المعابد والقبور
إنَّ السَّائحَ الذي يجوب بلادنا إنجلترا لمشاهدة الآثار القديمة، لا يجِد أمامه إلَّا كنائسَ وحصونًا، فهنا الكاتدرائيَّات الفخمة، وهنالك القصور العظيمة التي كان يسكنها الملوك والأمراء، والتي كانوا يتَّخذون منها قصورَا تؤويهم، وحصونًا تدفع عنهم شرَّ أعدائهم.
ولكنَّ الأمر يختلف إذا كان هذا السَّائح يجوب أرض مصر.
يُوجَد عددٌ وافرٌ من الكنائس أو بالأحرى المعابد، وهي غايةٌ في الإبداع والفخامة، أمَّا الحصون والقصور فلم يَبقَ منها شيء، وبدلًا منها تُوجَد القبور. وفي الحقِّ إن مصر بلد المقابر والمعابد.
لأنه لمَّا كان الشَّعب المِصريَّ عظيمَ التَّديُّن، يخُصُّ آلهته بكلِّ تبجيلٍ وتقدیرٍ؛ فقد أكثر من تشييد المعابد لها.
ولكن ما السَّبب في تلك الحماية الموفورة التي وجَّهُوها إلى بناء القبور؟
السَّبب في ذلك — وسنشرحُهُ شرحًا وافيًا في فصلٍ قادمٍ — أنه لم يُوجد شعبٌ آثرَ الحياة الأُخرى على الحياة الدُّنيا كالشَّعب المِصريِّ القديم.
فهم كانوا يبنون منازلهم وقصورهم بأخفِّ الموادِّ كالخشب والصَّلصال، علمًا منهم بأن تعميرهم فيها لن يطول، أمَّا قبورهم أو المساكن الأبدية — كما كانوا يُسمُّونها — فقد شيَّدُوها باعتناءٍ ودقَّةٍ حتَّى خَلَدَت على الدَّهر.
وسأصِفُ لك الآن معبدًا، وهو في أكمل صورةٍ؛ أي كما كان وقت تشييده. والنَّاس يقصِدُون مصر الآن من جميع أنحاء الدُّنيا ليشاهدوا خرائبَ تلك المعابد، وهم يعُدُّونها — كما هي الآن — من أغرب ما خلَّف العالم القديم، بل هي تُعَدُّ من غرائب فنِّ البناء في الوقت الحاضر.
وهي الآن لا تزيد عن أن تكون الهيكل العظميَّ للمعابد الأصلية، ولا تدُلُّ على الأصل القديم إلَّا بمقدار ما يدُلُّ الهيكل العظميُّ على الجسم الإنسانيِّ في جماله وحياته.
هَب الآن أننا قادمون نحو مدخل معبدٍ عظيم، وَهَبْ أن المعبد لا يزال مقرًّا لربٍّ من الأرباب تعبده آلافٌ من البشر.
فإذا تركنا الشَّوارع الضَّيِّقة المؤدِّية للمعبد، نجد أنفسنا واقفين في طريقٍ مُمَهَّدةٍ تمتدُّ أمامنا مئات الأقدام، وعلى جانبَي ذلك الطَّريق يُوجَد صفَّان من تماثيل أبي الهول ذات أجسام الأسُود ورءوس البَشَر أو أيِّ مخلوقٍ آخر.
بعض آباء الهول لها رءوس إنسانٍ مثل أبي الهول الكائن بجانب الهرم، ولكن التي تُوجَد على جانبَي طریق المعبد يكون لها في الغالب رأسُ كبشٍ أو رأسُ ابنِ آوَى.
وفي نهاية الطَّريق يرى السَّائر بُرجَين عظيمَين بينهما مدخل المعبد الكبير، وأمام كلِّ برجٍ من بُرجَي المعبد تقف مسلَّةٌ عظيمةٌ منحوتةٌ من حجر الجرانيت، وهي أشبه شكلًا بمسلَّة كليوباطرة المُقامة على ضفاف التِّيمز، وكلُّ مسلَّةٍ منقوشةٌ نقشًا بديعًا، ومكتوبٌ عليها باللغة الهيروغليفية والصُّوَر مطعَّمةٌ بالألوان الجميلة الزَّاهية.
وقِمَّة المسلَّة مصُوغةٌ بالذَّهب؛ ما يجعلها تتلألأ تحت أشِعَّة الشَّمس المُرسَلَة.
