قدماء المصريين والسماء
أريد — في هذا الفصل — أن أشرحَ لك ما كان يظنُّ قدماءُ المِصريِّين عن السَّماء.
ما هي السَّماء، وأين تُوجَد؟ وكيف يسكنها النَّاس بعد الموت؟ وأيَّ نوعٍ من الحياة يعيشون فيها؟ وقد كان لهم أفكارٌ غريبة عن كلِّ ذلك.
كانوا يعتقدون مثلًا أن السَّماء الزَّرقاء صحنٌ حديدي يشمل الفضاء الموجود فوق الدُّنيا، وأن هذا الصَّحن مرفوعٌ على جبالٍ في أربعة أركان؛ هي الشَّمال والجنوب والشَّرق والغرب، والنُّجوم مصابيحٌ مُعلَّقة في بطن القُبَّة العظيمة، وكانوا يتصوَّرون أن حول العالم يجرى نهرٌ عظيم، وهو الذي تَسبَحُ فيه الشَّمس يومًا بعد يومٍ في سفينتِها مرسلةً الأنوار للدُّنيا، ونحن نستطيع رؤيتها في أثناء سَيرها من الشَّرق إلى الغرب، أمَّا بعد ذلك فيجري النَّهر خلف جبالٍ شاهقةٍ تحجُبُ الشَّمس عنَّا، وهنالك تبدأ رحلة الشَّمس في عالَم الظَّلام.
ويتبع الشَّمس في سَيرها القمر، وهو يُبحِرُ في سفينةٍ خاصَّة، وتحرسه عينان لا تغفُلان عنه أبدًا، وممَّا يدعو لهذه الحراسة أن القمر يصطدم كلَّ شهرٍ بعدُوٍّ لدودٍ يظهر له في شكل خِنزير، ففي بحر أسبوعين يسير القمر مُطمئنًّا، يكبر ويستدير إلى أن ينتصفَ الشَّهر ویکون قد بلغ تمامه، فيتمكَّن الخِنزير من طعنِه ويُزحزحه عن مكانه، ويطرحه في النَّهر، فيأخذ في النُّقصان والزَّوال حتى مُستَهَلِّ الشَّهر الثَّاني؛ حيث تعود الحياة إليه رُوَيدًا رُوَيدًا.
هذه هي أفكار قُدَماء المِصريِّين عن دورة القمر وزيادته ونقصانه، وكان لهم أفكارٌ أخرى لا تَقِلُّ عن هذه غرابةً.
لا أقصد أن أقول شيئًا عن اعتقادهم في الله؛ لأنهم كانوا يعبدون آلهةً كثيرة، وكان لكلِّ إلهٍ من هذه الآلهة مذاهبُ ومعتقداتٌ خاصَّة، وإنِّي أُتعِبُك لو حاولتُ أن أشرحَ لك كلَّ هذه الدِّيانات وما يتَّصل بها من المُعتقدات المختلفة.
وأهمُّ ما يسترعي الانتباه حقًّا هو اعتقاداتهم عن الحياة التي يحياها النَّاس في السَّماء، بعد انتهاء حياتهم على الأرض؛ فإنَّه لم يُوجَد شعبٌ من الشُّعُوب كان يُصَدِّقُ ويُؤمن بخلود الأرواح بعد الموت مثل المِصريِّين، وفوق ذلك كانوا يعتقدون بأن كلَّ ميتٍ يبدأ حياةً جديدة، يسعَدُ فيها أو يشقي تبعًا لِمَا كان يفعله في الدُّنيا من الخير أو الشَّرِّ. وعلى العموم كانت أفكارُهم عن الدُّنيا السُّفلى مختلفةً يصعُبُ على العقل فهمُها، وسأشرح لك أهمَّ وأبسط هذه الأفكار.
كانوا يظنُّون أنه في بَدء تكوين الخليقة، لمَّا كانت الأرض صغيرة، كان يحكم مصر ملكٌ نبيلٌ يُدعى أوزوريس، وكان مُحِبًّا للرَّعية، قضى حياته في تعليمهم أنواعَ المعرفة المُفيدة.
وكان للملك أخٌ شرِّیر حسود يُدعی سیت، يكرهه ويحقد عليه؛ ففي ذات يومٍ دعا سيت أخاه لتناوُل العشاء معه، وكان قد جمع بعض رُفقائه ودبَّرُوا مكيدةً ضدَّ أوزوريس النَّبيل.
