فرعون في القصر
أَزِفَ الوقتُ الذي قرَّرَ أن يذهبَ فيه الملكُ إلى المعبد العظيم بالكَرنَك ليُقَدِّمَ أُضحِية. لقد ذهبنا إلى الطَّريق الذي يُوصِّل ما بين القصر وطريق المعبد؛ لنشهدَ فرعون وموكبَه المُلُوكي.
وأُحِبُّ الآن أن أُحدِّثك عن فرعون، والحياةِ التي يَحياها.
ليست كلمة فرعون اسمَه الحقيقي، وليست هي لقبَه الرَّسمي، وكلُّ ما في الأمر أنها لفظٌ كانوا يدلُّون به على أحد العظماء الذين يتهيَّبُون من ذِكر أسمائِهم، كما كان يذكرُ التُّركيُّ الباب العالي إذا عنى السُّلطان وحكومته، وعلى هذا القياس كان المِصريُّون يُطلِقون لفظة فرعون على مَلِكِهمُ العظيم، ومعناها اللغَوِي «البيت العظيم».
وقد كان ملك مصر عظيمًا حقًّا، وكان النَّاس لذلك ينظرون إليه كما لو كان أكثر من إنسانٍ عادي، وكان هو نفسه يعتقد أن ذلك صحيحٌ لا ريبَ فيه. نعم، لقد كان المِصريُّون يعبدون آلهةً مُتعدِّدة، ولكنَّ أقرب هذه الأرباب كلها إلى نفوسهم، وأحوزَها لاحترامهم وعبادتهم كان مَلِكهم.
لقد حكمت الملوك مصر منذ أزمانٍ غابرة، ولقد كانوا دائمًا يعتقدون أن ملوكَهم آلهة كامنة في لحمٍ بشري، وكان المَلِكُ يُطلِقُ على نفسه «ابن الشَّمس»، وعلى جدران المعابد ترى صورة المَلِك وهو صغيرٌ جالِسًا على فَخِذِ الربِّ الذي يُدلِّـلهُ كما يُدلِّلُ الأبُ ابنَه.
وتبعًا لهذا الاعتقاد، فهم كانوا يبذلون في سبيلِهِ كلَّ عزيزٍ لدَيهم، ويُقَدِّمون له أنواعَ الضَّحايا، فإذا صعِدَ إلى السَّماء لاحقًا بإخوته الآلهة، شيَّدُوا له معبدًا عظيمًا لإحياء ذِكره على الأرض، ويُخَصَّصُ لهذا المعبد جماعةٌ من الكَهَنة يسلخون حياتهم في عبادتِه والتغنِّي بمَناقِبِه.
ولكن يُوجَدُ فارقٌ واحدٌ بين فرعون وبقية الآلهة، فالأرباب أمثال آمون في طيبة، وبتاح في ممفيس، وغيرها، تُدعَى «الآلهة العِظام»، أمَّا لقبُ فرعون فيختلف عن ذلك. ويُدعَى «الإله الطَّيِّب».
وفي الوقت الذي أتحدَّثُ عنه، كان «الإله الطيِّب» رمسيس الثَّاني، ولا ريبَ أن هذا جزءٌ صغيرٌ من اسمِه الكامل؛ لأنه مثل جميع الفراعنة، له قائمةٌ من الأسماء تملأُ صفحتَه.
ولم تكن رعيَّتُهُ في طيبة قد رأته من زمنٍ طويلٍ؛ لأنه كان غائبًا في سوريا يُحاوِلُ حلَّ عِدَّةِ مُشكِلاتٍ سياسية، فلمَّا رجَعَ لمصر، انهمكَ في بناء عاصمةٍ جديدةٍ في تنيس أو «زون» كما يدعوها اليهود. وهي واقعةٌ بين الدِّلتا والحدود الشَّرقية، وكان يُمضِي مُعظم وقته فيها.
وجميع الذين شاهدوا العاصمة الجديدة يُثنونَ عليها أجملَ ثناء، ويُشِيدُون بِعظَمِها إشادةً بليغة، ويُسهِبُونَ في وصف معبدها الجديد وتمثال فرعون المُقام أمامه البالِغ ارتفاعه تِسعينَ قَدَمًا، ولكن، حتَّى في ذلك الوقت كانت طيبة لا تزال مركزَ حياة الشَّعب التِّجارية.