وبجانب كلِّ مِسلَّةٍ يُوجَد تمثالٌ أو تمثالان للملك الذي أمر بتشييد المعبد، والتِّمثال يُصوِّر ملك مصر جالسًا على عرشه، واضعًا على رأسه تاج مصر المُزدَوَج الأبيض والأحمر.
وإنَّك حين تنظر إلى وجه الملك تعجب؛ كيف استطاعت أيدٍ بشريةٌ أن تنحِتَ من الأحجار الصَّمَّاء وجهًا ناطقًا بالغًا حدَّ الكمال في تمثيل مقاطع الوجه مثل هذا!
ولا يزال إلى الآن بقية تمثال رمسيس الثَّاني قائمًا أمام أحد معابد طيبة. ولمَّا كان هذا التِّمثال جديدًا كان ارتفاعه سبعًا وخمسين قدمًا، وكان وزنه ألفَ طُن، وهو أعظم كتلةٍ حجريةٍ أخرجتها يد البشر، وعلى كلِّ بُرجٍ مُثَبَّتٌ عمودان في نهاية كلٍّ منهما رايةٌ مُزيَّنَةٌ بالألوان.
أمَّا جُدران البُرج، فكلُّها صُوَرٌ تُمَثل الملك في أثناء حروبه، فهنا تراه مُطاردًا في عربته، وهنا تراه مُمسِكًا ببعض الأسرى من شعورهم، ورافعًا سيفَه ليقتلهم.
وهذه الصُّوَر تُظهِر الملك قويًّا وأعداءَهُ مُستضعَفين؛ إمَّا أسری وإمَّا هاربين. وواجهة المعبد مُزيَّنةٌ بالألوان مُزدانةٌ بالنقوش، وهي على العموم، بما فيها من نقوشٍ ورموزٍ تاريخية، تاريخٌ تصوُّري لحكم الملك.
نحن الآن واقفون أمام باب المعبد المصنوع من خشب الأَرز، والذي لا تستطيع أن تتبيَّنه لِمَا عليه من النُّقوش والصُّور المُزيَّنة بالألوان.
فإذا دخلنا من الباب، رأينا أمامنا بهوًا عظيمَ الاتِّساع، وهو يُشبه الدير، وسقفه مُقامٌ على أعمدةٍ طويلةٍ منقوشة، وهي منحوتةٌ على قدِّ النَّخلة وشكلِها، وفي وَسَط المكان يرتفع عمودٌ عظيمٌ منقوشٌ على سطحه أعمال فرعون، وصوره وهو يُقدِّم الهدايا لربِّ المعبد، وهذا العمود مُزیَّنٌ بالأحجار الكريمة.
وفي نهاية البهو يرى الدَّاخلُ بُرجَين بينهما باب، وهذه الوجهة تُشبه الوجهة الخارجية، وهي تُؤدِّي إلى بهوٍ آخر. وإذا اجتزتَ هذا الباب، وجدت نفسك في بهوٍ آخرَ يكاد يكون مُظلِمًا؛ لأن النُّور لا يصله إلَّا من الباب السَّابق الذِّکر، ومن طاقٍ ضيِّقٍ في السَّقف، وهذا البهو هو أوسع حجرةٍ شيَّدتها يدُ البشر.
وفي وَسَط المكان يُوجَد صفَّان من الأعمدة التي ترفع السَّقف، وهي تكوِّن صحن البهو، وحول ذلك ممرَّات ضيِّقة مرفوعة سقوفها على أعمدةٍ صغيرةٍ عديدة مُتراصَّة.
والأعمدة التي تكوِّن صحن البهو ترتفع فوق رأسك سبعين قدمًا في الهواء، ورءوسها منحوتةٌ على غِرار زهرةٍ مفتحة، ومساحة قمَّتها تسع مائة رجل.
كيف أحضروها إلى هذا المكان، وكيف صنعوها على هذا الارتفاع العظيم؟
وكانت الأعمدة مُغطَّاة بالنُّقوش والصُّور كما قدَّمنا وكذلك كانت جميع الجُدران المُحاطة بالبَهو، ولكن ليست هذه الصُّور تُمَثل الحروب؛ لأن ذلك المكان أقدس من أن يُرسَم فيه أمثالُ هذه الصُّور.
بدلًا من ذلك ترى صور الآلهة، وصور الملوك تُهدى إليها الهدايا، وهي كثيرةٌ متعدِّدة؛ لأن كلَّ هديةٍ كان يُقدِّمها الملك كانت تُنقَشُ صورته وهو يُهديها.
