قرطبة١
من آفات عرب الفتح الأُوَل أنهم كانوا مستأثرين بالحكم، وغير عادلين في توزيع الغنائم بين المجاهدين، ومن آفات إخوانهم البربر، الذين رافقوا طارق بن زياد وموسى بن نصير، أنهم كانوا متقلِّبين في نزعاتهم السياسية، وأشد رغبةً بالغنائم منهم بالنعيم الدائم، بل كان في العرب أنفسهم كثيرون من هؤلاء المجاهدين في سبيل الدنيا وحطامها.
ومن آفات أولئك العرب الحزبيات الإقليمية؛ اليمنية والقيسية، والدولية؛ الأموية والعباسية، والمذهبية؛ الإفريقية الشيعية والأندلسية السنية.
وقد كانت الضغائن الحزبية متأصلة في صدورهم إلى حدٍّ منكر مخيف. قال أحد زعماء القيسيين: «لو أن دماء أهل الشام جُمِعت لي في قدح لشربتها.» بل كان بغض القيسي لليمني، وبغض اليمني للقيسي، أشد من بغض العرب للأعاجم.
وما اختلف البربر عن العرب في ضغائنهم وأهوائهم؛ فكانوا ينحازون حينًا إلى هذا الحزب وحينًا إلى الآخَر، فيستلُّون على القيسية مثلًا سيفًا كان يقطر بدماء اليمنية.
ومن آفات العرب والبربر على السواء أنهم يؤثرون الأشخاص في الأحكام على الوطنية، والقوة القاهرة على الحق المشروع، فينفرون مع كل مستنفِر، ولا يحسبون للمستقبل ولا لنتائج الأمور حسابًا.
ومن آفات الحكم العربي الإسلامي القديم أنه كان مبنيًّا على أوضاع دينية — تعد مُنزَّلة — وشخصيات تنفِّذها وتحافظ عليها، بدل أن يكون مؤسَّسًا على أنظمة مدنية، ودستور يحدِّد نطاقها ويحافظ عليها، فيتعلم الناس احترام الدستور احترامهم في الأقل للشخص الحاكم به، ويذبُّون عن النظام والقانون ذبَّهم عن هذا المعز لدين الله، أو ذلك المعتصم بالله تعالى.
لست أُنكِر أن الأحكام الأوروبية في ذلك الزمان كانت على الإجمال من هذا النمط العربي الشخصي الارتجالي، ولكنها تطوَّرت إلى ما هو فوقها؛ أي إلى وطنية بأنظمة، ودولة بدستور، فنشأ من الفوضى الإسبانية مثلًا نظام سياسي مدني شمل قشتالة وليون، ثم قشتالة وأرغون، فأصبح بعد ذلك إسبانيًّا دوليًّا، ثابت الأركان، وذا مرونة مع ذلك تقبل التطور.
أما الأحكام العربية والدول الإسلامية صاحبة الصول والطول في المشرق والمغرب، فما كان فيها ثابتًا إلا الجمود، والتقيد بأوضاع جامدة، لا تقبل التطور البتة، أو بالحري لا تقبل التطور ما دامت تُعَدُّ مُنزَّلة. فإما أن تُلغَى بأجمعها، وإما أن تبقى دائمًا على جمودها. هذا في الماضي وفي كل الدول الإسلامية العربية وغير العربية، ولكن ناموس النشوء والارتقاء في زماننا تغلَّبَ على «المنزلات» في الأوضاع السياسية، فتطوَّرت في العراق وفي مصر تطورًا أوروبيًّا؛ إذ أُنشِئت في البلدان حكومة مدنية دستورية.
فلو أن هذا التطور حدث في إسبانيا الإسلامية قبل حدوثه في إسبانيا المسيحية، فتكلَّلت الخلافة بدستور يُرفَع على الخليفة والرعية، ويُحترَم احترام الكتب الدينية، وبكلمة أخرى صريحة صحيحة، لو كان العرب متحدين في وطنيتهم اتحادهم الديني في العهد الأول للإسلام، ولو أنهم نبذوا الأوضاع الجامدة في الحكم نبذهم لها في الفلسفة وفي الشعر، ولو أنهم أدركوا معنى التضامن والوطنية فقدَّموا الضمان العام على الضمان الخاص الحزبي أو الشخصي، وعدلوا عن الاستظهار بالأعاجم على إخوان لهم من دينهم وجلدتهم؛ لقامت الدولة العربية المتحدة على أُسُس متينة وطيدة ثابتة، ولَدامت في إسبانيا حتى هذه الأيام.
