برغوس بلد السيد١
بين إشبيلية وبُرغوس مسافات جغرافية وجوية واجتماعية وأخلاقية. أما المسافة الجغرافية فقد تكون أقصرها؛ لأن السبعمائة كيلومتر بين المدينتين تقطعها جوًّا في ساعتين، وبرًّا في ثماني ساعات.
وأما المسافات غير الجغرافية فهي تبدأ بعد أن تصل من إحدى المدينتين إلى الأخرى، فيعكر مزاجك إن كنت صافي المزاج، ويصفو إن كان عكرًا، وتشتاق إلى الآفاق الواسعة المشرقة إن كنت قادمًا من الأندلس، وتتعب منها إن كنت قادمًا إليها من جبال كُنْتَيْرية. يرطب الهواء هنا فيكثف ويُضني، ويجفُّ هناك فيَخفُّ ويُنعش، وقد تجف في الشمال الوجوه والنفوس، فيُمعن الناس في الجِد ويقسون، وتجيء حتى مهرجاناتهم دكناء اللون شمالية.
ولا حرج إن قلنا مجملين إن إشبيلية عربية، ومدريد إسبانية، وبرغوس غوطية، غوطية ألمانية، إن كان في كنيستها الكبرى وسراياها القديم، أم في بيوتها القاتمة الجبين، أو في ساحاتها الصغيرة المتأنقة في وجومها ومنطقها.
هو التقليد الغوطي، والفن الغوطي، والروح الغوطية، وقُلْ هو جو الشمال، وأفق الشمال والطبائع الشمالية. يمشي الناس في خط مستقيم إلى أغراضهم، وإن اعوجَّت الأسواق وضاقت؛ لأن جوانب الطريق جافة، وليس فيها ما يجذب النظر أو يستوقفه. ويسلكون المسلك القويم في معاملاتهم؛ لأن الاعوجاج متعب، وهو فوق ذلك يُورِث المشاكل ووجع الرأس. أما أن يسرعوا أو يبطئوا في السير والسلوك، فذلك أمر ثانوي، أو أنهم يفضِّلون الرفق والتمهُّل على الكدح والإسراع.
وهاك المثلَ لما قدَّمْتُ: تعطلت ساعتي في برغوس، كما اعتَلَّتْ صحتي، لسبب واحد على ما أظن، هو الطقس، فمن سماء تطوان المشرقة وجو إشبيلية العاطر، طرنا ثم وثبنا وثبة واحدة إلى الإقليم البارد، والرطوبة والمطر والأوحال، والزكام بالساعة وبصاحبها! فحملناها أنا والرفيق البستاني، ترجماني الملازم، إلى أحد أطباء الساعات، فوضع الزجاجة على عينيه وفحصها، ثم أعادها قائلًا: ليس في الإمكان إصلاحها.
فأخذناها إلى زميل له في الشارع نفسه، ففعل ما فعل الأول، وبعد الفحص أعادها إليَّ وهو يهز رأسه. ثم قال: الجزء المكسور فيها غير موجود عندي، فإن شئتَ أصنعه، ولكن ذلك يستغرق من الثلاثة إلى الأربعة الأسابيع. فما شئتُ ذلك؛ لأني لم أجئ برغوس لأقضي فيها أكثر من ثلاثة أيام.
وقد أجاب حضرته على سؤال آخَر قائلًا: قد تجدون مثل الجزء المكسور عند غيري، ولكني أشك في ذلك.
دخلنا إلى مخزن الساعات الثالث، وخرجنا منه إلى الرابع، فقال الطبيب المستقيم الرأي: هذه الساعة ثمينة، فالأحسن ألَّا تصلحها في هذا البلد.
أربعة منهم — وطبيب الساعات في الدنيا مثل طبيب الأسنان — ينفضون أيديهم من ساعتي، ويزدرون فرصةً للعمل والكسب. فهل تظن أن أمثالهم في الدنيا كثيرون؟ أنا لا أظن أنهم موجودون في غير برغوس.
