الكتب المصرية
إن لم يكن المِصريُّون هم أوَّل من دوَّن آراءَهُ بالكتابة — وبعبارةٍ أخرى أوَّل مَن اخترع الكتب فقد كانوا بلا ريبٍ بين أوائل مَن اخترعوا هذا الفن. وإنَّ أحد كُتُبهم — المملوء بالحِكَم والنَّصائح يُسديها أبٌ لابنه — لهو أقدم کتب الدَّنيا جميعًا.
كان المِصريُّ إذا أراد أن يصنع كتابًا جمع سِيقان البَرديِّ الذي ينمو في بعض جهات القُطر التي تَكتنِفُها المُستنقعات، وهذا النَّبات ينمو لارتفاع اثنتي عشرة قدمًا، وقد يبلُغُ خمس عشرة قدمًا، أمَّا سُمك سِيقانه فلا يَقِلُّ عن ستِّ بُوصاتٍ، وكان يُقشِّر الجزء الخارجيَّ من السَّاق، ثم يقطع الجزء الباقي قطعًا طوليًّا إلى طبقاتٍ رقيقةٍ بآلةٍ حادَّةٍ. وتُوضع هذه الطَّبقات بجانب بعضهِا حتَّى تتَّصلَ أطرافُها، ثمَّ يُراق الصَّمغ على سطحها الأعلى، ثمَّ يأتي بطبقةٍ أخرى ويضعها عرضًا على الجزء الأعلى من الطَّبَقة الأولى، ثمَّ تُضغط الطَّبقتان وتُجفَّفان.
ويختلف اتِّساع العرض تبعًا للغَرَض الفنِّي الذي صُنعت الأوراق له، وأعظم عرضٍ عُثر عليه للآن لا يزيد على سبع عشرة بوصة، ومُعظم النُّسَخ الأخرى أضيق من ذلك.
فإذا انتهى المِصريُّ من صناعة ورقه، فإنَّه لا يجمعه مَلازم ويُغلِّفه كما نفعل الآن، ولكنَّه يُوصل الورق من الطَّرَف الأعلى، ثمَّ يكتب، فإن احتاج لورقٍ ألصق ورقةً بورقة، وهكذا. ويلُفُّ الجميع إن أراد أن يسيرَ وكتابه في يدِه. وعليه؛ فالكتاب كان لفَّةً من الأوراق قد تبلغ — أحيانًا — عدَّة أقدامٍ طولًا. وعندنا في دار الآثار البريطانية کتابٌ مِصريٌّ طوله مائةٌ وثلاثون وخمس أقدام، ونحن نعجب من الكيفية التي كانوا يحملون بها أمثال هذا الكتاب.
فإذا تصفَّحت کتابًا مِصريًّا مكتوبًا بالهيروغليفية، رأيتَ سطورًا من الطُّيور والحيوانات والزَّواحف والرِّجال والنِّساء والقوارب وجميع الأشياء الأخرى تسير في الصَّحيفة.
وكان إذا أراد المِصريُّون أن يُخلِّدوا كتابتهم تركوا أوراق البَردي الواهية، ويکتبون في كتبٍ مختلفةٍ اختلافًا تامًّا عن البَردي وأوراقه.
لا بُدَّ أنك سمعت عن النَّصائح المنقوشة على الأحجار، وفي الواقع أن معظم الكتابة المِصرية التي تُخبرنا عن الفراعنة وأعمالهم، منقوشةٌ على الأحجار. نُقشت في وضوحٍ وعمقٍ على سطوح المسلَّات وجُدران المعابد، وكانت العادة أن الملوك إذا رجَعُوا من إحدى الحروب، نقشوا وصف المعارك وما لاقَوه في الذَّهاب والإياب على جُدران أشهر المعابد في أيَّامهم، أو على الأعمدة المُقامة في تلك المعابد؛ حيث بقيت إلى الآن، وهي على حالتها الأولى ليقرأها الباحثون.
وكانَت إذا نُقِشت الهيروغليفية على الحجارة طبعت الخطوط بالألوان المختلفة، حتَّى إن الكتابة كانت تظهر مثل لهبٍ من جميع الألوان الخفيفة، وتظهر الجدران كما لو كانت مُغطَّاةً بستائرَ ذات ألوانٍ جميلة.