وكان سبب قدوم المَلِكِ إلى طيبة هو توقُّعُه قيام حربٍ بينه وبين الحيثيِّين، وقد أتى ليستشيرَ أخاه الرَّبَّ آمون، ليجمعَ جيشه.
وكان القصر المَلَكيُّ في حركةٍ غير اعتيادية؛ فالرُّسُل ذاهبون آئبون، والقُوَّاد والمُستشارون يدخلون وبأيديهم التَّقارير والأوامر.
ولم يكن القصرُ المَلَكيُّ من الفخامة والمتانة بحيث يستطيع الخلود على ممرِّ الأيَّام، وقد كان المِصريُّون يُشَيِّدُونَ القبور والمعابد على أن تَخلُدَ أمَدَ الدَّهر، أمَّا القصور فقد كانوا يَبنونها لأجَلٍ معلومٍ. وقد كانت العادةُ أن المَلِكَ الجديد لا يُقيم في قصر أبيه، وإنَّما يأخذُ في بنيان قصرٍ جديدٍ يُوافِقُ مِزاجَهُ وذَوقَه، فلم يكن فرعون يُشَيِّدُ قصرَه إلَّا ليُمضِيَ فيه حياتَه القصيرة، وكان عالِمًا بأن ابنه إن تولَّى المُلك يومًا سوف يبني قصرًا جديدًا، وعليه فقد كانت القصور تُبنَى من موادَّ بسيطة، وتُحاطُ بأسوارٍ متينةٍ ضخمةٍ؛ لأنه وإن كان فرعون ربًّا معبودًا، إلَّا أن رعِيَّتَه قد تتمادَى في أشدِّ حالات العِصيان والتَّمَرُّدِ خَطَرًا، ولم تكن المكايِدُ ضدَّ المُلوكِ مجهولةً في ذلك الوقت، فقد حدث لأحد الفراعنة الماضين أن هُوجِمَ وهو على فراش القَيلولة، واضطُرَّ إلى الدِّفاع عن نفسه بمُفرده وبيدَيه ضدَّ جماعةٍ قويةٍ من المتآمِرين.
ومن ذلك الوقت رأى فرعون أن يعتمِدَ على أسوارِه الضَّخمة، وعلى حراسة السردانيِّين الأقوياء، وألَّا يجعل جُلَّ اعتمادِه في الدِّفاع عن نفسه موقوفًا على ألوهيَّتِه وعبادةِ النَّاس له. ويُحيط هذا السُّورُ بحديقةٍ غنَّاء حافلةٍ بأنواع الزُّهور والرَّياحين، وفي وسَطِها بُحيرةٌ صناعيةٌ مُحاطةٌ بأنواع الأشجار والشُّجَيرات المُختَلِفة.
وفي نهاية الحديقة يُوجَدُ بابٌ ضخمٌ يُؤَدِّي إلى بَهو الاجتماع العظيم، وهو مُزيَّن بالألوان، ومقامٌ سقفُهُ على أعمدةٍ مُزخرَفةٍ على شكل سيقان اللوتس، وعلى كلِّ جانبٍ من جانبَي البهو تُوجَدُ غرفةٌ كبيرة، وخلف بهو الاجتماع تُوجَدُ غُرفَتان للاستقبال، وهما أفخمُ غرفتَين في مصر كلِّها، وخلفهما تأتي حُجُرات نومِ أهل القصر العديدِين.
ولرمسيس زوجاتٌ كثيرات، وله تبعًا لذلك جيشٌ من الأولاد والبنات، وغرفة نوم المَلِكِ مُنعزِلَةٌ في جهةٍ وحدَها، ومُكلَّلَةٌ بالزُّهور والرَّياحين.
وكان «ابن الشَّمس» يُمضِي يومًا مملوءًا بالأعمال المختلفة، فكان عليه أن يُطالِعَ كثيرًا من الرَّسائل والتَّقارير ليُصدِرَ حكمه فيها، وكان الأمراء السُّورِيُّون قد أرسلوا للملك تقريراتهم عن تقدُّم جيوش الحيثيِّين، وطلبوا معونةَ المَلِكِ لدفع الخَطَر عن أنحاء مُلكِهِ الواسعِ.