وعندما رحنا نشتري ساعة وقتية للسفر، تقوم مقام المعطلة، كان التاجر يعرض بضاعته، وينطق بكلمات قليلة، جلُّها أرقام، وهل عندكم أرخص من هذه؟
الجواب: قد تجدون عند فلان في الشارع الفلاني.
والسيد التاجر فلان يرينا ما عنده دون إسراف في القول أو العمل، وآخَر يعيد الساعات إلى مكانها، ويعود هو إلى كرسيِّه، دون أن ينطق بكلمة واحدة. لا تشويق ولا مساومة، ولا ابتسامة تجارية أو غير تجارية، فالكلمة اللطيفة الوجيزة الهادئة تقرن بروح مثلها، ولا اكتراث بما جاء من رزق أو فات، هي ذي ناحية من برغوس، وهو ذا صنف من أبنائها.
وفي هذه المدينة مقاهٍ، في شارعها الواسع الوحيد، على إحدى ضفتي النهر، تطمح إلى العلاء المدني — الباريسي أو المدريدي — فتبلغه في النظافة والأثاث والأناقة، وتفوقه في الخدمة وفي السكينة التي تجلب الذين يؤمُّونها.
ومن هذا الشارع تصعد المدينة إلى سفح الرابية التي تقوم فوقها، فتفضي الأسواق بكآبتها إلى ساحات صغيرة صامتة، ومنها إلى جادَّات ضيقة متعرجة، تحنو البيوت فيها بعضها على بعض، وفيها الكاتدرائية غائصة إلى وسطها، فلا يُرَى منها فوق السطوح غير القباب.
وبرغوس تقلِّم أشجار حديقتها، وتشرب القهوة أو الخمر أمام تلك الأشجار الجميلة الأشكال، الأنيقة الصفوف، ولا تبالي بمصير نهرها الوديع.
ولبرغوس كما لغيرها من مدن إسبانيا التاريخية، كاتدرائية غوطية الهندسة، شوَّهَها الزمان والإنسان، بما أضافَا إليها من بناء وزينات ومشاين. فهي من هذا القبيل أعظم الكاتدرائيات الإسبانية، تقوم في سفح الرابية، وتلصق بها كجزء منهما ضخم عجيب.
وهي على ضخامتها وتفرُّعها ضائعة بين الرابية والمدينة، كما أن شكلها الهندسي الأصلي ضائع في الإضافات التي بُنِيت حوله، وهي كثيرة، بل هي بالتدقيق خمس عشرة كنيسة أُلصقت بجوانبها وزواياها، فصارت وهي داخل الكنيسة الكبرى تتنازعها قلوب المؤمنين وأنظارهم.
في إحدى هذه الكنائس الصغيرة، أعني «كنيسة الجسد المقدس»، صندوق لبطل برغوس في قديم الزمان، بل بطل إسبانيا في كل زمان، الملقَّب بالسيد، وقصته طريفة نقصُّها عليك فيما بعدُ. فاعلم الآن أن ذلك الصندوق الذي يزين كنيسة «الجسد المقدس» هو هو الصندوق الذي ملأه السيد حجارةً ورملًا، وخدع به يهوديين من يهود برغوس. هي كذلك من القصص الطريفة.
ولقد أسَّسَ هذه الكاتدرائية في الربع الأول من القرن العاشر، الملكُ فردينند الثالث وأسقف إنكليزي، ثم وكَّلَا بها الزمان، والمهندسين الألمان والفرنسيين، وأهالي برغوس الذين كانوا يشتغلون يومًا على ما يظهر وينامون ثلاثين، فاستمروا والزمان والمهندسين ثلاثمائة وستًّا وأربعين سنةً في بنائها التام الأتم سنة ١٢٢١–١٥٦٧.
فهل يُستغرَب فيها تعدُّد الأساليب الهندسية والفنية؟ وهل يُستغرَب التناقض والتنافر فيها؟ لقد ضاع القديسون والقديسات في زخرف طامٍ من الزخارف الفضية والمرمرية والذهبية والخشبية والجصية، فلا عجب إذا كان الزائرون يتيهون فيها.