ولقد نصلتِ الألوان الآن، ولكنَّك تستطيع أن تُشاهد أثرها واضحًا في بعض المعابد والقبور. ومن شرحي هذا، تستطيع أن تتصوَّر ما كانَت عليه هذه الكتابة من الجمال والرَّونق.
وكان الكَتبةُ والحفَّارون عالمِين بمكانة فنِّهم من الجمال والحُسن؛ لذلك لم يألوا جهدًا في إبرازه في شكلٍ جمیلٍ جذَّابٍ.
وبلغ اعتناؤهم بالجمال أنهم كانوا إذا وجدوا أن الصُّوَرَ التي تتكوَّن منها الكلمة أو الجُمَل تظهر قبيحة المنظر بسبب اتِّصالها وترابطها حذفوا الصُّوَر التي تُقَبحُ منظر الصَّفحة، وضحَّوا بصحَّة هِجاء الجُمَل في سبيل إبرازها في نَسَقٍ جميل.
ونحن نُخطئ أحيانًا في هجاء بعض الكلمات، ولكن ليس الدَّاعي في ذلك أن نکوِّنَها في صورةٍ جميلةٍ طبعًا! والآن نعود ثانيًا إلى لفَّات البَردي، ولنفرض أنه فرغ من صناعتها، وأنها أصبحَت مُهيأةً للكتابة، ونُحِبُّ أن نعلم كيف كان الكاتب يقوم بعمله.
أهمُّ أدواته صندوقٌ خشبيٌّ طويلٌ وضيِّقٌ جدًّا، وهو يختلف عن ريشة المُصوِّر، وهو عبارةٌ عن كتلةٍ خشبيةٍ في وسَطِها تجويفٌ طويل، وحوله تجويفان أو ثلاثة أقلُّ غَورًا وأضيق من التَّجويف الأوَّل. ويُوجَد في هذا التَّجويف أقلامٌ قلائل مصنوعةٌ من قصب دقیق، مرضوضةٌ من نهاياتها كالفرشاة، ويوضع في التَّجاويف الأخرى حبرٌ أسود وهو يُستعمَل في معظم الكتابة، وأحمر، وتُكتب به بعضُ کلماتٍ، وربَّما أضاف الكاتب لونَين آخرَين؛ لتكون الكتابة في أبهى حُلَّة. ويجلس الكاتب القُرفصاء، ويغمِسُ قلمَه القصبي في الحبر ثمَّ يكتب.
وهو إذا كتب أجزاءً مُهِمَّةً في الموضوع استعمل لونًا زاهيًا.
والآن نستطيع أن نفهم أن الكتابة بالصُّوَر لم تكن أمرًا سهلًا، خاصَّةً وأنه لم يكن مع الكاتب إلَّا قلمٌ من البُوص.
ولكن على مرور الزَّمن تطوَّرت الكتابة، وأخَذَت في النُّقصان والصِّغَر، حتى اکتفَوا أخيرًا بأن يرمزوا بعلاماتٍ تدُلُّ على المُعبَّر عنه، بدلًا من رسم صورته، وهكذا أصبحت الكتابة الهيروغليفية سهلة التَّدوين، ككلِّ الكتابات.
وقد كُتبت كثيرٌ من المؤلَّفات باللغة الجديدة، وكانوا يُسمُّونها اللغة الكهنُوتية أو الهيراطيقية، ولكنَّ جزءًا كبيرًا من الكتب العظيمة كانت تُكتَب باللغة القديمة.
ولقد ترك المِصريُّون في لفَّات البَرديِّ عُصارةَ أفكارهم ومشاعرهم، وخلاصةَ تجاريبهم. فمن النَّصائح الحكيمة، إلى القصص الخُرافية — وقد أوردْنا بعضها — إلى أساطير الآلهة، وكذلك وصف الأسفار والرِّحلات، وغير ذلك بما ليس له حصر.
وأهمُّ كتابٍ في هذه المخلَّفات يختصُّ بالدِّيانة المِصرية، واسمه کتاب الموتى، والبعض يدعوه الإنجيل المِصري. وليس هذان الاسمان صحيحين، وهو — مهما كان — لا يُشبه الإنجيل. ولقد سمَّاه المِصريُّون «فصولٌ عن البعث»، والسَّبب في وضعه هو اعتقاد المِصريِّين بأن مَن يقرأ نصائحه يأمَنُ أخطار الدُّنيا الأخرى.