وقد عقد المَلِكُ العزم على أن يُصدِرَ تصريحًا بكلِّ ذلك، ومن ثَمَّ يتبادل المشورة مع قُوَّاد ونُبلاء المملكة. وكان في إحدى نواحي البَهو شُرفة فخمة كان يظهرُ فيها المَلِكُ لشعبه، وكانت واجهتُها مُرصَّعةً بالجواهر والأحجار الكريمة، وكانت العادة أن المَلِكةَ وبعضَ الأميرات يقفن بجانب المَلِكِ عند ظهورِهِ للشَّعب.
فُتِحَت أبواب البهو، وتسرَّبَ إليه جماعاتُ النُّبلاء وُحكَّام الأقاليم وقُوَّاد الجيش الكبار ومُدِيرو الإدارة، وتزاحَمُوا جميعًا ليُقَدِّمُوا فُرُوضَ الطَّاعة لسيِّدِهم ومولاهم، وفي لحظةٍ اصطفَّ الجميعُ في نظامٍ وأدب، وفُتِحَ بابٌ كبير، وفي الحال ظهرَ المَلِكُ العظيم؛ مَلِكُ الوجهَين البحريِّ والقِبلي، مصحوبًا بزوجتِه وأُسرتِه.
وكانت العادة المُتَّبَعةُ قديمًا في استقبال الملوك، أن القوم الذين يحظَون بمقابلة ملكٍ من الملوك ينبغي لهم أن يركعوا له سُجَّدًا ويُقَبِّلُوا الأرض بين يدَيه، ولقد اندثَرَت هذه العادة الآن، فلا يبلُغُ حبُّ الملوك وإظهار الطَّاعة لهم حدَّ السُّجُود والرُّكوع بين أيديهم.
لمَّا دخلَ فرعون انحنى الجميع أمامه باحترامٍ لا مثيلَ له، ورفَعوا أيديَهم كما لو كانوا في صلاةٍ دينيةٍ «للرَّبِّ الطَّيِّب»، وانتظَروا صامِتين مُتَهَيِّبِين حتَّى يبدأَ المَلِكُ بالكلام.
وصوَّبَ فرعون نظرَه إلى الجمع المُحتَشِد أمامه، ونقل بصرَه من واحدٍ إلى آخر، حتَّى استقرَّ على قائد قوَّات طيبة، فسألَه عن مقدار استعداد جيشه.
هنا تقدَّمَ الجنديُّ باحترام، وانحنَى بتهيُّبٍ وإجلال، ولكنَّه لم يتفوَّه بكلمةٍ في الموضوع؛ لأنه لم تكن العادة أن يتكلَّمَ مباشرة، وراح يُلقِي قطعةَ مديحٍ محفوظة تُشِيدُ بعظمة الملك وشجاعته وإقدامه في الحروب، قائلًا إنَّه حيث تجري جِيادُهُ تفِرُّ أمامها جموعُ الأعداء، ثمَّ أجاب بعد ذلك على سؤال الملك. وعلى هذا المنوال تقدَّمَ القُوَّادُ والنُّبَلاءُ والمُستشارون ليُجيبوا على الأسئلة المُوجَّهة إليهم، ولِيُبدوا آراءَهم فيما يُبسَطُ أمامهم من أمور الدَّولة.
ولمَّا انتهى الاجتماع، أصدرَ المَلِكُ أوامرَه بإعداد عربةٍ ليحضُرَ حفلة المعبد الدِّينية، وخرج كما دخلَ بين صفوفٍ ساجدةٍ بين يدَيه مُستغرقةٍ في عبادتِها.
بعد ذلك رأينا الباب الحصين يُفتَحُ على مِصراعَيه، وخرجَت ثُلَّةٌ من الجنود رافعةً الرِّماح، ثمَّ وقَفَت على مسافةٍ قصيرةٍ من باب القصر، وعلى أثرهم خرج الحَرَسُ السردانيُّ مُثقَلًا بالأسلحة، وعلى رءوسهم الخُوَذُ اللامعة، وبأيديهم الدُّروعُ المتينة والسُّيُوفُ الطَّويلة المسلولة، وقد اصطفُّوا على جانبَي الطَّريق، ووقفوا كالتَّماثيل مُتَرَقِّبِينَ ظهورَ فرعون.
