجلون إلى الغد ما يستطيعون أن يعملوه في الحال. هذه الآفة تجمع بيننا وبينهم، كما تجمع القناعة والوقار بين المزارعين والتجار.
ولقد قدَّمت مثلًا من عجيب قناعتهم وصدقهم في المعاملة؛ إذ قصصت عليك قصة ساعتي في برغوس، وهاك من الأمثلة غير ذلك: وقفنا مرة في إحدى القرى؛ رغبةً بفنجان من القهوة، فجاء صاحب المقهى يخدمنا، ولكنه عندما علم برغبتنا وبأننا أبناء مدينة، أو من أهل الأمصار كما يقول عرب البادية، قال لنا: قهوتنا غير صالحة لكم، إن مشيتم إلى ساحة القرية — وهي قريبة — تجدوا ما يسرُّكم.
وكنَّا ندخل المخزن بمدريد فنسأل عن حاجة ما فتحضرها البائعة باسمة، أو البائع ساكتًا، دون أن يفوها بغير كلمة السعر، وإن كانت غير موجودة فالكلمة التي تُسمَع لا تجاوز الحقيقة، فلا يحاول صاحب المخزن أن يبيعك شيئًا آخَر، أو يلفت نظرك إلى ما هو قريب مما تبتغيه أو شبيه به: غير موجود، سنيور. وقد تتبع هذه الجملة في بعض الأحايين كلمة أخرى: قد تجد ما تريد في المخزن الفلاني في الجادة الفلانية.
قلت إن الإسبان متشبثون بالتقاليد، مقيمون على ما ورثوا من عقيدة وعادة؛ فيجب عليَّ أن أقول كذلك إتمامًا للحقيقة في جميع نواحي الحياة، إنَّ في إسبانيا روحًا جديدة، وخصوصًا في المدن الكبرى وفي السياسة والاجتماع. كنتُ في إسبانيا منذ ربع قرن، في السنة الثانية من الحرب العظمى، وكنت في ارتيادي المقاهي أعجب لوجهها المذكَّر ولِجوِّها العريق في التذكير. ما كنت أشاهد امرأة في مقهًى، وقلَّمَا كانت تُرَى ماشيةً في الشارع دون خادمة أو وصيفة لها، اللهم إلا إذا لم تكن من إحدى الطبقتين الوسطى أو العُليا. كانت المرأة إسبانية عربية.
أما اليوم فالمرأة الإسبانية أمستْ أوروبيةً، وهي تشارك في الأعمال الاجتماعية والسياسية كالرجال، ومع ذلك فهي لا تزال على شيء كثير من حشمة المرأة العربية، وهذا ما يَزيد في فضلها وفتنتها. المرأة الإسبانية مهما يكن اهتمامها بشئون بلادها السياسية والاجتماعية، لا تنطلق في زَهْوِها ومرحها، مثلًا، انطلاقَ الأمريكية أو الفرنسية، ولا تسترسل في حريتها الفكرية والنفسية استرسال الإنكليزيات.
ولا يزال في الرجل الإسباني أشياء من طبيعة العربي، من رجولته وخشونته؛ فهو في معاملته للمرأة لا يخنع خنوع الأمريكي، ولا يتصلَّب تصلب الألماني، ولا يجامِل مجاملة الفرنسي أو الإنكليزي، بل هو يجري على الطريقة الجامعة بين التقييد والتسريح، بين المعروف والعدل، فلا يحبس المرأة بالبيت في هذا الزمان، ولا يبالغ في المجاملة، كما يفعل الأمريكيون خصوصًا في الأماكن العمومية.
أعود إلى الأرض والتاريخ وأحوال الناس. لقد كان الإسبان في جهادهم العرب يتركون بورًا كل أرض يخرجونهم منها؛ ليحشدوا فيها الجيوش، ويواصلوا الجهاد؛ لذلك نرى في البلاد الكائنة بين الأندلس وقشتالة؛ أي في لامنشا واسترمادورا، كثيرًا من الأراضي غير المشجرة، وقُلِ اليابسة المالحة. فبعد أن أخرجوا العرب منها، أو بالحرِيِّ بعد أن انتزعوا قرطبة وإشبيلية وطليطلة وبلنسية من أيديهم، بقيت الأراضي المجاورة لتلك المدن والمقاطعات جدباء مدة من الزمن، وقد شغلتهم الاضطرابات الداخلية، والحروب الأهلية، بعد ذلك عن حراثتها؛ فاكتسبت طبيعة الجدب والبوار.
وكان العرب الموحدون قد جدَّدوا الجهاد يقودهم الخليفة يعقوب المنصور، فانتصروا على الملك ألفونس الثامن في وقعة العرَّاقة سنة ١١٩٥. وحاولوا بعد ذلك أن يجدِّدوا استيلاءهم على البلدان التي وراء جبال مورينه، في قلب إسبانيا؛ أي على طليطلة وسرقسطة وتوابعهما، فقام بانبارة، بعد انكسار الصليبيين للمرة الأخيرة في فلسطين، يدعو ملوك النصارى لجهاد المسلمين في الأندلس؛ فلبَّى الدعوة ملوك قشتالة والبرتغال وأرغون ونبارة، وجاءهم فِزعًا أولئك الصليبيون العائدون مكسورين من الشرق؛ جاءوا يبغون الانتقام. فزحف جيش الحلفاء الجرار إلى الأندلس، ووقف بعد أن اجتاز ممر دسبنيابوروس، بالقرب من سانتا إلبينا.