وجلس الجميع، وبينهم الملك، يقصفون ويلهون، حتَّى قام سیت وأتی بصندوقٍ جميل، ووعد بمنحِهِ لمن يُماثِلُهُ طولًا وحجمًا، وقام كلُّ واحدٍ منهم يقيسُ نفسه على الصُّندوق طمعًا في إحرازه دون جدوى. ولمَّا جاء دَور أوزوريس انتظر المُتآمِرُون حتَّى وضع نفسه في الصُّندوق — الذي صُنع على قدِّه — ثمَّ أغلقوا بابه ورمَوا به إلى النِّيل، وحمَلَته الأمواج مسافاتٍ طويلة، حتَّى رسَا بجانب الشَّاطئ.
وكان لأوزوريس زوجةٌ مُخلِصة هي إیزیس، خرجَت تبحث عنه في كلِّ مكان، حتَّى عثرَت على الصُّندوق، وجلست بجانبه تبكي زوجَها المحبوب. ولكن فاجأها سيت، وخطف الجُثَّة من بين يدَيها، وقطَّعَها إرَبًا إرَبًا، ونثرها في الهواء، فزاد ذلك في حزن إیزیس، حتَّى هامَت على وجهِها تجمع ما تناثَر من لحم زوجها، وتدفنه حيث تجده.
وكان لإيزيس طفلٌ يُدعی هوروس، فلمَّا كبرَ وصار رجُلًا تبارَزَ مع سيت وقتلَه انتقامًا لوالِده. هنالك اجتمعت الآلهة وتبيَّن لها من مُحاسبة الشَّقِيقَين ما كان أوزوريس عليه من الحقِّ والهُدى، وما كان أخوه عليه من الغَيِّ والضَّلال، ثمَّ إنَّهم رفعوا أوزوريس إلى مصافِّ الآلهة، وعيَّنُوه قاضيًا يُحاسِب النَّاس بعد الموت.
واستنتج المِصريُّون من هذه القصَّة الاعتقاد بالحياة بعد الموت، فقالوا: إذا كان أوزوريس قد بُعث بعد الموت، فإنَّ الذين يعبدونه يُبعثون كذلك ويعيشون معه.
وتُشابه هذه القصَّة ما ترويه الكتب المُقدَّسة عن موت المسيح، وبعثه حیًّا بعد ذلك.
وكانوا يعتقدون كذلك أنه إذا مات الإنسان على الأرض تصعَدُ روحُه — بعد تحنيطه ودفنه — إلى أبواب قصر أوزوريس في الدُّنيا الأخرى؛ حيث تُحاسب الأرواح في المحكمة الإلهية، وكان لا بُدَّ للرُّوح من معرفة أسماء الأبواب السِّحرية لكي تدلَّها على المحكمة.
وكان بالمحكمة ميزانٌ كبيرٌ يقف بجانبه إلهٌ لتدوين نتائج حساب الأرواح، وكان يجلس في جوانب المكان اثنان وأربعون مخلوقًا مُفزِعًا؛ وهم الذين يُعاقِبون الخُطاة الذين اقترفوا ذنوبًا مُعيَّنة، فإذا دخَلَت روحٌ إلى المحكمة تتقدَّم من هؤلاء، وتعترِف لهم بأنها لم تقترف ذنبًا من الذُّنوب المنصوص بعقاب من يقترفها. بعد ذلك يحضر قلب صاحب الرُّوح، ويُوضَع في إحدی کفَّتَي الميزان، ويُوضع في الكفَّة الأخرى ريشة، وهي رمز الصِّدق، فإذا رجَحَت كفَّة القلب كانت الرُّوح خاطئة، وجزاء صاحبها أن يُقذف بقلبه بين براثن وحشٍ عظيم، يتكوَّن نصفه من التِّمساح، والنصف الآخر من فرس النَّهر، وكان دائمًا يَربضُ خلف الميزان لِيَلتَهِم القلوبَ الخاطئة. أمَّا إن رجَحَت كفَّة الصِّدق «الريشة» فإنَّ هوروس يقود الرَّجُل إلى حضرة أوزوريس؛ حيث يسمح له بالدُّخول في السَّماء.
ولكن ما هذه السَّماء؟ لقد كوَّن المِصريُّون عنها عدَّة أفكارٍ مُتباينة، منها ما هو ظريفٌ؛ وهو أن الأرواح العادلة تصير نجومًا تُضيء العالَم إلى الأبد، ومنها أن هذه الأرواح تُرافق الشَّمس في سفينتها، وتسير معها في سياحتها الأزلية.
