يوم في طيبة
بعدَ أن مرَّ أمامَنا منظرُ إضراب العُمَّال وعودتِهم إلى عملهم ثانيًا، واصلْنا سيرَنا إلى قلب المدينة، ولقد لاحظنا أن شوارعَها ضيِّقَة، وتتقابلُ المنازل من فوق الرءُوس هنا وهنالك؛ فكان يحدُثُ أننا نسيرُ تحت منازلَ مُتَّصِلَة، كمن يسير في سِردابٍ مُظلِم، وبعضُ المنازل عظيمُ الاتِّساع شاهقُ الارتفاع، ولكنَّ مظاهرها الخارجية — على العموم — غير جميلة.
فقد يكون داخِل المنزل جميلًا فاخِرًا، تكتَنِفه الحدائقُ الغنَّاءُ الحافِلةُ بجميع أنواع الأزهار والأشجار، وفي وسَطِه بِركةٌ بديعة، وغُرَفه مُؤثثة بأفخر الرَّياش، مُزيَّنَة بأجمل السَّتائر، ولكنَّ أسوارَه الخارجيةَ سوداء، ولها بابٌ ضخمٌ عظيمٌ.
ثمَّ مرَرنا بأحياء مُكدَّسةٍ بالأكواخ الحقيرة، مُزدَحمة بالمارِّين، حتَّى إنَّه صعبٌ على المارِّ أن يَشُقَّ طريقًا لنفسِه! هذه هي أحياء العُمَّال، ولا تذهبُ في أيِّ جهةٍ منها إلَّا وتشعُرُ بالحرارة المُرتفعة، وتَشمُّ الرَّوائح الكريهة التي لا تُطاق. وكم عجبتُ؛ كيف يستطيعُ إنسانٌ أن يعيشَ في أمثال هذه الأماكن؟!
وبعدَ أن قطَعنا شَوطًا كبيرًا، انتهى بنا المسيرُ إلى مَيدانٍ فسيح، وهو سوقٌ من أسواق المدينة، والعمل هنالك في حركةٍ دائبة، والحوانيتُ عبارةٌ عن خِيَمٍ أو مظلَّاتٍ متوسِّطةِ الاتِّساع ومفتوحةٍ من الجهة الأمامية، وترى البضائع موضوعةً في الدَّاخِلِ والخارج، بينما يجلسُ صاحبُ الحانوت القُرفُصاء مُتأهِّبًا للبيع والحساب، ويَلفِتُ إليه الأنظارَ بصوته العالي وهو يُشِيد بِجَودةِ بضاعتِه ورُخصِ ثمنِها.
وكان النَّاسُ — وهم من جميع الطَّبَقات والأجناس — يذهبون ويجيئون دون أن ينقطعَ لهم تيَّار؛ فإنَّ أمثال هذه الأسواق كانت تجذِبُ إليها النَّاسَ من جميع أنحاء القُطْر وأطراف العالَم القديم.
فأهل المدينة يأتون ليشتروا حوائجَ منزلية، ولِيتبادلوا الأخبار المختلفة، والفلَّاحون يُبادِلون ما يحمِلونه من قُطعان الحقول ومحصولاتِها بالبضائع التي لا تُوجَدُ إلَّا في المُدُن، ويجيءُ كثيرٌ من السيدات النبيلات — يتبعُهنَّ الخَدَم — لِيَنتقوا من بين المعروضات ما يروقُهُنَّ من الجلابيب المُزخرَفَة والصَّنادِل الجميلة.
وكنَّا نرى غير ذلك كثيرًا من الغُرَباء، وقد رأينا حيثيًّا من قادش وحوله مظهرٌ خاصٌّ به يُميِّزه عمَّا سواه؛ يضعُ على رأسه غِطاءً عاليَ القِمَّة، وبَشرتُهُ صفراء، وحِذاؤهُ ثقيل، ويسيرُ مُلتفتًا حوالَيه وعيناه تبرُقان بحبِّ الاستطلاع والجَشَع، كأنه يعتقد أن طيبةَ خيرُ مدينةٍ للنَّهب والسَّلب. وشاهَدْنا كاهنًا من الطَّبَقة العُليا، يسيرُ برأسه المحلوق لافًّا حول كَتِفَيه جِلدَ نَمِر، مُمسِكًا بيده درجًا من درج البَردِي، ويَتبعُهُ سردينيٌّ يسير مُتغطرِسًا، وقد انعكسَت أشِعَّةُ الشَّمس على قرنَي خُوذتِه، وتمايل السَّيف المُعَلَّقُ بجانبِه، وليبيٌّ مِن رُماة القوس يَتبَعُه بقَوسِه، ويَلفِتُ الأنظارَ إليه بريشَتَيه المُعلَّقَتَين في غِطاء رأسِه.