•••
على أن الحماية الأشتورية لم تَدُمْ طويلًا؛ فقد قام حاكم المدينة أردونو على آل بورسيلوس، باسم الحرية والاستقلال، فذبحهم جميعًا، ثم قام الأهالي على أردونو فألحقوه بآل بورسيلوس، وأسَّسوا حكومةً جمهورية رأسها اثنان من أبناء برغوس الأبرار، حفظ التاريخ والمدينة اسميهما.
ثم تكلَّل مجدها بأسقفية أُسِّسَتْ فيها، ولكن الإكليل كان — مثل الأمجاد التي تقدَّمَتْه — قصيرَ الأجل؛ فقد أُسِّست الأسقفية سنة ١٠٧٤، وسقطت طليطلة العربية بيد المسيحيين سنة ١٠٨٧، فنُقِل بلاط الملك من قشتالة إليها.
كَسَفتْ طليطلة برغوس، ولكنها مع ذلك احتفظت بشيء من شهرتها حتى أيام فيليب الثاني، الذي جعل مدريد عاصمة إسبانيا الوحيدة، فأمست برغوس بعد ذلك نكرةً بين المدن. قال كاتب زارها في القرن السابع عشر: لم يَبْقَ من برغوس غير الاسم.
إنما عادت بعد ذلك إلى الحياة والازدهار، وهي اليوم مدينة عامرة بمعنى العمار الأوروبي لا الأمريكي. فليس فيها بناء جديد، ولا زيادة كبيرة في عدد سكانها، الذين يَرْبُون على الثلاثين ألف نفس.
وفي برغوس كثير من الآثار القديمة المخلِّدة لذكر أبنائها الأبرار، منها قدس القديسة مريم، وهو أثر قديم جليل بأبراج جانبية، ومسلات، وتماثيل لمؤسس المدينة، ولرئيسَيْ جمهوريتها ولغُنسالس والسيد، ومنها الجسر الذي يصل المتنزه الجديد بالمتنزه القديم، وهو مزيَّن بتماثيل ملوك الغوط والإسبان.
قلت إن لكل مدينة إسبانية كنيسة كبرى تعلوها، تشمخ فوقها، وهذا لا يصح في برغوس؛ لأن الرابية هي القائمة فوق البلدة وفوق الكنيسة الكبرى.
وهناك تحصَّنَ الفرنسيون في حروبهم النابليونية الإسبانية، عندما حاوَلَ الدوق ولنغتون سنة ١٨١٢ أن يأخذ برغوس، فرُدَّ عنها، ثم سلَّمت في السنة التالية.
وفي الطريق من الكنيسة الكبرى إلى القصر، بالقرب من المقبرة، كان البيت الذي وُلِد فيه السيد.
أما وقد أخبرتك أين دُفِن السيد، وأين تزوَّجَ، وأين وُلِد، فإنك سائل ولا شك السؤال السديد: ومَن هو هذا السَّيِّد، أو السِّيد؟
•••
والسيد سيِّدان: سيد التاريخ، وسيد الأساطير.
أما سيد التاريخ، فهو ذلك الرجل الذي عاش في القرن الحادي عشر (١٩٢٦–١٠٩٩)، وكان في مغامراته وكبائر أعماله، الشريفة وغير الشريفة، الصليبية وغير الصليبية، في الحرب وفي السِّلْم — القليل يومئذٍ — وفي الغزوات المسيحية والإسلامية — يومًا على الكفار ويومًا معهم — كان السيد المثلَ الأعلى للبطل القشتالي من القرنين الحادي عشر والثاني عشر، وأصبح بعد ذلك بطل إسبانيا الأمجد، بطلها التقليدي التاريخي الأسطوري.
– تعال نفصل الأمر بسيفنا، فإما أن أقطَّ رأسك أو تقطَّ رأسي.
كان المعتمد بن عباد لا يزال يومئذٍ على العرش، فاستعدَّ لاستقبال السيد بما يستحقه من الإكرام؛ بالسيف! ولكنه كان يومئذٍ في حرب وابنَ الأحمر صاحب غرناطة، فوصَلَ السيد إلى إشبيلية قبل أن يتفرَّغ المعتمد لأمره.
