حياة الجندي
إنَّكَ إذا اطَّلعتَ على ما كُتب عن المِصريِّين في الكتاب المُقَدَّس، خُيِّلَ إليك أنهم أمَّةُ حربٍ وطِعان، وأنهم لم يوجِّهُوا همَّهم لشيءٍ في الحياة كالحرب والغزو. وحقًّا لقد حاربوا طويلًا، وانتصروا كثيرًا، واستطاعوا بذلك أن يُكَوِّنوا إمبراطوريةً عظيمةً لم تصغُر في شأنِها عن أيِّ إمبراطوريةٍ قامَت في العهد القديم.
ولكنَّهم لم يكونوا ميَّالين بطبعِهِم وسجيَّتِهم إلى الحرب والقتال، ولم تكُن رُوح المِصريِّ مُفعَمة بذلك المَيل الغريزيِّ الذي يدفع صاحبه إلى القتال في أيِّ فرصة، ويُسَبِّبُ له من السُّرور والحُبُورِ في أثناء القتال ما لا يُمكِنُ تصوُّره عقل إنسان، أي إنَّهم لم يكونوا مثل أعدائهم الآسيويِّين والبابِلِيِّين.
ونحن الذين قُدِّرَ لنا أن نتَّصِلَ بأحفادِهم — المصريِّين الحديثين — وأن يكونَ بيننا وبينهم من الأمر ما هو معروف. نعلم حقَّ العِلمِ أن المِصريَّ يَنفرُ من الحرب نُفُورًا شديدًا، ولقد تحقَّقنا من ذلك في أثناء حروبنا معهم وضدَّهم.
نعم؛ قد يُظهِرُ الجنديُّ المِصريُّ مهارةً خاصَّة، ويُبلي بلاءً حسنًا، إذا قاده إلى القتال قُوَّادٌ ماهرون، ولكنَّه مع ذلك يختلفُ عن السُّودانيِّ الذي يُقاتِلُ حُبًّا في القتال.
المِصريُّ يُؤثِرُ عِيشةَ السَّلام على الحرب، وليس أشهى لدَيه من الإقامة في حقلِهِ بين أُسرته وقُطعانِهِ يزرَعُ الأرضَ ويرويها. هكذا المِصري، وهكذا كان آباؤه وأجداده، ولكن إذا أمر فرعون بالحرب فلا يُوجَدُ من يتردَّدُ في طاعة أمرِه؛ هنالك يُحارِبون تحت قيادته ويُبلون البلاء الحَسَن، ولكن طول الوقت لا يشغل بالَهم مثل وطنهم والحنين إليه، وكم تكون سعادتُهم عظيمةً إذا انتهتِ الحرب، وأَزِفَ وقتُ الرُّجوع إلى الوطن ومسرَّاتِه الهادئة البسيطة!
وعلى العموم، كانوا شعبًا مُسالِمًا رحيمًا، ميَّالًا للسُّرور والأخذ بأسباب المسرَّات، ولا تجدُ بينهم فظًّا غليظًا كما تجدُ بين الآسيويِّين.
وفي الحقيقة كان المِصريُّ لا يرضى لنفسه أن يحترفَ الجُندِية؛ لأنه كان يعتقد أنها عملٌ مؤلِمٌ لا يختلف عن الأعمال الشَّاقَّة، ففيها يتعرَّضُ الجنديُّ لكلِّ أنواع الذُّلِّ والمَهانة، ولا تظُن أن سوءَ ظنِّه هذا بالجُندية كان على غير الحقِّ.
أما ما يرجوه في الحياة، فهو أن يفوزَ بعملِ كاتبٍ عند أحد الأغنياء أو في مصالح الحكومة، يكتب التَّقارير ويحسبُ الحسابات. ولمَّا لم يكن في الإمكان أن تتَّسِع الوظائف لجميع الشُّبَّان، فقد كان الأب الذي يتمكَّنُ من توظيف أحد أبنائِه أسعدَ الآباء، ولو أنه من المُحتمَلِ جدًّا أن يحتقرَه الابن، ويترفَّعَ عن الانتساب إليه وإلى إخوته الذين يزرعون في الحقول أو يخدمُونَ في الجَيش.
