رحلة استكشافية
منذ ٣٥٠٠ سنة، حكمت مصر ملكةٌ عظيمة، ولم يكن ذلك مألوفًا في مصر، ولو أن النِّساء كنَّ موضع الاحترام والتَّجِلَّة دائمًا؛ فقد كانوا يُجِلُّون أمَّ الملك، ويضعونها في منزلةٍ تُماثِلُ منزلة أبي الملك احترامًا وتعظيمًا.
وقد جلسَت على العرش، وأدارَت شئونه بمهارةٍ فائقة، وتركَت خلفَها كنزًا من الشُّهرة والعظمة خَلدَ على مرِّ السِّنين والأعوام، وهي تُعَدُّ من بين أعظم النِّساء في العالم، أمثال الملكة إليزابث والملكة فيكتوريا.
وقد بقِيت الملكة حتشبسوت عهدًا طويلًا، وهي تشترك مع زوجها في حُكم مصر، وفي أواخر أيَّامها أشركَت معها في الحُكم ابن أخيها ووريثها، ولكنَّها حکمَت بمفردها ما لا يقِلُّ عن عشرين عامًا، ساسَت في أثنائِها الرَّعية بحَذقٍ وحكمة.
وأهمُّ ما يَلفِتُ الأنظار في قراءة تاريخها، هو هذه الرِّحلة التي أمرت جزءًا من أُسطولها بالقيام بها. ولقد قام المِصريُّون برحلاتٍ بحريةٍ في البحر الأحمر إلى أرضٍ تُدعَى «بُنت» أو «الأرض المُقدَّسة»، قبل حكم حتشبسوت بقرون، ومُحتمَلٌ أن تكون بُنت هذه جزءًا من الصُّومال الحالي.
ولكن أُوقف تيَّار هذه الرحلات، ولم يعُد يعرف النَّاس شيئًا عن هذه الأرض؛ اللهم إلَّا ما تناقلته العامَّة عامًا بعد عام، وجيلًا بعد جيل، أو ما روَته القصص القديمة.
وتُخبرنا الملكة أنها في يومٍ من الأيَّام وكانت تُصَلِّي في معبد آمون شعَرَت بوحيٍ ينزل عليها من الإله، يأمُرها بأن تُرسِلَ حملةً إلى تلك الأرض المنسية. «سُمِع أمر الإله في المعبد بأن الطَّريق المؤدِّية لبُنت ينبغي استكشافها، وأن الطَّريق المُوصِل لأشجار البَخور يجب أن يُمَهَّدَ للسَّير.»
وطاعة لهذا الأمر؛ جهَّزت الملكة أسطولًا صغيرًا، وملأته بنُخبةٍ من الملَّاحين، وكان منهم مندوبٌ لها، وأبحرَت السُّفُن في البحر الأحمر للبحث عن الأرض المُقدَّسة، وقد حملوا في السُّفُن بضائعَ مِصريةً على أمل أن يُبادلوها بكنوز بُنت.
ونحن نجهل الزَّمن الذي استغرقه الأسطول في البحث عن الأرض المجهولة، وقد كان السَّفَر في البحر في تلك الأزمان محفوفًا بالمخاطر والأهوال، ولكنَّا نعلم أن السُّفُن وصلَت آمنة.
وأوَّل ما رأوا أمامهم منازل البُنتيِّين، وكانت مبنيةً على تِلال، حتَّى إنه لا يُمكن الصُّعود إليها إلَّا بواسطة سلالم، وكانت ضيِّقةً وملتصقةً مثل خلايا النَّحل.
ولم يكن سوادُ الأهالي زُنُوجًا ولو أنه وُجد ذلك العنصر بينهم وكانوا على العموم يُشبهون المِصريِّين في مظهرهم. لهم لُحًى طويلة، وعلى أجسامهم جلود الأُسُود، وترتدى النِّساء ملابس صفراءَ بلا أكمام، وتصِلُ أطرافُها إلى وسَطِ السَّاق.
وقد نزل «نیهسي» نائب الملكة إلى البر، وصحِبَه ضابطٌ وثمانيةٌ من الجنود، ولكي يُبَيِّنَ أنه آتٍ في حملةٍ سِلمية؛ قدَّم لرئيس البُنتيِّين بعض الهدايا، كالحِراب والسُّيُوف والخناجر الذَّهبية، ومثل هذه الهدايا يُقدِّمُها المُستكشِف الأورُبيُّ — الآن — إلى رئيس القبيلة الإفريقي.