وصل إلى إشبيلية والحرب قائمة حامية، فسمع: مَن يحارب السيد؟ فجال وصال على هامش المعركة — حارَبَ لنفسه — قبل أن انتصر ابن عباد على عبد الله بن الأحمر، وعاد بما غنم من أموال وأسرى إلى برغوس.
مرتِ السنون وهو يقوم بهذه الغزوات باسم الملك وللملك، فيغزو «الكفار» يومًا، ويومًا يشنها على أعداء قشتالة في أراغون ونباره، حتى مُنِي أخيرًا بما يمنى به مَن يخدمون الملك.
– السيد يا مولانا يغزو باسمكم، ويغنم الغنائم ويسبي السبايا، ولا يعرف غير نفسه، وهو يَجبي الخراج ولا يؤدي منه إلى خزانة الملك غير اليسير.
وقلَّ في الملوك مَن لا يصدِّق الواشي، فغضب ألفونس السادس غضبةً ملكية، ونفى السيد من قشتالة.
كان روي يومئذٍ في الخمسين من عمره، وفي حاجة إلى المال، فسارَعَ أبو زيد السروجي إلى نجدة عنتر، ودبَّرَ الأمر. هي قصة الصندوق الذي رأيناه في الكنيسة، وأصبح كنزًا من كنوزها. هي حيلة السيد أبي زيدٍ السروجي، الذي ملأ ذلك الصندوق حجارة ورملًا، وأقفله بأقفال من حديد، وختمه وجاء به على ظهر أحد خدمه إلى راشيل وبيداس اليهوديَّيْنِ في المدينة، فخاطبهما قائلًا: «في هذا الصندوق جواهري وكنوزي كلها، جئت أرهنها عندكم، فقد طردني الملك من بلاده، وعليَّ مال لرجالي وخدمي، وعليَّ واجب لزوجتي قبل الرحيل، فاحتفظوا بالصندوق إلى أن أعود، وأعطوني ستمائة دوقة — ستمائة لا غير — فالجواهر والكنوز في الصندوق تساوي أضعاف أضعاف هذه القيمة.»
دفع اليهوديان المال، واحتفَظَا بذلك الصندوق إلى أن عاد السيد، أو إلى أن شاء رب إسرائيل أن يكشف الخدعة. وهناك روايتان يردِّدهما التاريخ: الأولى تثبت أن السيد فك الرهن، والثانية تنفي ذلك.
بعد أن تسلَّمَ المال من بيداس وراشيل خرج السيد من قشتالة غازيًا بلاد المسلمين، ومعرِّجًا على ديار اليهود، اليهود والمسلمون أعداء الدين والدنيا، مالهم حلال، ودمهم في بعض الأحوال — كذلك يقول الله لعبده روي بيبار، ويقول كذلك حبوا أعداءكم — فيمتشق روي السيف حينًا، وحينًا يلوِّح بالصليب العاجي الذي كان يحمله دائمًا.
سيف الكثلكة في رقاب المسلمين، ولكن في المسلمين الشجاع والكريم والهمام والحكيم، والمنتفعون حتى في الدين.
– هذي هي مصلحتنا، يا سيد، وتلك هي مصلحتك؛ فعليك أو علينا أن نجمع بين المصلحتين ونوحِّدهما.
– دمكم حلال لي، ولكنه لا ينفعني. تعالوا إذن نوحِّد الغارات والغزوات ونتقاسم الغنائم.
هي الأمثولة العربية التي تعلَّمَها السيد، فعزَّز في شخصه أبا زيد السروجي، وعزل السفاح. النهب النهب، وإذا كان لا بد من القتل، فالخير للدين الصحيح ولكنيسة المسيح، هو أن نرسل المقتول إلى الجحيم لا إلى السماء. ما لي وهداية الكفار، فإن الله يهدي مَن يشاء. كذلك يقول أصدقائي المسلمون.
لم يكن السيد صليبيًّا، بالرغم من صليبه العاجي الذي كان يحمله دائمًا، ولا كان مبشِّرًا منذرًا. لم يكن قصير النظر، بعيد الخيال، يُجنُّ بالدين، ويرى في سيفه الرحمة، رحمة السيف! لا، ما كان مجاهدًا في سبيل الله، ولا من أجل السيد المسيح والعذراء القديسة، بل كان يحب القتال حبه للمال، وثَّابًا خفيف اليد والرِّجل، متحركًا على الدوام، ولكنه يختلف عن الأعرابي في أنه كان نهَّابًا غير وهَّاب.