وهناك أسباب أخرى لضعف العرب وفساد أمرهم، منها التسري وما يخلفه في الحريم، وفي الأمة، وفي الملك، من مشاكل واضطرابات وفتن، ومنها في ذلك الزمان تزوُّج المسلمين بالمسيحيات، وقد شاع شيوعًا ذريعًا خصوصًا في قشتالة وأرغون، فنشأ في البلاد صنف من الناس سُمُّوا المولَّدين وهم المولِّدون لكلِّ ما فيه اضطراب وفساد في الهيئة الاجتماعية وفي السياسة والدين. ما كان أولئك المولَّدون من الذين آمنوا، ولا من الذين كفروا، بل كانوا إمعاتٍ، حطَّابين في كل وادٍ، معفرين في كل كَرْمة وحصاد.
وشر المولَّدين على الأمة مولَّد في البيت المالك، فإن تقلَّدَ الحكم كان ضعيف الهمة والرأي، مراوغًا متذبذبًا، وإن تقلَّدَه أخ له أو ابن عم كان مثيرًا عليه الفتن طمعًا بمنصبه.
وقد مُنِيت الخلافة الأموية الأندلسية بمثل هذا الرجل، وهي في إبَّان مجدها وعمرانها، فكان ذلك من الأسباب التي عجَّلت بالطور الأخير من تاريخها، طور التقهقر والفساد، طور الفوضى والفتن، طور الاضمحلال.
هشام بن الحكم من صبح الباسكية — هشام الثاني — هو مَن أشرت إليه كسبب من أسباب التقهقر في الملك والأمة، خلال عشرين سنة؛ أي بعد وفاة حاجبه ابن عامر، وإلى أن احتدمت الحروب الأهلية فأدَّتْ إلى الفوضى والاضمحلال، وإليك البيان.
بعد وفاة الحكم الثاني خلفه ابنه هشام القاصر، فتولَّتِ الحكم أمه الباسيكية، بمشاركة غالب عم الحاجب ابن عامر وأكبر القادة في الجيش.
وكان الحاجب مزاحمهما ومناوئًا لهما، فحجر على الخليفة، فانتصر له غالب، وكان وصبحًا حلفًا عليه، فقامت الحرب بينهما، أي بين غالب والحاجب صهره، فاستظهر غالب بنصارى ليون، وما كان منتصرًا؛ فقد قُتِل في المعركة التي كُتِب فيها النصر لصهره، فدخل قرطبة مظفَّرًا، واستقل بالحكم.
ومما هو جدير بالذكر أن ابن عامر أحَبَّ صبحًا في صباها، وعندما تلاشى ذلك الحب غدت خصمًا للحبيب، لا دفاعًا عن حقوق ابنها فقط، بل تشفِّيًا وكيدًا؛ فقد حرَّضت الحكام ورجال الدولة عليه، ولا سيما زيري بن عطية، عامل الخليفة في أفريقيا الذي كان يخشاه ابن عامر، وقلَّمَا يخشى سواه.
فمهما يكن المرء عظيمًا فهو لا يطمع، إن كان سليم الوطنية، باغتصاب الملك، فيزج بالبلاد في غمرة من الفوضى تُفضي إلى الانحلال والاضمحلال. مما لا ريب فيه أن الحاجب ابن عامر كان شجاعًا وكان تقيًّا، وكان غيورًا على الإسلام، بل كان بطلًا من كبار أبطال الجهاد. غزا في سبع وعشرين سنة ستًّا وخمسين غزوة — غزوتين كل عام، في الربيع وفي الصيف — وكان فيها كلها مُوفَّقًا.
وغزا بنبلونة، ودوَّخ أرضها، وفتح معاقلها، وخرَّب حصونها.
وغزا لشبونة فدوَّخ البسائط، وفتح المعاقل، وخرَّب الحصون، وأفسد العمائر، وغنم الغنائم، وسبى السبايا، وعاد مظفرًّا.