وقدم الأهالي من جميع الجهات ليُشاهدوا الغرباء وسُفُنَهم وهداياهم، فملكَتهم الدَّهشة، وسألوا المِصريِّين:
كيف وصلتم إلى هذه الأرض وهي مجهولةٌ من جميع النَّاس؟! هل جئتم عن طريق السَّماء، أم عن طريق البحر المُقدَّس؟
وتقدَّم إلى المصريِّين الحاكم واسمُه «باريهو» وامرأته «آتي» وابنتهما. وكانت زوجته راكبةً حمارًا، فنزلت عن ظهره لتتأمَّل الأغراب، ولا شكَّ أن الحمار حَمد الإله على ذلك؛ لأن المرأة كانت في غاية السمن والضَّخامة، وكذلك كانت ابنتها على صغر سنِّها.
وتبادلوا مع رسول الملكة السَّلام، وابتدأ المِصريُّون في العمل، فضربوا خيمةً كبيرةً ليَعرِضوا فيها بضائعهم، وقد وقف بجانبها بعض الجنود؛ ليدفعوا من يُفكِّر في السَّلب والنَّهب، وفتح السُّوق جُملة أيَّام، والأهالي تُبادل کنوز بلادِها ببضائع المِصريِّين، ففرغت السُّفُن المِصرية، ثم مُلئت ثانیًا بکنوز بُنت، وهي الذَّهب، والأبنوس، والقرود، وجلود النمر والأسد، وأخشاب البَخور والصَّمغ. وعاد مع المِصريِّين على سُفُنهم كثيرٌ من نُبلاء بُنت؛ ليشاهدوا البلاد التي لم يسمعوا عنها.
ولم يكن الرُّجوع سهلًا؛ خاصَّة وأن السُّفُن كانت مُثقلةً بالكنوز والرِّجال. ووصل الأسطول إلى طيبة عن طريق قناةٍ توصل بين البحر الأحمر والنِّيل.
وقد سُرَّ جميعُ المِصريِّين بنجاح الحملة، فكان يوم وصولها إلى طيبة يوم احتفالٍ عظيم، اشترك فيه جميع المِصريِّين على اختلاف طبقاتهم، وخرج الأهالي في صفوفٍ مُنظَّمةٍ يستقبلون الجنود المُستكشفين، وقاد الأسطول المُستكشِف أسطولٌ ملكي إلى رصيف المعبد؛ حيث رَسَت السُّفُن كلُّها.
واستطاع الطِّيبيُّون أن يَروا الكنوز التي أتى بها المُستكشِفون، وكانت دهشتهم عظيمةً عندما وقعت أبصارهم على البُنتيِّين، ولفت أنظارهم خاصَّةً زرافةٌ أحضرها المِصريُّون معهم. وقد يُتساءل کیف حُمِلت الزَّرافة المسكينة التي أثارت دهشة المِصريِّين برقبتِها الطَّويلة وبُقَع جلدها الجميلة؟!
وقد وضعوا البَخور في المعبد، بعد أن وزنته الملكة بنفسها بميزانٍ مصوغٍ بالذَّهب والفضَّة، وهكذا انتهت الرِّحلة بالنَّجاح والفوز، ولكنَّها لم تكن كلَّ أغراض الملكة، بل ولم تكن نصفَها.
كان والد الملكة قد ابتدأ في تشييد معبدٍ في مكانٍ يبعدُ عن طيبة عدَّة أميال، على مقربةٍ من أطلال معبدٍ مُتخرِّب، ولكنَّ الموت حال بينه وبين إتمامه، فأخذت الملكة على عاتِقِها هذه المُهِمَّة، وابتدأت في العمل، وقام البناء، وكان على طِرازٍ جديدٍ مخالفٍ للمعابد المِصرية التي سبقته.
ففي جهته الأمامية بنَوا على رمال الصحراء طبقاتٍ مدرَّجةً من الأرصفة، كلُّ واحدةٍ تعلو على سابقتها، ومحدودةً على الجانبَين بأعمدةٍ مرتفعة، ويؤدِّي ذلك البناء المُدرَّج إلى الحجرة المُقدَّسة المنحوتة في الصَّخر الشَّاهق.