قال أحد الكتَّاب فيه إنه كان غوطيًّا في القتال، وفنيقيًّا في حب المال؛ أي إنه كان مسيحي الاسم فينيقي المزاج والنزعة، ولكن الفطرة الغوطية كانت تستيقظ من حين إلى حين، فتتغلب على الوثنية الفينيقية. المسيح سيدي وعميدي، والعذراء أمي الحنون، فماذا عملت من أجلهما؟ لا شيء، لا شيء.
وفي عاصفة من التقوى يشنُّ غارة دينية صليبية، فيقتل «الكفار» حيث يثقفهم، ويقدِّمها كفَّارة بين يدي سيده الإلهي، وأمه السماوية، ثم يعود إلى سجيته الوثنية الفينيقية العربية، إلى عنتر وأبي زيد السروجي.
– ولماذا نقتل الكفَّار، يا فانس (أحد قواده) لماذا؟ أليس خيرًا من ذلك أن نواليهم، وننتفع بهم؛ فإن فيهم الحكام وفيهم الأغنياء، وفيهم الشجعان المفلسين المجاهدين. فهؤلاء إن أحسنا معاملتهم وأشركناهم في الغنائم يجاهدون معنا، يساعدونا على أبناء دينهم الأغنياء والحكَّام.
وهناك المَلك الذي نفاه، والمسيحيون الذين كادوا به ووشوا به. فهل يجوز أن ينساهم؟ كلا، وسيتعاون وأخاه المسلم على البر والتقوى. أجل، إن في المسلمين مَن يُؤَاخُون غير المسلم لأغراضهم الخاصة، مثل ابن هود صاحب سرقسطة.
إلى ابن هود إذن، نتحالف وإياه في سبيل الله. الله أكبر! الله أكبر!
تعلَّمَها السيد، وحمل المقتدر بن هود على أعداء ابن هود المسلمين، ها هو ذا بطل النصارى شاهرًا سيفه، وعلى أعداء السيد النصارى، ها هو ذا بطل المسلمين، وقد هداه الله.
قضى السيد ثماني سنوات يغزو الغزوات المسيحية الإسلامية الفينيقية السروجية.
– والحمد لله رب السموات والأرض، كنتُ فقيرًا فأصبحتُ غنيًّا؛ غنيًّا بالذهب وبالأملاك والأموال. صاهرت الأمراء، ونازلتُ الملوك، فكنتُ منتصرًا في المعارك، ومنتصرًا في القصور. المسلمون يحترمونني، والنصارى يخافونني، واليهود يدفعون … أنا السيد، صاحب الصولة والاقتدار … وهناك في المغرب جوامع وقصور — ويهود — وهناك أناس ينادونني وينتظرون، ولكني باقٍ ها هنا … فإن في بلنسية الغنيمة الكبرى.
وجاء السيد بسبعة آلاف مقاتل أكثرهم من المسلمين العرب، فسارَعَ يوسف بن تاشفين سيد المرابطين إلى نجدة المدينة.
والتحم الجيشان الإسلامي المسيحي والإسلامي المغربي، فتراجَعَ المغاربة وكانت الخدع الحربية التي لا يُبارَى السيد فيها؛ فبعد أن حاصَرَ المدينة حصارًا دام تسعة أشهر، قال أبو زيد السروجي الكلمة التي كانت المفتاح، فانفتحت بوابة السور.
سلَّمت بلنسية سنة ١٠٩٤ فدخلها السيد ظافرًا، وحكمها أربع سنوات حكمًا سديدًا عادلًا.
على أن المرابطين استمروا يحومون حولها، ويشنون الغارات، فناجَزَهم السيد، وردَّهم عنها مرارًا، فحملوا عليه الحملة الموفَّقة سنة ١٠٩٩ وهزموه، وكادوا يأسرونه.