وجاء شنتياقب، فهدم مصانعها وأسوارها وكنيستها، وعفَّى آثارها، فعادت هشيمًا كأن لم تغنَ بالأمس.
وكانت جيوشه تَذبح الرجال من النصارى، وتسبي النساء والأولاد، فيباعون أرقَّاء في أسواق قرطبة وإشبيلية وغرناطة.
ومع ذلك أقول إن الغزو غزو، إن كان من المسلمين أم من النصارى، وقد كان في الماضي في كل مكان، نهبًا وسلبًا وقتلًا وتدميرًا. ليس من أجل ذلك إذن أقف مترددًا في إعجابي بابن عامر الحاجب المنصور، ولكن هذا الغازي العظيم في تقواه، الحامل علم الإسلام وسيفه، والحامل تابوته معه في غزواته، الجامع من غبارها اللاصق بأثوابه لتُصنَع منه لبنة تُوضَع تحت رأسه في ذلك التابوت؛ هذا الغازي العظيم لم يترك أثرًا من آثار العمران والرقي في البلدان التي غزاها، ودوخ أرضها، وخرَّب حصونها.
لا يا سيدي، ليس في كل بلاد الأندلس العربية أثر واحد من آثار المنصور الحميدة، وقد كان مع ذلك طامعًا بالعرش، وغير مبالٍ بنتيجة عمله.
فلو لم يكن الخليفة هشام القاصر ما كان الحاجب المتطاول، ولو لم تكن المرأة الأعجمية النصرانية في حريم الحكم الثاني ما كان هشام، وما كان حاجبه.
وقد اتخذ في الاغتصاب أسلوبًا دقيقًا، فالحاكم بأمره عشرين سنة أراد أن يكون الحاكم بأمر الله، ولكنه صانَعَ الأمة فقال في الأول: إني الحاجب ولقبي المنصور، فلا أريد أن أسمَّى بغير الحاجب المنصور. ثم أضاف إليه سنة ٩٩١م لقب المؤيد، المنصور المؤيد، وقلَّد ابنه عبد الملك الحجابة. وفي سنة ٩٩٦ أمر بأن يُدعَى وحده في المملكة بالسيد: السيد المنصور المؤيد.
ومع كل ذلك لم يكن الخليفة، فاستمر في مساعيه حتى حمل الخليفة على أن يوقِّع صك التنازل له عن العرش.
السيد المنصور المؤيد، وابنه عبد الملك حاجبه، وهشام مجرد من الخلافة سجين في قصره؛ إذن لقد كان ابن عامر مدمِّرًا، وكان مغتصِبًا، وكان إلى ذلك السببَ الأولَ في اتحاد ملوك النصارى على المسلمين.
ست وخمسون غزوة مُوفَّقة، وهذه الغزوة الأخيرة تذهب بمجد غزواته كلها. تألَّبَ ملوك النصارى على المنصور، والتقت جيوشهم الجرارة بجيوشه المؤلَّفة من العرب والبربر والصقالبة عند نهر الدويرة، فدارت المعركة بينهم (٣٩٠ﻫ/١٠٠٠م)، واستمرت من الفجر حتى الغروب، وعندما طلب المنصور قواده في المساء ليشاور معهم في الأمر، قيل له إنهم سقطوا صرعى في القتال، وقد سقط ألوف غيرهم من المسلمين ومن النصارى، ولكن الغلبة لم تكن للمسلمين. هي المعركة الأخيرة التي خاض عبابها، وكان منهزمًا مدحورًا، فما عاش بعدها غير سنتين وبضعة أشهر.
مائة سنة من اليُمْن والمجد، تبدأ بخلافة عبد الرحمن الثالث، وتستمر في عهد الحَكَم الثاني، فيعتريها في الربع الأخير حماسة دينية من الطراز الأول، جدَّدها الحاجب المنصور في غزواته، فنبَّهت ملوك النصارى إلى وجوب الاتحاد لمقاومتها، وتجديد الحملات على العرب.