وأخيرًا نَصِلُ إلى قُدس الأقداس، وهي حجرةٌ أصغر حجمًا وأخفض سقفًا من البَهوَين السَّابقين، والنور لا يجد إليها مَنفذًا، وعلى ذلك فهي في ظلامٍ دامس، ولولا شعاع المِصباح الذي يُمسكه الكاهن وهو يقودك لَمَا استطعت التَّقدُّم خطوةً واحدة.
هنالك يُوجَد المقام المقدَّس، وهو مأوًى يسكنه رأس الإله، وهذا المقام منحوتٌ من الجرانيت، وله أبوابٌ من خشب الأَرز، وهي مغلقةٌ دائمًا.
ولو استطعنا فتحها لوجدنا تمثالًا خشبيًّا كهذا الذي رأيناه محمولًا مُحتفلًا به في شوارع طيبة، وعليه أفخر الثِّياب، وحواليه الهدايا والمأكولات والمشروبات؛ وما ذلك إلَّا لأنه الخالق لكلِّ ما وصفنا لك من عظمة هذه الأمَّة القديمة.
ويُوجد جيشٌ من الكَهَنة يقومون بخدمته ليل نهار، يُزيِّنونه بالنُّقوش، ويُقدِّمون له الطَّعام والشَّراب والضَّحايا، يترنَّمون بمدحه وعبادته.
وخلف المعبد تُوجَد مخازن مُفعَمة بالحبوب والفواکه والنَّبيذ، وهي كفيلةٌ بتموين مدينةٍ كبيرةٍ في أثناء حصارٍ عصيبٍ. والإله — فوق ذلك — مالكٌ من أغنى المُلَّاك، له من الأراضي الواسعة ما ليس لنبيلٍ أو عظيم، ويُوازي دخلُه دخلَ فرعون نفسه، وله جيشه الخاصُّ الذي لا يأتمر إلَّا بأمره، وكذلك أسطولٌ في البحر الأحمر، ويحمل إليه البخور من الأراضي الجنوبية، وأسطولٌ آخر في البحر الأبيض يُورِدُ إليه الملابس وخشب الأَرز من لبنان.
وطبيعي أن يكون الكَهَنة في منزلةٍ من القوَّة والسُّلطان دونها جميع الأمراء والنُّبلاء، بل لقد كان فرعون نفسه لا يُقدِمُ على إغضابهم، ولنفوذهم الذي قد يهزُّ أركان عرشه، وهكذا كان المعبد المِصريُّ منذ ثلاثة آلاف سنةٍ؛ أي في الوقت الذي كانت فيه مصر سيِّدة الأرض، ومع ما وصفتُ لك من جمال المعابد وفخامتها، فإنَّ ذلك كلَّه لا يُعَدُّ شيئًا لو قابلناه بجمال القبور وعظمتها.
لقد دفع المِصريِّين اعتقادهم الرَّاسخ بالحياة السُّفلى إلى تشييد قبورٍ خالدة، تحفظ أجسادهم على مرور الأعوام والأجيال، حتَّى إن الملوك — الذين حكموا القُطر قبل بدء التَّاريخ — حفروا لأنفسهم قبورًا حصينةً في باطن الأرض، ووضعوا فيها من الأثاث والأطعمة كلَّ ما ظنُّوا أنهم يحتاجون إليه في حياتهم السُّفلى.
ولكنَّ أعظم مثَلٍ للقبر المِصريِّ القديم في العظمة والفخامة هو ما بُني في عهد خوفو، الذي خبَّرتُك عنه في خرافات زازامانخ ودیدي.
على مقرُبةٍ من القاهرة — عاصمة مصر في الوقت الحاضر — يُرى أعظم ما ترك السَّلَف من الأبنية، تُرى الأهرام — قبور ملوك مصر القدماء — وإنَّ مَن يُشاهد هذه القبور يُدرك ما كان البنَّاءون المِصريُّون عليه من المقدرة قبل الميلاد بأربعة آلافٍ من السِّنين.
وأكبر هذه الأهرام هرم کیوبس وهو خوفو الذي ورد اسمه علينا في الخرافات السَّابقة، ولم يُشَيَّد مثله فيما مضى قبل زمن تشييده، ولا بعد ذلك حتَّى أيَّامنا هذه. ويُقدَّر ارتفاعه بأربعمائةٍ وخمسين قدمًا، وقد هُدم جزءٌ من قمَّته يبلغ ارتفاعه ثلاثين قدمًا، ويبلغ طول الجانب الواحد من جوانب قاعدته خمسًا وستِّين قدمًا، أمَّا مساحة الأرض التي يشغلها فيُقدَّر باثنَي عشر فدَّانًا؛ وهذا اتِّساع حقلٍ جميل.