ولدَينا الآن كتابٌ قديمٌ كان كاتبُهُ جنديًّا، ثمَّ رُقِّيَ إلى ضابطٍ في الإدارة السِّياسية، كتبَه لشابٍّ صغيرٍ مُبيِّنًا له آراءَه عن الجُندية، مُحذِّرًا إيَّاه أن يتَّخِذَها مهنةً مُستقبلة. وكان الشَّابُّ وَلوعًا بأن يكونَ في أحد الأيَّام من جنود العربات، وهم الذين يُقابلون الفرسان عندنا اليوم، وكان يقف في العربة جُندِيَّان أحدهما يسوق ويقودُ الجِياد، والآخَر يُحارِبُ بقَوسِه، وفي بعض الأحوال بالسَّيفِ أو الرُّمح.
وقد قال له إنَّ فرسان العرباتِ ليسوا أحسنَ حالًا من بقية الجُند، وقد يَظهَرُ العملُ لقليل الاختبار جذَّابًا جميلًا، فلا يركبُ الجنديُّ العربة حتَّى يظُن أنه ملِكٌ على الأرض كلِّها، ثمَّ يذهب إلى أهله بملابسه الجديدة فخورًا مُختالًا!
ولكنَّه مُعرَّض لأشدِّ أنواع العقوبات وأقساها إذا ارتكَبَ أقلَّ الأخطاء وأهونَها، فإذا جاء يوم التَّفتيش ووُجِد أن أحد الجنودِ مُقصر أقلَّ تقصير، أو أن إحدى مُعِدَّاتِه بها خَلَلٌ لا يُذكَر، فإنَّهُ يُطرَحُ على الأرض، ويُضرَبُ بالعِصي ضربًا مُبرِّحًا، حتَّى يُشرِفَ على الهلاكِ من شدَّة الألم. ويُؤَكِّد للشَّابِّ أن هذه الحالة التي وصفَها تُعَدُّ خيرًا بكثيرٍ من حالة الجنود العادية، فإنَّهم كانوا يُجلَدون في ثَكناتِهِم لأيِّ هفوةٍ تصدُرُ منهم، ثمَّ إنَّهم يتكبَّدون أشدَّ المتاعِب في أثناء الحروب، فيسيرون إلى سوريا الأيَّام الطِّوال، والأرض تأكل أقدامَهم التي لم تلمس إلا أرض مصر الليِّنَة. وكانوا يحملون مُعدَّاتِهم ولوازمَهم وآلاتِ القتال. وبالجملة فقد كانوا ينوءون تحت حملٍ ثقيل، وكثيرًا ما كانوا يُضطرُّون إلى شُرب الماء القَذِرِ في أثناء اجتيازِهم الصَّحراء، غير مُبالِين بما قد يُسبِّبُه لهم من الأمراض، وهم الذين يُقاتلون الأعداء مُعرِّضين أنفسَهم للموتِ وأجسامَهم للتَّلَف، بينما يجلسُ القُوَّادُ في أمانٍ وسلام. فإذا انتهَت الحربُ عاد الجنديُّ منهم إلى بلدِهِ مُثخَنًا بالجراح، مُهدَّم البُنيان، مسلوبَ الملابس؛ وذلك لأن النُّوبيِّين الذين يحرُسُون الأمتعةَ ينتهِزُون فرصة اشتباك الفريقَين في القتال، ثمَّ يسرقون الأمتعةَ ويلوذون بالفِرار.
وختمَ الكاتب كلامه بأن قال: «خيرٌ من كلِّ ذلك أن تختارَ لنفسِكَ مهنةً كمهنةِ الكتابة، وتعيشَ سعيدًا في وطنك.»