وقد تلا هذه الحقبة من الزمن ثلاثون سنة سوداء، بدأت بعهد عبد الملك المظفر، ابن الحاجب المنصور، الذي حكم سبع سنوات حُكْم أبيه، فاشتعلت نار الفتنة في قرطبة، فأخمدها المظفر، وقتل رجالها، وما غيَّرَ شيئًا في سياسة الحاجب تجاه الخليفة المسجون، فاستمرت أمه الباسيكية تقاوِم بني عامر بشتى الأساليب الظاهرة والخفية، دون أن تؤثِّر في عزمهم وخيانتهم.
وجاء رؤساء البربر ينصرون هذا الخليفة المهدي، فانقلب عليه فريق من الأمويين؛ نكاية بأولئك البربر أعدائهم، وبايعوا هشام بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، ولكن السواد كانوا مع المهدي، فقبضوا على هشام وأخيه أبي بكر، وأحضروهما بين يديه، فأمر بضرب عنقيهما.
وفرَّ سليمان ابن أخيهما — ابن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن — فاجتمع خارج قرطبة بالبربر، فبايعوه على الخلافة ولقَّبوه بالمستعين.
هذان الخليفتان، المستعين والمهدي، كمَّلا العمل المنكر الذي باشَرَه الحاجب المنصور وأبناؤه؛ فقد نصر كليهما فريقٌ من البربر، وآخَر من العرب، فقامت الحرب الأهلية بينهم، وكانت أشد ويلًا على البلاد مما تقدَّمَها من الفتن العامرية؛ ذلك لأنهما استعانَا بالنصارى الواحد على الآخَر.
وجاء المهدي يدعو «ابن ألفونس» للتحالف، فلبَّى الدعوة مسرورًا، ولسان حاله يقول: أحارب الواحد منهما بالآخَر، فأُفني الاثنين.
ودخل المستعين قرطبة ظافرًا، ثم طُرِد منها.
ودخل المهدي العاصمة منتصرًا، ثم خرج منها مدحورًا مذمومًا.
وأعاد المستعين الكرَّة، بمساعدة النصارى، فدخل المدينة ظافرًا للمرة الثانية.
وكرَّر المهدي الإعادات، بمساعدة النصارى كذلك، فاحتلَّ قرطبة ثانيةً، احتلالًا قصير الأجل، فكانت النهاية للخليفتين كما تشتهي العواذل.
وما استطاع مَن خلَفَهما من الأمويين، في السنوات القليلة التالية، أن ينقذوا السفينة من الغرق، فحكم المرتضي — عبد الرحمن الرابع — ست سنوات حكمًا متزعزعًا (١٠١٤–١٠٢٠)، وما كمل المستظهر السنة فخلَفَه ابنه المستكفي، فحكم أربع سنوات حكمًا مرقعًا، وكان لهشام الثالث آخِر الأمويين، أربع سنوات من الصداع انتهت ١٠٢٧ بدور التفكك الذي تبطَّل فيه العرب والبربر، فاستقلوا بالأعمال، كل في ناحيته، باديس في غرناطة، والغزني في روندة، والبرزالي في قرمونة، والهراون في شريش، وهلمَّ جرًّا. ثم تقمَّصَ الزعماء ملوكًا بألقاب ضخمة، قال فيها الشاعر قولة الحق؛ فكان بنو عباد في إشبيلية، وبنو ذي النون في طليطلة، وبنو هود في سرقسطة، وبنو أبي عامر في بلنسية، وبنو جهور في قرطبة، وهلمَّ جرًّا مرة أخرى.
فرح ملوك النصارى بملوك الطوائف، ولكنهم كانوا مثلهم في تلك الحقبة من الزمن؛ مشتَّتي الكلمة، متخاذلين متحاربين. فمرَّتْ خمسون سنة وهذه الحال شاملة بضرباتها المسلمين والنصارى، إلا أنه تخلَّلها في تاريخ المسيحيين إشعاعات اليقظة والنشاط، فحملوا حملات موفَّقة على أعدائهم؛ فكانت طليطلة أول مدينة انتزعوها منهم، ثم استولى السيد ابن بيبار على بلنسية، ووصل ألفونس السادس إلى طرف الجزيرة، إلى طريفة، فقضى على السيادة العربية فيها، وعوَّلَ على مواصلة الجهاد ليُخرِج العرب جميعًا من البلاد.