وكان الجميع مُنهمِكين في البَيع والشِّراء والمُبادَلَة. والنُّقود التي نَستعملها الآن كانَت مجهولةً في تلك الأيَّام، ولهذا كانت المُبادلة أساسَ المعاملة التِّجارية.
وكثيرًا ما كانت المناقشة تحتدُّ والأصواتُ تعلو إذا ما اختُلِفَ على عدد السَّمَكات — مثلًا — التي يصِحُّ أن تُبادَلَ بفراش، أو على عدد أكياس البصل التي تُقدَّم في مقابِل مَقعدٍ فخم، وهكذا. ولمَّا كان المِصريُّ — بطبعِه — ميَّالًا للمُساومة ماهرًا فيها، فقد كانت ضوضاء الكلام لا تنخفضُ أبدًا، وكثيرًا ما كان يخرج بعضُ التجار عن العادة المُتَّبعة في المُبادلة، فيُبادِلون بالخواتم النُّحاسية والفِضِّية والذَّهبية بدلًا من البضائع. فإذا أراد فلَّاحٌ أن يبيعَ ثَورًا يُقَدِّم له التجَّارُ نظيرَه تِسعين خاتمًا نُحاسيًّا، ولكنَّ الفلاح يشكو قلَّةَ الثَّمَن، ويُصَرِّحُ بأن مثل هذه المُبادَلة تُعَدُّ سَرِقَة، وبعد مُشادَّةٍ طويلةٍ يرفَعُ التَّاجِرُ عدد الخواتم إلى أحد عشر فوق المائة، فيتمُّ الاتِّفاق بذلك؛ ولكي يتحقَّقَ الفلَّاحُ بأنه لم يُخدَع يعمَدُ لوزن الخواتم، ويأتي بميزانٍ كبير، ويضع الخواتم في كفَّة، ويضعُ في الكفَّة الأخرى أثقالًا (على شكل رءُوس الثِّيران)، ولا يهدأ ثائِرُهُ إلَّا إذا انخفضَت كفَّةُ الخواتم، ولكن رَغم حذرِه وشدَّة احتراسه، فإنَّه لا يجمعُ الخواتم في كيسِها ويسيرُ في حال سبيله، حتَّى يكونَ التَّاجرُ قد استرجعَ كثيرًا من الخواتم إلى محلِّها الأوَّل.
وبعد ذلك ضربنا خيمتَنا، وعرَضنا فيها ما حمَلْنا من نفائس البضائع، وكانت أقمشةً ذات ألوانٍ زاهية، وكان جارُنا صائغًا، وهو دائمًا مُنهمك في عملِه، قابضٌ على مِنفاخِه، وأمامه فُرنه الصَّغير، وكان يَلحمُ سِوارًا لامرأةٍ تنتظرُهُ بصبرٍ وأناةٍ.
وفي إحدى نواحي السوق يقعُ منزلٌ كبير، ولم تكن به بضائعُ ولا معروضات، وكان الناس يدخلونه زرافاتٍ زرافات، وكان كثيرٌ من العُمَّال يدخلونه، ثمَّ يغيبون بُرهة، ويخرجون وهم يمسحون أفواههم ويترنَّحون في ضعفٍ وانحلالٍ.
ولقد رأيتُ شابًّا يترنَّحُ يتَّجِهُ نحو باب المنزل، وكان بجانبي رجُلان، فلمَّا رآه أحدُهما قال لزَميله: «إنَّ بنتوير ذاهبٌ مرَّةً أخرى ليُمضي يومًا في سرور؛ سوف تكون نهاية هذا الشَّابِّ سيِّئة.»
وخرج — بعدَ وقتٍ قصير — بنتوير، وكانت قدماه لا تستطيعان حملَه، وبعد أن تمايَل ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار، سقط على الأرض لا حَراكَ به كمن فقد الحياة، وتُرِكَ على هذه الحالة المُخزية، والمارَّةُ يضحكون منه دون أن يكترِثُوا لشأنه، وحدث أن مرَّ به رجلٌ وابنه، ولمَّا تأمَّلَه قال لابنِه: «انظُر إلى هذا الشَّابِّ يا بُنَي، واتَّعِظ بمصيرِه، وعاهِد نفسك ألَّا تشربَ خمرًا، فإنَّها تُتلِفُ صحَّتَك، وتُلَوِّثُ نفسك بالأوحال، فإن صُرِعتَ يسخرُ منك النَّاس، ولا يمُدُّ لك أحدٌ يدَ المعونة، حتَّى رفقاؤك، فإنَّهم يتركونك ويذهبون ليشربوا، ولا تُرَى إلَّا راقِدًا في الطِّين وغائِبًا عن الوجودِ.»