ولكنَّ الفكرة التي كانوا يُرَجِّحُونَها هي ما يتصوَّرونه عن وجود بلدٍ عجيبٍ يُدعی «حقل البَردي» في مكانٍ قاصٍ جهةَ الغرب؛ حيث تنمو شجرة القمح، وترتفع ثلاث يارداتٍ ونصفًا في الهواء، وتكون سنبلتُها ياردةً كاملة، وتكتنف أرضَ الحقل القنوات الجميلة المُفعَمَة بالأسماك، حولها الغاب والبَردي، فإذا تركت الرُّوح المحكمة سارَت في طُرُقٍ غريبةٍ محفوفةٍ بالأخطار، حتَّى تصِلَ إلى ذلك المكان الجميل حيث يقضي الميت، — وهو حينئذٍ حيٌّ خالدٌ — حياةً أبدية في سعادةٍ لا تَشُوبُها شائبة، يزرع ويحصد، أو يتريَّض في قاربه، أو يلعب في المساء تحت شجرة الجميز.
ومثل هذه السَّماء تجذب قلوب من تعوَّدُوا الأعمال العظيمة، ومارسوا أشقَّ الحِرَف، وکابَدُوا الكثير من متاعب الحياة؛ أمَّا النُّبَلاء فلم تستهوِهم هذه السَّماء، فهم لا يقومون بأيِّ عملٍ على الأرض، فلماذا يُكلِّفون أنفسهم ذلك في السَّماء؟
وأعملوا الفكرة ليهتدوا إلى طريقةٍ يستطيعون بها أن يستصحبوا معهم عبيدهم إلى السَّماء، وأظنُّهم حاولوا ذلك في بادئ الأمر بقتل العبيد في قبر سیِّدِهم، حتَّى يُرافقوه إلى السَّماء ويقوموا بأعماله كما كانوا يفعلون في الأرض.
ولكن لمَّا كان المِصريُّون ميَّالين بطبعِهم إلى الرَّأفة، فقد نفروا من هذه الطَّريقة الشَّنيعة، ووجد الأشرافُ طريقةً أخرى لتنفيذ فكرتهم، وهو أنهم كانوا ينحِتُون من الأحجار وُجوهًا تُشبه أوجه العبيد، وكانوا ينحِتُون مع كل عبدٍ آلةً للعمل؛ فهذا على كَتِفِهِ مِجرَفَة، وذاك في يدِه صندوق، وهكذا.
أيُّها المجيب، إذا دعاني أحدٌ لأعمل أيَّ شيءٍ في السَّماء كأن أرويَ حقلًا أو أحمل رملًا، ينبغي عليك أن تصيحَ «أنا هنا.»
يالَها من فكرةٍ غريبةٍ عن السَّماء! والأغرب منها ظنُّ الأمراء بأنهم يستطيعون تجنُّب العمل والتَّعب في الدُّنيا الأخرى بهذه الوجوه الطِّينية.
ولكن يجب علينا ألَّا ننسى أن المِصريِّين توصَّلوا كذلك لمعرفة جانبٍ عظيمٍ من الحقيقة التي قرَّرتها الأديان التوحيدية، فكانوا يعتقدون بأن أفعال الإنسان في الدُّنيا هي التي تُقَرِّرُ مصيره في الآخرة، وأن الشِّرِّير وإن نجا من العقاب في الدُّنيا، فالآلهة لا تترکه في الدُّنيا الأخرى بلا حسابٍ أو عقاب.
ومِن الإنصاف أن نذكُر أن هؤلاء القوم الذين دلُّوا على عبقريَّتهم في أحوالٍ كثيرةٍ، لم يكونوا إلَّا أطفالًا بالنِّسبة للزَّمن والعِلم، وهم مثل الأطفال في تكوينهم الأفكار الخاطئة المُضحكة عن الأشياء التي يجهلونها ولا يستطيعون فهمها، ومثل الأطفال، أيضًا يمُدُّون أيديَهم في الظَّلام، يبحثون عن أبيهم المحبوب وهم يجهلون مكانه.
فلا حاجة للغرابة إذا أخطئوا في ذلك الزَّمَن وضلُّوا الطَّريق.
وإنَّما يَحِقُّ لنا أن نعجبَ کيف أن الله الذي هداهم إلى تلك الأفكار السامية، وعلَّمَهم تلك الفنون العظيمة، قد ترك لنفسه شواهدَ تدلُّ عليه حتَّى في تلك الأيام المُنطوِية.