فكتب بعض ملوك الطوائف إلى بطل المغرب يومئذٍ يوسف ابن تاشفين يستظهرونه على العدو، وقصده المعتمد بن عبَّاد بنفسه، مؤيدًا لزملائه، فجاز يوسف بجيشه المضيق، وراح يطلب ألفونس فالتقى به بالقرب من باداخوس، وهناك الْتحم الجيشان في المعركة التي تُدعَى الزلَّاقة سنة ١٠٧٧، فهُزِم النصارى شر هزيمة فيها، واضطر بعد ذلك ابن تاشفين أن يعود إلى إفريقية؛ ليقمع فتنة شبَّتْ هناك نارُها، فعاودت الاضطرابات الأندلس بعد عودته، فكتب إليه العلماء يدعونه لحكم البلاد.
وقد كان يوسف — على ما يظهر — قانونيًّا، فاستفتى علماءه في فتح الأندلس والاستيلاء عليها لإنقاذ المسلمين فيها من فساد ملوكهم، فقال العلماء إن ذلك جائز بل واجب، فأرسل إذ ذاك جيشًا بقيادة ابن أبي بكر، فاستولى على تلك الدويلات كلها، ونقل أصحابها إلى إفريقية، وفي مقدمتهم المعتمد بن عباد، الذي أُنزِل وعائلته في أغمات، بالقرب من مراكش، حيث قضى بضع سنوات تحقق صحة كلمة قالها، وهي: حرز الجِمَال في إفريقية ولا رعاية الخنازير في قشتالة. والشاعر في كلماته، مثله في خياله.
أمير لا يبالي بحقائق الوجود، فيموت — وقد مات المعتمد في سنة ١٠٩٦ — متمِّمًا واجباته الشعرية!
•••
وكان مذهب المرابطين قائمًا بالتفسير اللفظي الحرفي للقرآن، فيقفون عند ظواهر المعاني ولا يتعدونها، فاتُّهِموا بالتجسيم؛ أي إن الله جسم على صورة الإنسان، وهو نظريًّا عين الكفر، وأما عمليًّا فقد كان المرابطون من غلاة الدين، بل التدين، فعدُّوا تساهُل الأمويين من المفاسد التي جاءوا يُصلِحونها.
ولو لم يقم عليهم أصحاب دعوة أخرى من المسلمين في المغرب، لَتألَّبَ عليهم ملوك النصارى لشدة ما كان من غلوهم الديني، ولكن حكمهم في الأندلس لم يَدُمْ غير ست وخمسين سنة. ففي أواسط القرن الثاني عشر قام الموحِّدون يتهمون المرابطين بما كان المرابطون يتهمون به ملوك الطوائف.
ومَن هم الموحِّدون؟ هم التابعون لاثنين من كبار المغاربة العرب — كبار النفوس والهمة والكلمة، درَجَا من كوخ الضعة، وتدرَّجَا إلى ذروات السيادة والمجد — أحد هؤلاء الاثنين هو محمد بن تومرت السوسي، من قبيلة مصمودة، ابن خادم القناديل في مسجد قريته، وقد اشتُهر منذ صباه بالتقوى والتعبُّد، ثم ادَّعَى أنه شريف علوي، ولقَّبَ نفسه بالمهدي، فشاع أنه صاحب كرامات وقيامات يئولها بالقيام بأمر الله. فمن عجائبه أنه شرب البحر مرتين، وأمر الجبل فجثا معه لله تعالى! ومن أخباره التاريخية أنه حج وهو في الثامنة والعشرين من سنه، ولما عاد من الحجاز باشَرَ الدعوة للتوحيد ولتطهير الإسلام من الأرجاس. والآخَر هو عبد المؤمن بن علي الفخاري — كان أبوه يصنع الفخار — الذي هام على وجهه منذ صباه طالبًا للعلم، فاجتمع بابن تومرت، فتآلَفَا وتآخَيَا — النفوس جنود مجنَّدَة — ثم اشتركَا في الدعوة.