وسمِعنا أصوات عجلات، وظهرَت أمامنا عربةُ فرعون وهي تسير به شطرَ طريق المعبد. وقد سارَت الجنود الرَّافعة الرِّماح في المُقَدِّمة، أما السردانيُّون فقد جَرَوا بحِذاء عربة الملك على كلٍّ مِن جانبَيها، ولم يتأخَّرُوا عنها قيدَ شعرةٍ رَغم تثقُّلِهم بالأسلحة.
وما إن رأتِ الجموعُ المُزدَحِمَةُ عربةَ الملك، ووقعَت أبصارُهُم على فرعون، حتَّى سجدوا على الأرض، ومَسُّوا التُّراب بجِباهِهِم، وفرعون ينظُرُ أمامه لا يلتفتُ يمنةً ولا يسرة، وكان واقفًا مُنتَصِبًا لا يتمايل — ولو قليلًا — رَغم اهتزاز العربة الشَّديد، وكان مُمسِكًا بيده عصًا معقوفةً وسَوطًا، وهما الرَّمزُ المَلَكِيُّ المِصريُّ، وعلى رأسه خُوذَة الحرب، وفي الجهة الأمامية من هذه الخُوذة أفعى مُكوِّنة قمَّة عالية بِعِدَّة لفَّاتٍ حول نفسِها. وكان شكلها مُخيفًا كأنها تُهَدِّد أعداء مصر. وكان يُزيِّن طلعتَه الجميلة بلحيةٍ مُستعارة، ويُغطِّي جسمَه القويَّ الجميلَ بثوبٍ من الكَتَّان الأبيض، وحول وسطِه نِطاق ذهبي تصِلُ أهدابُهُ إلى رُكبتَيه، وفي طَرَفَيه حيَّتانِ مُزخرَفَتان، ويجري بجانب العربة حاملوا المراوح من ريش النعام، يُحَرِّكونها في أثناء جريِهِم دون أن يضطرِبُوا لذلك، ومهارتهم تدعو للإعجاب والدَّهشة! ويتبعُ عربةَ الملك عرباتُ الحاشية، وهي — على العموم — أقلُّ فخامةً وعظمةً من عربة الملك. وقد جلَسَت في العربة الأولى المَلِكَة، وبيدِها زهرة اللوتَس الجميلة يتضوَّعُ شذاها.
أمَّا الذين في العربات الأخرى فجُلُّهم أمراء يجري في عروقِهِم الدَّمُ الفرعوني، وقد شاهَدنا بينهم الأمير السَّاحر خامواس، وكان أعظمَ ساحرٍ في مصر، ومن مُعجزاته قدرتُهُ على استحضار الأموات من القبور! وكان النَّاس يجفلون أمام بصره الحاد، ويتهامسُون فيما بينهم وبين أنفسهم، بأن درج البَرديِّ الذي يضمُّه إلى صدره كان قد أخذَه من قبر ساحرٍ من ساحري الأيَّام القديمة.
وفي دقائق معدودةٍ مرَّ الموكِبُ بعد أن بهرَ الأنظارَ بفخامتِه، وبالأشِعَّات المُنعكسة على أسلحته وجنوده والجواهر التي على أفراده العِظام، وجرَت خلفه الجموعُ الغفيرةُ نحو معبد الكرنك.
لقد رأيتُ في لحظةٍ أعظمَ رجُلٍ على ظهر البسيطة، والظَّالمَ الجبَّار المذكور في قصَّة بني إسرائيل؛ كم كان قويًّا، وكم كان فخورًا!
وطبيعيٌّ أنه لم يكن يحلم بأن اليهوديَّ الصَّغير الذي تبنَّته ابنتُه، والذي تربَّى بجامعة الكَهَنةِ بهليوبوليس، سوف يُذِلُّ مصر في يومٍ من الأيَّام، ويُبدِّل عزَّها هوانًا، وأن اسم فرعون العظيم لم يُكتَب له الخلود وذيوع الصِّيت إلَّا لأنه اقترنَ باسم موسى.