وأستطيعُ أن أقولَ إنَّ كلام هذا الكاتب صحيح، وهذه الحالة التي كانوا يشكون منها قديمًا لا تزال على ما كانت عليه إلى الآن، ولكن رَغمًا عن كلِّ ذلك، فقد استطاع فرعون أن يجمعَ الجيوش الجرَّارة في وقتِ الخطر.
ولم يكن الجيش المِصريُّ كثيرَ العَدد مثل الجيوش التي نسمع عنها الآن، أو التي نقرأُ عنها في كتُب القدماء؛ فالجيوش التي قادها الفراعنة إلى أرض سوريا لم تكن تزيد على العشرين أو الخمسة وعشرين ألفًا، ولكنَّ الغريبَ أن يكونَ الجيش — وهو على هذه القِلَّةِ — كثيرَ الجنسيَّات، مثل جيشنا الموجود في الهند.
وأهمُّ فِرَق الجيش هي فِرَق الوطنيِّين من رُماة القَوس ورِجال الرُّمح، ويحمل الأوَّلون الأقواس والسِّهام، وهم أخفُّ حملًا من رُماة الرُّمح إلَّا أنهم أشدُّ خطرًا، فإنَّ المِصريِّين اشتهروا بالمهارة في الرِّماية مثل الإنجليز القدماء، وقد كانوا سبب انتصار فرعون في كثيرٍ من الأوقات، أمَّا الآخرون فيحمِلُون الرِّماحَ والدُّرُوع، وفي بعض الأحيان الفُئوس والخناجر أو السُّيُوف القِصار.
وهنالك فرقةٌ من جنود العربات، وهم من المِصريِّين أيضًا، ويُعتَبَرون أرقى درجةً من المشاة. ولم تكن مُهِمَّة جنديِّ العربة من الأمور السَّهلة، فقد كان عليه أن يحفظ توازنَه، وأن يُصيبَ عدوَّه في أثناء جري الخيل وسَيرِ العربة، ولا يَخفى ما في ذلك من الصُّعوبة، وما يحتاجه من المِران والثَّبات. وكانَت خيول العربات تُزيَّن أجملَ زينةٍ.
وفي كثيرٍ من الأحيان إذا خان الحظُّ الجُنديَّ المقاتلَ الموجود بالعربة، يعمَدُ الآخرُ — السَّائق — إلى مساعدتِه، فيَلف عِنان الجَوادَين حولَ وسطِه، ويبتدئُ في الطِّعان، على أن يضبِطَ الخيلَ بتمايُلِهِ ذاتَ اليمين وذاتَ اليسار.
ويُحيط بعربة فرعون الحرس المَلَكي، وكان مكوَّنًا من رجالٍ يدعوهم المِصريُّون «أرشردن» أو السردانيِّين، ومن المُحتمل أن يكونوا من القوم الذين أتَوا مصر من جهة البحر؛ ليرتزقوا من الخدمة في الجيش. وكانوا يضعون على رءُوسهم الخُوَذ المعدنية ذات القرون، وحول صدورهم الدُّروع القوية، وبأيديهم السُّيُوف الطَّويلة.
وخلف هؤلاء تسير الجندُ المُرتزَقة، وهم فِرَقٌ سودانيةٌ على أجسامِهم جلود الحيوانات المُفترِسة، وفي المؤخرة جنودٌ ليبيُّون من البدو.
ويسبق الجميعَ في أثناء الحرب فِرَقُ الكشَّافة، يستطلِعون الأخبار، ويتجسَّسُون على العدو، ويُمِدُّون جيوشهم بالأخبار.
وكان للمَلِكِ حارسٌ خاصٌّ به، هو أغربُ حارسٍ في العالم القديم والحديث؛ لأنه كان أسَدًا مُستأنَسًا، دُرِّبَ لخدمة سيِّدِه والدِّفاعِ عنه بأسنانِهِ ومَخالبِهِ إذا هاجمَه عدوٌّ.