تلك السنة كانت آخِر ما قُدِّرَ له من الحياة الدنيا، وقد تكون الهزيمة عجَّلت بأجله.
ولكن زوجته شمينة استمرت بعد موته تناجز المرابطين، وقد قبضت على زمام الحكم، وجلست على كرسيه ثلاث سنوات.
قال المؤرخ المحقق: عندما رأت شمينة أنها لا تستطيع أن تواصِل الدفاع عن المدينة، فرَّتْ هاربةً إلى بلاد الشمال، ومعها جثة زوجها، فدفنتها بدير قردينية، قرب برغوس عملًا بوصيته.
وقال القصصي بِلِسَانَيِ المؤرخ والشاعر: عندما رأت شمينة أن لا بد من الفرار، امتطت ببيشا جواد زوجها، ووضعت الجثة أمامها، وأغارت فاخترقت صفوف المغاربة المحاصِرين المدينة …
وللسيد الخرافي قصص ودواوين، أهمها «ملحمة السيد»، وهي أقدم الملاحم الإسبانية، «وأيام السيد» وهو تاريخ روائي، أو رواية تاريخية شبيهة في أسلوبها بالروايات التاريخية في كتاب ألف ليلة وليلة. هذا فضلًا عن القصائد، وقد نُظم باللغة الإسبانية وحدها أكثر من مائتي قصيدة في مدحه وتمجيده.
أما الرواية في دفنه فلا غبار عليها، ولكن عظامه، مثل عظام كولمبوس بعده، تعذَّبَتْ عذابًا غير أبدي؛ فكانت عرضة لحوادث الزمان، وحمَّى الإيمان في الإنسان، زهاء ثمانمائة سنة، فنُقِل بعض العظام خلال تلك المدة إلى بلدة في ألمانيا، وبعضها إلى بيت ببرغوس، ثم نُقِل الباقي منها سنة ١٨٨٣ إلى مقرها الأخير — إن شاء الله — بكنيسة السراي، القريبة من الكاتدرائية، حيث شاهدنا صندوق «الجواهر والكنوز» التي خدع به السيد ذينك العبرانيَّيْنِ راشيل وبيداس رحمهما الله.
•••
في برغوس وليون نشأت العصبية التي قاومت المسلمين، وتغلَّبَتْ بعد مائتي سنة عليهم، تغلُّبًا جزئيًّا — وتغلَّبَتْ كذلك على نفسها — فإن إسبانيا المسيحية روحيًّا هي في دمها عالمية، كيف لا وقد جرت في عروقها دماء الفاتحين الرومان والغوط والعرب والبربر، وكل منهم يحمل في عروقه مزيجًا من دماء الأقدمين الشرقيين والغربيين.
لقد انبعثت هذه الشعوب كلها وتجدَّدَتْ، فتوحَّدت روحها في إسبانيا، هذا في الكيان الجنسي القومي؛ أي في العصبية. وأما في الدين، فقد كانت إسبانيا في أيام السيد مسيحية إسلامية يهودية، إنما المسلم فيها كان سائدًا، والمسيحي مسودًا، واليهودي أقلية تائهة تافهة.
بل لقد كان هناك سادة من المسلمين تجري في عروقهم دماء الغوط واليهود، وكان هناك أساقفة من النصارى امتزج بدمهم دم عربي يمني، أو سوري، أو بربري، وكان هناك شعراء وعلماء من اليهود تربَّت أمهاتهم في الحريم.
أما القصر القديم الغالب أو المغلوب، وهو واحد في الجميع — ذلك القصر الساكن، أو المتحرك، أو المضطرب الهائج، طبقًا لليقظات وللفرص والأحوال — فقد يتغيَّر اسمًا، ولا يتغيَّر هدفًا وعملًا.
وقد تغيَّر في إسبانيا ثلاث مرات في ألف سنة، فكان وثنيًّا رومانيًّا، وكان مسيحيًّا غوطيًّا، وكان مسلمًا عربيًّا. ثم عاد مسيحيًّا كاثوليكيًّا، وهذا طبيعي؛ لأن المسيحية الغوطية لعنتها روما، وروما أم إسبانيا منذ القديم. فطبيعي أن تكون مسيحيتها كاثوليكية مقدَّسة.