ولكي أُقرِّب إلى ذهنك صورةً من عظمته، أقول إنه لو استُعملت أحجاره للبناء لكفَت لتشييد مدينةٍ تَسَعُ سُكَّان أبردین، ولو قُسم كلُّ حجرٍ من أحجاره إلى أحجارٍ مُكعَّبةٍ لا يزيد ضلع الواحد منها عن قدم، ثمَّ رُصَّت هذه الأحجار في خط، لتجاوز هذا الخطُّ نصف محيط الكرة الأرضية، ولكنَّ الصُّعوبة في كسر الأحجار؛ لأن معظمها يَزِنُ من أربعين إلى خمسين طنًّا.
وجميع أحجار الهرم متلاصقةٌ بعضها ببعضٍ؛ بحيث لا يُمكن إدخال ما يُساوي سُمكه سُمك صفحة كتابٍ رقيقةٍ بين حجرَين.
وفي داخل ذلك الجبل العظيم تُوجَد ممرَّاتٌ تؤدِّي لحجراتٍ صغيرة، ومن هذه الحجرات «حجرة الملك»، وفيها كان يرقد الملك أعظم بناءٍ عُرف من بدء الخليقة وكانت الممرَّات مسدودةً بكُتَلٍ حجريةٍ عظيمة، حتَّى لا يُزعِجَ الملكَ في رقدته مُتطفِّل.
ولكن رَغم كلِّ هذه الحوائل، وجد اللصوص طريقهم إلى حجرة الملك، وسرقوا التَّابوت، وتركوا جُثَّة الملك العظيم تذرُوها الرِّياح، كما قال الشاعر بیرون:
«لم يبقَ من کیوبس ولا قبضة تراب.»
أمَّا باقي الأهرام فأصغر من الأوَّل، وأقلُّ ضخامةً منه، ولكن ممَّا لا ریب فيه، أنه لو لم يُوجَد الهرم الأكبر لعُدَّت من عجائب الدُّنيا.
ويُوجد بجانب الهرم الثَّاني تمثال أبي الهول، وهو تمثالٌ ضخمٌ له جسم أسدٍ ورأس إنسان، ونحن لا نستطيع أن نجزمَ بمعرفة ناحِتِه، ولا السِّرَّ في تصويره على هذا الشَّكل، وهو رابضٌ في مكانه منذ أجيالٍ عديدة، كأنه يحرُسُ قبور الفراعنة!
ويُقدَّر ارتفاعه بسبعين قدمًا، وطوله بمائتي قدمٍ.
وهو أغرب تمثالٍ نحَتَته يدُ الإنسان.
وبعد مرور أعوامٍ عدَّة، تعب الملوك من تشييد الأهرامات، وتغيَّرت عاداتهم؛ فبدلًا من أن يرفعوا القبور إلى هذا الارتفاع العظيم، حفروها في الأرض لحفظ رُفاتهم. وعلى ضفاف النِّيل الغربية عند طيبة تُوجَد هذه المقابر، وهي لتعدُّدِها تظهرُ في التِّلال مثل خلايا النَّحل. ووُجدت هذه القبور مُزيَّنة بالصُّور ومنقوشة بالهيروغليفية، وتُمَثِّلُ صورها حياة الملك في مظاهرها المختلفة.
ففي صورةٍ تراه جالسًا وبجانبه زوجته، ومن حولهما الخدَم وهم يقومون بأعمالهم المختلفة، يروون الأرض ويبذرون البذور، ويجمعون الكروم، أو يصنعون النَّبيذ. وفي صورةٍ أخرى ترى صاحب القبر وهو ذاهبٌ إلى السُّوق يشتري حوائجه.
وجُملة القول أنه بعد التأمُّل في هذه الصُّور يُمكننا أن نعرف أسرار الحياة المِصرية في ذلك العهد، وفي الواقع أن معظم معلوماتنا عن المِصريِّين القدماء وأحوال معيشتهم مُستمدَّةٌ من هذه القبور وأمثالها.
وفي أحد الوديان الضَّيِّقة المُسَمَّى «وادي الملوك» دُفن كلُّ الفراعنة المُتأخِّرين تقریبًا، ومقابرهم الآن من أهمِّ ما يذهب السَّائح من أجله إلى طيبة.
وسوف أصِف لك أجملها وهو قبر سيتي الأوَّل والد رمسيس الثَّاني السَّابق الذِّكر.