أمَّا مُهِمَّات الجيش، فكانت تُرفع على ظهور الحَمير ويرقُبُها الحمَّالون، وكان المِصريُّون من أعظم النَّاس احتمالًا لمشقَّات السَّفَر والمشي، حتَّى ولو كان تحت أشِعَّة شمس سوريا المُحرقة، وخلال طرقها المجهولة، وكانوا يسيرون خمسة عشر مِيلًا يوميًّا، لمدَّة أسبوعٍ دون أن يُنهِكهم التَّعَب. والآن سأروي لك قصَّة جندي، حدَثَت في معركةٍ من «أهمِّ» معارك التَّاريخ.
كان مينا من أمهر راکبي العربات في الجيش المِصري، وقد ساعده نبوغُه على التَّرَقِّي والتَّقدُّم مع حداثة سنِّه، حتى اختِير ليكون سائق عربة فرعون نفسه لمَّا خرج الجيش من زارو (حصن مصر على الحدود) ليُحارب جيوش الحيثيِّين في شمال سوريا.
ولقد سار الجيش مسافةً طويلةً مُخترِقًا الصَّحراء ثمَّ أراضي فلسطين عابرًا الجبال، ولم يَظهر للعدوِّ أثر، وكان مینا مُوجِّهًا اهتمامه لقيادة الخيل وإدارة العربة.
وابتدأ الجيش ينحدِر إلى وادي الأورنت في اتجاه قادش، وقد تسرَّبت الكشَّافة إلى جميع الجهات، ومكث الجيش ينتظر قدوم العدوِّ وقد ساوَرَه القلق.
وكانت قادش تُرى على مرمى البصر، وقد ظهرت في الأُفُق قِمَمُ أبنِيَتها، وانعكَسَت في الفضاء أشِعَّة الشَّمس المُنعكسة على سطوح أنهارها وسَطح الخندق المُحيط بها. وكان السَّهل الممدود بين الجيش المِصريِّ والبلد الزَّاحف عليها خاليًا من أثر الإنسان، بما زاد في دهشة الملك وقلَق جنوده، وجاءت الكشَّافة بالأخبار، وأعلَمَت الملك بأن جيش الأعداء تقهقر إلى الشَّمال من الخوف والفَرَق، فظنَّ الملك أنه مُستولٍ على المدينة بلا عراك، ثمَّ أسرع بتقسيم الجيش إلى أربع فِرَق، وقاد الفرقة الأولى، وسار بها نحو قادش بجرأةٍ عظيمة، وبلا رَوِيةٍ أو تدبير، بعد أن أمر الفِرَقَ الأخرى باللحاق به، على ألَّا تبدأ فرقةٌ بالمسير إلَّا إن ابتعدَت منها الفرقة السَّابقة لها بمسافةٍ معلومةٍ.
ووصلت الفرقة الأولى يقودها فرعون إلى شمال غرب قادش، وعسکَرَت هنالك بعد أن أنهكَها الأينُ والكَلال، وأخذ منها التَّعَب كلَّ مأخذٍ.
ثمَّ رفعت الأثقال عن ظهور الحَمير؛ لتأخذ قِسطها من الرَّاحة.
وإذ كانت الكشَّافة تجوب الجهات المختلفة لتستطلِعَ أخبار العدو، عثرت في طريقها بعربتَين، فقبضت عليهما، وسارت بهما إلى المُعسكَر، وقدَّمَتهما إلى فرعون، وأمر الملك بضربهما بالعِصِي، حتَّى اعترف البائسان بأن ملك الحيثيِّين مُختبئٌ في الجهة المقابلة لعسكر المِصريِّين، وأنه يتربَّص الدَّوائر ليُنزِلَ بأعدائِهِ هزيمةً مُنكَرة.