وكانت قد شيَّدت المعبد ليكون «جنَّة آمون» وهو الرَّبُّ الذي أوحى إليها بإرسال الأسطول للاستكشاف، وغرست حول المكان المُدرَّج السَّابق الذِّكر شجر البخور الذي أحضرَته من بلاد بُنت، ولكي يُهيِّئُوا له الحياة المُستديمة؛ فقد حفروا بالقُرب منه بئرًا في الصَّحراء لتُروى منها الأشجار.
وأمرت الملكة بنقش قصَّة الرِّحلة على جدران المعبد في شكل صُوَرٍ مختلفةٍ تُمثِّل الرِّحلة من مُبتداها إلى مُنتهاها.
فأنت تستطيع أن ترى السُّفُن وهي تُجاهد أمواج البحر في سبيل غرضها المجهول، ومقابلةَ الِمصريِّين بالبُنتيِّين، ثمَّ المُبادلة التِّجارية ونقل المواد إلى السُّفُن، ثمَّ المواكب العظيمة من الجنود المصرية التي استقبلت رجال الأُسطول المُنتصِر.
ولم تترك صغيرةً إلا صوَّرتها، وبفضل دقَّتِها ودقَّة حفَّاريها علَّمتنا کيف کانت حياة البحَّارة وأعمالُهم في تلك الأزمان، وكيف كانت المعاملات التِّجارية في الأراضي الغريبة، وكيف كانت تعيش القبائل في البلاد المُتوحِّشة.
والعادة الآن أن الرَّحَّالة يُضمِّن ملاحظاته عن البلاد التي جابها، ويجمع صُورًا عن أغرب المشاهَدات فيها في مجلَّدٍ كبيرٍ ينشره بين مواطنيه، ولكنَّ واحدًا منهم لم ينقُش قصَّته كما نقشتها الملكة حتشبسوت، وواحدًا منهم لم يُزيِّن كتابه بصورةٍ بلغت من الدِّقَّة والجمال ما بلغته هذه الصُّوَر التي ظهرت للوجود حديثًا، بعد أن طُويت قرونًا عدَّة.
وقد تركَت الملكة بعد موتها غير المعبد وقصَّة الرِّحلة ما يكفي وحدَه لتخليد ذِكراها على مرِّ العصور.
وهي تُخبرنا كيف أنها كانت جالسةً يومًا في قصرها تُفكِّر في خالقها، حين لاح لها فجأةً أن تُشَيِّدَ مَسلَّتَين أمام معبد الكَرنَك، وقد أمَرَت بتنفيذ الفكرة، وفي الحال سافر مهندسُها الماهر «سن مت» إلى أسوان، وقطع من حجر الجرانيت ما يكفي لتشييد المَسلَّتَين، وأتى به عن طريق النِّيل.
ويبلُغ ارتفاع مسلَّة كليوباطرة المُقامة على ضفاف التِّيمز ثماني وستِّين قدمًا ونصفًا، ونحن نظنُّ أن مثل هذه الكتلة لا تستطيع صنعَها يدُ بَشَر. ولقد تكلَّف مهندسونا الشَّيءَ الكثير في نقلها إلى هنا وإقامتها حيث هي على شاطئ التِّيمز.
أما هاتان المَسلَّتان اللتان شيَّدتهما حتشبسوت، فلا يَقِلُّ ارتفاع الواحدة منهما عن ثمانيةٍ وتسعين قدمًا ونصف، وتَزِن كلٌّ منهما ثلاثمائةٍ وخمسين طنًّا، ومع ما وصفنا فقد استغرق المُهندس المِصريُّ في نقل الحجارة من أسوان إلى طيبة وفي صنعهما سبعة أشهر!
ولا تزال إحداهما باقيةً إلى الآن في الكرنَك، وهي أطول مِسلَّةٍ في المعبد. أمَّا الأخرى، فقد تهدَّمَت وتکوَّمَت أطلالُها بجانب المِسلَّة الباقية، وهما تدُلَّان دلالةً واضحةً عمَّا كان عليه المِصريُّون من التَّقدُّم العقلي والفنِّي في عهد تشييدهما.
ولربَّما كان الإله الذي تعبده الملكة والذي كانت تُفكِّرُ فيه في قصرها، قريبًا من قلب خادمته حقيقة.