تدخل الباب الصَّخري فتجد نفسك في ظلام، ولا تترك ممرَّاتٍ إلَّا لتسيرَ في أخرى، حتَّى تصلَ إلى الحجرة الرَّابعة عشرة «منزل أوزوريس الذهبي»، وهي على بُعد أربعمائةٍ وسبعين قدمًا من المدخل، وفيها يرقُد الملك في تابوته الجميل، وجميع الجُدران والأعمدة منقوشة ومزيَّنةٌ بالألوان والصُّور.
وبعض هذه الصور وهي المرسومة على الأعمدة تُمثِّل الملك وهو يُقدِّم الهدايا للآلهة، أو تُصوِّر الآلهة وهي تُرحِّب بالملك. أمَّا الصُّور التي على الجُدران فهي في غاية الغرابة؛ لأنها تُمثِّل رحلة الشَّمس في مملكة الدُّنيا السُّفلى، وتُبيِّن جميع الصُّعوبات التي تَلْقى الرُّوح في أثناء سياحتها في الشَّمس. والرُّوح الشِّرِّيرة تتبعها الحيَّات والوطاويط المُسلَّحة بالحِراب. وهي تَسُوم سيئ الحظِّ الذي يقع تحت رحمتها أقْسَى أنواع العذاب؛ فتُمزِّق قلبه، وتقطع رأسه، أو تضعه في قِدرٍ تغلي، أو تُعلِّقه من قدمَيه وتترك رأسه يتدلى في بحيرةٍ من نار.
وتدخل الرُّوح — إذا تخلَّصَت من هذه الأخطار — في حقل الرَّحمة؛ حيث تجني ثمار أفعالها الطَّيِّبة في الدُّنيا، وحيث تنال السَّعادة الأبدية، وفي نهاية الرِّحلة يصل الملك، وتُرحبُ به الآلهة في مسكن السُّعداء؛ حيث يعيش عِيشة إلهٍ في حياةٍ أبدية.
والتَّابوت الذي كان يرقُدُ فيه سیتي موجودٌ الآن بدار الآثار ﺑ لندن، ولمَّا اكتُشف كان فارغًا، ولم يُعثَر على جُثَّة الملك حتَّى سنة ١٨٧٢م؛ إذ وجدها بعض لصوص المقابر المُحدَثين (نعني المستكشِفين) مَخفيةً في حُفرةٍ عميقة بين الصُّخور، ومعها جُثَثُ ملوكٍ آخرین.
وهو الآن في دار العاديات بالقاهرة، وتستطيع أن ترى وجهه وملامحه، ولم تتغيَّر كثيرًا عمَّا كانت عليه لمَّا حكم قبل الآن بثلاثة آلافٍ ومائتي سنة.
وفي هذا المتحف يُمكن رؤية تحتمس الثَّالث أعظم ملكٍ حربيٍّ مِصري، ورمسيس الثَّاني مُضطهِد بني إسرائیل، ومنفتاح الذي كفَر بدين موسى، ورفض طلبَه بخروج بني إسرائیل من مصر، والذي غرِق في البحر الأحمر وهو يُطارد عبيدَه الفارِّين.
كم يكون عجيبًا لو استطاع واحدٌ منَّا أن يرى الوجوه الحقيقية لأبطال قصَّة الإنجيل!
لقد كان المِصريُّون يعتقدون أنه إذا مات إنسانٌ تنتقل روحُه إلى حياةٍ أخرى، وهي تُحِبُّ أن ترجع إلى جثمانٍ أرضي، ويسرُّها أن تستقرَّ في نفس الجسم الذي كانت فيه قبل طلوعها إلى العالَم الثَّاني، وأن هدوء الرُّوح واستقرارها في العالم الثَّاني يتوقَّفان — بطريقةٍ ما — على حفظ الجسم سليمًا.
وطبيعيٌّ بعد ذلك أن يُوجِّهُوا عنايتهم إلى تحنيط الجُثَثِ؛ فكانوا ينقعونها أيَّامًا في قارٍ وطِيبٍ حتى تُحنَّط، ثمَّ يلفُّونها في طبقاتٍ كثيفة من الكَتَّان.
بهذه الطَّريقة بقيت الجُثَث دون أن يُصيبها التَّلَف أو التغيُّر، وكأنما کُتب لها أن تسكن المتاحف، وأن يراها مَن كانوا همجًا يسكنون الغابات حين كانت مصر إمبراطوريةً عظيمة ذاتَ قوَّةٍ وسلطانٍ.