وأسرع الملك فأنحَی باللائمة على جنود كشَّافته، واتَّهَمهم بقلَّة التَّبَصُّر والتَّسَرُّع في نقل الأخبار، وأصدر الأوامر بالتَّأهُّب للمسير.
ولكن قبل أن يقفز الملك إلى عربته — التي هيَّأها مينا للرَّحيل — دوَّت في الفضاء ضوضاءُ مُزعجةٌ عند باب المُعسكر، ورُئيت الفرقة المِصرية الثَّانية مُشتَّتةَ الشَّملِ ضائعةَ اللُّب، وهي تفِرُّ أمام جيوش الحيثيِّين الجرَّارة وعرباتهم البالِغة خمسةً وعشرين ألفًا، والآخرون يقتُلون فيهم ويأسِرُون.
انتظر الملك في مخبئه حتَّى وصلته الأخبار من جواسيسه بمعسكر الفرقة الأولى، ولمَّا درى بقدوم الفرقة الثَّانية أمَرَ بالهجوم عليها دفعةً واحدة، ولمَّا كانت الفرقة منهوكةَ القوى من مشقَّة السَّفَر، لم تستطِع المقاومة والثَّبات، وانتهى الأمر بفرارها وانتصار الحيثيِّين عليها. وقد أحدث فرارهم — وما هم عليه من تَعَبٍ وبؤسٍ — خوفًا عظيمًا في مُعسكر فرعون، سَرَى في نفوس الجميع، ففرَّ سوادُهُم مع بقية أفراد الفرقة الثَّانية، ولم يبقَ لمقاومة الأعداء إلَّا فرعون وبعض أفراد العائلة الذين أَبَت شجاعتُهم أن يُسلِّموا للخوف ويُولُّوا الأدبار.
ومع ما أظهره رمسيس من قِلَّةِ التَّبَصُّر وضعفِ النَّظَر في قيادة الجيش؛ إلَّا أنه أبدى شجاعةً نادرةً وبسالةً لا مثيلَ لها.
فبعد أن قفز إلى عربته، أمر أتباعه المُخلصين باتِّباعه، وأمر مینا بسَوق العربة للقاء الأعداء، ولم یکن مینا جبانًا، ولكنَّه لمَّا رأی عربات المِصريِّين التي تُعَدُّ على الأصابع، ثمَّ شاهدَ عربات الأعداء التي لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، شعُرَ، بالرَّغم منه، بالخوف يهُزُّ قلبه.
ومع ما اختلج في نفسه من الخوف، لم يُفكِّر لحظةً في الهروب أو العِصيان، ولكنَّه وهو يميل إلى الأمام ليقود الخيل همس في أُذُن فرعون: «يا قوَّة مصر العظيمة في يوم الحرب، أنقِذنا.» فأجابه: «الثَّبات … الثَّبات … سأفترس جموعهم كالباز.»
وفي الحال سابَقت جِياد مصر الرِّيح قاصدةً جيوش الأعداء، وكان لاندفاعها غير المُنتظَر أثرُه في نفوس الحيثيِّين، حتَّى إنَّ فرعون وأتباعه اخترقوا الصُّفوف وغاصوا في لُجَّتِها. وكان مينا مُنهمِكًا في عمله حاصِرًا عقله فيه، غيرَ مُبالٍ بما قد يُصيبه من آلاف السِّهام المُتطايرة في الجو، وكان فرعون يُقاتل بمهارةٍ مُنقطعةِ النَّظير، وكان قوسُه يُرسِلُ السِّهام باستمرار، فتُصيب مَقاتِلَ الحيثيِّين، وتَصرَعُهم من عرباتهم. وكذا فعل الأمراء الذين كانوا يتبعون فرعون، وقد تركوا خلفهم صفوفًا من القتلى والجرحى.