وكان الكَتَبة ينسخون من الكتاب أعدادًا كثيرة، يحفظونها كرأس مالٍ احتیاطي، وكانوا يتركون في بعض الصَّفحات مسافاتٍ خالية، وهي التي تشمل أسماء الأموات الذين يشترون الكتاب في أثناء حياتهم.
وكان إذا مات فردٌ — لم يكن قد اشترى الكتاب — يذهب أحد أهله إلى كاتب، ويشتري نسخةً من كتاب الموتى، ثمَّ يملأ الأمكنة الخالية بأسماء الميت. وينبغي دفن الكتاب مع الميت في قبره، حتَّى إذا اعترض طريقَه إلى السماء حيَّاتٌ أو أرواحٌ نجسةٌ استطاع — بما هو مكتوبٌ في الكتاب — أن يدفعَ شرَّهم ويُنَحِّيَهم عن طريقه، وإن قامت في طريقه العقبات كوجود بعض الأبواب التي يتعذَّر عليه فتحُها، ويلزمه المرور منها لمواصلة السَّير، أو لوجود بعض الأنهار التي لا يُمكنه عبورها؛ فإنَّه بعد تلاوة الكلمات السِّحرية الموجودة في الكتاب يتمكَّن من تذليل كلِّ هذه الصِّعاب.
وقد كُتبت بعضُ هذه النُّسَخ بإتقانٍ وجمالٍ بلغا حدَّ الكمال، وشُرحت بصُورٍ صغيرةٍ هي غايةٌ في الدَّلالة والتَّنسيق، وكلُّها تُمثِّل نواحي مختلفةً من حياة العالم الثَّاني، ومن هذه الصُّور تمكَّنَّا من معرفة عقائد قدماء المِصريِّين عن الحساب بعد الموت، وعن السماء.
ولكنَّ باقي النُّسَخ مکتوبٌ بإهمالٍ؛ لأن الكَتَبة كانوا يعلمون أن مصير الكُتُب — التي يسهرون في كتابتها — الدَّفن مع الميت، حيث لا يُمكن أن تقع عليها عينا إنسان، وعليه فلم يعتنوا في كتابتهم، ولم يرَوا بأسًا في وجود غلطاتٍ كثيرة، بل كان يبلغ الإهمال بهم أحيانًا إلى حذف بعض فصولٍ بِرمتِها من الكتاب، ولم يكن يدور بِخَلَدِهم أنه بعد موتهم بآلاف الأعوام ستُنبش القبور، ويُستولى على ما فيها، ويظهر إهمالهم للملأ.
وما لا ريبَ فيه أن كثيرًا ممَّا يتضمَّنه هذا الكتاب سقط وسخف — وهي أبعد ما تكون عن تعاليم الإنجيل النَّبيلة — وسأنقل للقارئ فصلًا مُوجزًا ليحكمَ بنفسه:
فصل في دفع خطر الثعابين
كان المِصريُّون يعتقدون أن الميت لا يحتاج للنَّجاة من الثُّعبان إذا اعترضه في طريقه إلى السَّماء إلَّا أن يذكُر هذه الجملة، وهي كفيلةٌ بأن تَحل قوى الثُّعبان؛ ليتمكَّن الميت من السَّير بأمانٍ. وهذه الجملة هي:
«تحيةٌ أيُّها الثُّعبان، لا تتقدَّم من مكانك، قِف حيث أنت وسوف تأكُل جرذًا يكرهه رع «ربُّ الشَّمس» وسوف تمضغُ عِظام قِطَّةٍ قذرة.»
هي حماقةٌ ليس إلَّا، وتُوجَد فصولٌ أخرى لا تَقِلُّ عن الفصل السَّابق غباوةً وبلاهة. وإنِّي أعجب كيف كان أناسٌ عقلاء کالمِصريِّين يعتقدون في هذه الخُزَعبِلات!
ولكن بجانب هذا السُّخف نجد فصولًا تحوي أفكارًا غايةً في السُّمُو والنُّبل، كأنما أُوحِيَت إليهم من الله نفسه. وأهمُّ هذه الأفكار هو اعتقادهم بأن الإنسان يُحاسَب على أعماله في الدُّنيا — بعد الموت — وأن الآلهة لا ترحم في الآخرة إلَّا الذين عدلوا ورَحِمُوا وتواضعوا وخضعوا لأوامرها.