ولكنَّ أمثال هذه النَّصائح كانت تذهبُ هباءً؛ لأن المِصريَّ ميَّالٌ بطبعِه لقضاء اليوم الطَّيِّب — كما كان يدعو اليوم الذي يُمضيه في الحان— حتَّى السيدات الجميلات كُنَّ يشربنَ حتَّى يتعذَّرَ عليهنَّ المشي، ويُرفَعنَ وهنَّ في حالة إعياءٍ إلى منازلهنَّ.
مضَينا في سَيرِنا ببطءٍ وتمهُّل، حتَّى اقتربْنا من الحيِّ المُقدَّسِ في المدينة؛ حيث لاحَت لأنظارِنا المعابدُ العالية والمسلَّاتُ العظيمةُ من فوق أسطُحِ المنازل.
وقد رأينا عن بُعدٍ جماعاتٍ من النَّاس مُقبلةً نحوَنا في مُظاهرةٍ كبيرة، وسمِعنا أصواتَ الطُّبول والنَّاي، وقد سألنا بعضَ المارِّين مُستفسِرين عن هذا الموكِب وأخبرونا بأنه احتفالٌ ديني، وأن هذه الجماعة تحملُ صورةً صغيرةً للرَّبِّ آمون؛ إله طيبة العظيم، وأنهم يتأهَّبُون لحفلةٍ دينيةٍ كُبرى، سيكون على رأسها فرعون نفسه.
ووقَفْنا مُلتصِقين بأحد أبواب المنازل من شدَّة الزِّحام، وراقَبْنا الاحتفال وهو يمُرُّ أمامنا، فمرَّ الموسيقيُّون والمُغَنُّون، وأخذَتِ النِّساءُ يرقُصنَ ويُحَرِّكنَ في أيديهنَّ قِطَعًا من المَعدِن، وشاهدْنا في وسَط الجماعات ستَّةً من الرِّجال كانوا مركزَ المُظاهرة الدِّينية، وإليهم كانت تتَّجه الأنظارُ.
كانوا طِوالًا نِحافًا، حادِّي النَّظَرات، مَحلوقي الرءوس، ملفوفي الأجسام في أثوابٍ بيضاءَ من الكَتَّان المِصريِّ الجميل. وكانوا يحملون على أكتافهم — بواسطة قضبانٍ — أُنموذجًا لقاربٍ نيليٍّ مُقام في وسَطِه تمثالٌ صغير، وكان هذا التِّمثال مُغَطًّى بستر، لم يظهر منه شيء، كأنهم أرادوا أن يُخفوا الإله عن عيون المُتطفِّلين.
وكان أمام الباب الذي كنَّا مُستندِين عليه عمودٌ خشبيٌّ مُثَبَّتٌ في وسَط الشَّارع، فلمَّا وصل الرِّجال إلى هذه البُقعة وضعوا القارب الصَّغير على قِمَّتِه، وكان مع اثنَين منها بخورٌ فحرَقاه، وتصاعدَ دُخانهُ حول القارب والتِّمثال.
ثمَّ رفعَ كاهنٌ صوتَه، وعدَّدَ مناقب الرَّبِّ العظيم الذي خلقَ كلَّ شيءٍ وصانَ كلَّ شيء، وعلى أثَر ذلك تقدَّمَ بعضُ الواقفين، وقدَّموا للرَّبِّ أزهارًا أو فواكِهَ ومأكولاتٍ أخرى.
بعد ذلك أتَت الدَّقيقةُ الرَّهيبة، وتقدَّمَ كاهنٌ من التِّمثال، وأزاح السِّترَ الذي يُخفيه، في وسَط سكونٍ مُخيِّم كُتِمَت فيه الأنفاس، ورأينا أمامنا صورةً خشبيةً لا يزيد ارتفاعها عن ثماني عشرة بوصة، مُزيَّنَة بالأوسِمَة، ومُلَوَّنةً بالأخضر والأسود.
ولقد كان لظهور الصُّورة من التَّأثير على الطَّيبين (وهي أقدسُ شيءٍ في العالم في نظرهم) ما جعلَ ألسنتَهم تَلهَجُ بآيات الإعجاب والعبادة.
أُسدِلَ السِّترُ بعد ذلك على التِّمثال، وواصل الموكِبُ سَيرَه، وتَبِعَته الجموعُ الغفيرة، فعادت الشَّوارع إلى ما كانَت عليه من السَّكينة والهدوء.
وكان علينا إن أردْنا مشاهدةَ فرعون — في أثناء مروره إلى معبد آمون — أن نُسرِعَ بتناول الغداء، وعلى ذلك رجَعنا إلى شاطئ النِّيل مُختَرقينَ الشَّوارعَ المُضلِّلة التي قطعنا في سَيرِنا الأوَّل، وذهبنا توًّا إلى سفينتِنا لتناوُلِ طعام الغداء.