أما غير الطبيعي في أمرها الوطني الديني، فهو أن اليهود والعرب والإسبان تآلَفوا في معاملاتهم وتزاوجوا، وما تآلَفت أديانهم ولا تسالمت، بل ازدادت نفورًا بعضها من بعض، وغلا بعضها على بعض، فتحاربت وتطاحنت.
وكانت في بعض الأحايين تتهادن بدون مقدمات أو تفاهم، إنما تتعب من الحرب فتسكن وتنام، فيتحارب إذ ذاك العربي مع الإسباني لمآرب غير دينية، ويتحارب الإسباني مع العربي؛ نكايةً بإخوانه الإسبان، أو طمعًا باسترجاع مدينة أو مقاطعة ذهبت من يده.
«وخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لقتال المستعين بالله؛ فانهزم ومَن معه من المسلمين والمسيحيين.»
«وثار نصارى نابارا على حكَّام الفرنسيين سنة ٨٢٠ من شدة عسفهم وجورهم، واتفقوا مع المسلمين، فسلَّموهم مدينة بنبلونا.»
ومَن هم الذين ساعدوا السيد ليتغلب على المرابطين، ويستولي على بلنسية؟ هم المسلمون العرب.
ومَن هم الذين أعانوا فرنندو الثالث على ابن عباد بإشبيلية؟ هم العرب المسلمون.
فلا تَسَلْ عمَّا يفعله الناس، وتفعله الأمم، عندما تشتد بينهم العداوات، وتسيطر الأهواء على عقولهم وأعمالهم.
وما كان الإسبان، كما قدمت، على غير هذه الحال، قبل اتحادهم الوطني الكاثوليكي، الذي أخرجهم عن عالميتهم الأولى، وجعلهم باسم فرديناند وإيزابلة، إسبانيين فاتحين مستعمرين.
ومع ذلك فقد كان للتغلُّب أسبابٌ غير التحزُّب والتخاذل في المغلوبين، وغير المكائد والأحقاد.
كان الإيمان قوة العرب الغالبة في بداية أمرهم، وكانت الحركة الدائمة — الغزو والحروب — تدعم الإيمان تارةً، وطورًا تغذِّي العصبية وتهيجها؛ فيتغلَّب باسمها وقوتها عبد الرحمن الأموي مثلًا على يوسف بن عبد الرحمن الفِهْرِي، وتتأسَّس الخلافة الأموية في الأندلس، ويتغلب باسم الإيمان وقوته المنصور بن أبي عامر مثلًا في غزواته كلها — وعلى الخليفة نفسه.
هذه الحقيقة تصحُّ كذلك في عكسها، أو بالحري في مَن حاربوا العرب؛ فقد كانت قوة الإسبان تظهر حينًا في العصبية الناهضة، وحينًا فيما تجدَّد من إيمان. هذا في الجنوب، وفي قلب إسبانيا؛ أي في قشتالة وأراغون.
وإن قلتَ: تلك جبال اليمن، وفيها أعلى مما ذكرتَ من البلدان! ذَكَّرتُكَ بالحقيقة الجغرافية الأخرى؛ وهي أن اليمن العالي — ذمار وصنعاء ومناخة — هو على اثنتي عشرة درجة من خط الاستواء، وإسبانيا الشمالية، في مقاطعة برغوس مثلًا، هي في الدرجة الثالثة والأربعين من خطوط العرض.
فاليمني ابن ذمار أو صنعاء، الذي يبرد في فصل الشتاء، يموت بردًا في بلد الوليد، فضلًا عن جليقيا وأشتورية.
وقد خَبر ذلك العربُ أنفسهم يوم زحفوا من الأندلس شمالًا بغرب، ووصلوا إلى أشتورية وجليقيا، فما عتموا أن انكفئوا عنهما، وساروا شرقًا إلى وادي أبيره، ومنها عادوا إلى قلب إسبانيا، فاستقروا في طليطلة وماردا، حيث البرد شتاءً لا يجاوز الحد الذي يتحملون.