كان ابن تومرت في البدء الأستاذ، وعبد المؤمن الطالب، ثم صار الأستاذ المهدي، والطالب قائدًا لجيشه، وقد خرَجَا من ضواحي وهران ومعهما بعض الأتباع في أول أمرهما، فمروا بتلمسان، واستمروا سائرين إلى فاس، فمراكش قاعدة المرابطين، حيث أعلنوا الدعوة وبدءوا بثها في البادية والحضر، فاضطهدوا وازدادوا قوة وعددًا. ومن أعمال ابن تومرت في جهاده المرابطين أنه أنشأ مجلس شورى يمثِّل القبائل التي والته، فساعَدَ المجلس في حشد جيش للجهاد، وكان عبد المؤمن قائدًا لذلك الجيش، فكُتِبَ له النصر في المعارك والتوفيق في الفتوحات.
وبعد أن توفي ابن تومرت سنة ١١٢٨ تمشَّى عبد المؤمن على الخطة التي اختطها له، فوصل في فتوحاته إلى وهران، ثم إلى تونس، ودونها إلى برقة، فحدود مصر. خلال ذلك جاز المضيق إلى الأندلس فحمل على المرابطين هناك حملات متوالية (١١٤٦–١١٥٦)، فانتصر عليهم في كل مكان، واستأصل شأفتهم، ثم أسَّسَ على أنقاض الدولة الأموية دولة الموحدين التي دامت مائة سنة، وكان هو أول مَن جلس منهم على عرش عبد الرحمن الأموي الكبير.
أما مذهب عبد المؤمن فهو جامع لأشياء من شتى المذاهب الإسلامية، منها الأشعرية والمعتزلة، ومنها الرجوع إلى الكتاب والسنة وإجماع الصحابة، مع ترك الرأي والقياس. وقد عاد إلى تأويل ما اشتُبه من الآيات والأحاديث، دون التفسير اللفظي؛ لأن الاعتقاد بظاهر الآية قد يبعث إلى التجسيم، وهذا ينافي صفات الكمال اللازمة للربوبية؛ لذلك كفَّرَ المرابطين ودعاهم بالمجسمة.
ثم تخلَّصَ من هذا التناقض كله إلى الدعوة المبهمة؛ أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأضاف إليها في الإمامة النظرية الشيعية الاثني عشرية، فجاء مذهبه مركَّبًا، كما ترى، من شراذم المذاهب المتناقضة.
ومع ذلك فقد كانت دولة الموحدين على قِصَر عهدها من أعظم الدول الإسلامية، فعادت الحضارة في الأندلس إلى الازدهار بعد أن كادت تضمحل في عهد ملوك الطوائف وفي آخِر عهد المرابطين.
دخل الإسلام إسبانيا من الجنوب، وزحف فاتحًا إلى بلاد الشمال، فعاد منها مدحورًا، وألقى بِجِرانه في الأرض الدافئة الساكنة الخصبة؛ أي الأندلس.
ثم جاء الإسلام الأفريقي من البادية، ومن جبال الأطلس، بروح جديدة نشيطة عنيفة؛ فجدَّدَ للعرب مجدًا، تخلَّلته فترات دامسة.
ولكن روح النشاط والعنف سَرَتْ من أولئك المغاربة إلى المسيحيين أنفسهم، فجدَّدَتْ في الشمال، بين صخوره وفي خشونة جوانبه، روحَ الفتح والجهاد.
أي إن نصارى الشمال حملوا على المسلمين في الجنوب بالروح الصحراوية الجبلية التي كانت للإسلام الأفريقي، فكُتِبَ النصر النهائي لأهل البلاد.
قلت النصر النهائي، والأصح أن أضيف إليها النسبي — النصر النهائي النسبي — فبعد وقعة العقاب، التي ينتهي عندها الدور التوحيدي المجيد، استمر الموحِّدون في الحكم نحو خمسين سنة، فأخذت خلالها سيادتهم في الانحطاط، فخسروا قرطبة سنة ١٢٣٦، وإشبيلية سنة ١٢٤٨ وملحقاتهما.
ولأمر ما توقَّفَتْ بعد ذلك حركات ملوك النصارى. سكنت قشتالة، تقاعدت أرغون، نامت ليون، ومَرَّ عليها كلها، وهي في هذه الحال، مائتان وخمسون من السنين!