وهكذا استطاع فرعون أن يفتح ثَغرةً من صفوف الأعداء، ولكنَّهم كانوا جموعًا زاخرةً يزيدون عليه وعلى أتباعه آلاف المرَّات. وكانت بعض العربات المِصريَّات قد اتَّجَهَت جهة الجنوب؛ لتأتيَ بنجدةٍ من جنود الفرقتَين الباقيتَين، ولكن كان يلزم لوصولها مُضِيُّ وقتٍ غيرِ قصير.
وكان ممَّا يزيد الحالة حرجًا أنَّ ملك الحيثيِّين، على رأس جيشٍ يبلغ الثَّمانية آلافٍ كان مُعسكِرًا على شاطئ النَّهر الآخر، ولو أنه أسرع بعبور النَّهر لقضى على رمسيس ومَن معه. ولم يبقَ أمام فرعون إلَّا القتال، فقاتل بشدَّةٍ هو وجنوده، واستطاع بمهارته أن يجعل بعض عربات الحيثيِّين بينه وبين النَّهر، وأمِنَ بذلك شرَّ نِبال الجنود المُعسكِرة على الشَّاطئ الآخر. وبعد فوات زمنٍ غيرِ قصير، ظهَرَت طوالع الفِرَقِ المِصرية، وفي الحال انضمُّوا إلى إخوانهم، وأخذ الفرْق بين الجيشين يَقِلُّ نوعًا ما عمَّا قبل، وكانت جعبة المِصريِّين قد خَلَت من السِّهام، فسلُّوا السُّيوف وأطلقوا الرِّماح، وهنا حَمِيَ وَطِيسُ القتال، وأخذ الأعداء في التَّقهقُر صوبَ النَّهر، وقد وقف ملك الحيثيِّين على الشاطئ الثَّاني من النَّهر مُندهِشًا لِما رآه أمامه. وقد فات الوقت لعبوره النَّهر واشتراكه في القتال، أمَّا الآن فلم يكن في الإمکان عبور النَّهر؛ لامتلاء الشَّاطئ الآخر بعربات الحيثيِّين وجنودهم، بما لم يَدَع مكانًا لجنودٍ جديدةٍ.
وممَّا زاد في فرح المِصريِّين وقوَّى ساعِدَهم، وصولُ الفرقة الأخيرة، وأسرع بقدومها الهلاكُ إلى جنود الأعداء، وأخذوا يتساقطون في النَّهر، وكانت مذبحةً عظيمةً.
وانتهت بهروب الأعداء، وقد رصدَ لهم رُماة القَوس المصريين من يَرمونهم بسهامهم، فيَقتلون منهم من يَقتلون، ويَجرحون من يجرحون. وقُتل من الحيثيِّين شقيقا الملك ورئيسُ حُرَّاسه، وأعظمُ كُتَّابه، وحاملُ دِرعِه.
أمَّا ملك الحيثيِّين، فقد سقط في النَّهر وهو يجتاز مخاضةً فيه، وكاد يموت غَرَقًا، لولا أن رمى أحد أتباعه بنفسه في الماء وأنقذ الملك من يدِ الهلاك المُحقَّق، فترك میدان القتال بعد أن ضاعت من يده فرصةٌ عظيمةٌ للقضاء على عدوِّه اللدود، وآبَ بالفشل والخِذلان.
وبعد انتهاء المعركة دعا فرعون قُوَّاد الجُند أمامه، وقد وقفوا مُتخاذلين تعلو وجوهَهُم حُمرة الخجل؛ لِما بَدَرَ منهم من دلالات الجُبن في بادئ المعركة، أمَّا فرعون فقد خلع عن رقبته الملكية طوقًا ذهبيًّا ووضعه حول رقبة تابعه الأمين مينا، ثُمَّ وبَّخَ قُوَّاده عن تركهم له ليُواجِه الأعداء بمفرده وفرارهم جُبنًا وخوفًا، ثمَّ حدَّثَهم عن مينا، وكيف أنه لم يترُكه ساعةَ الخَطَر، وختم الحديث بقوله: «ولا أنسى جوادَي عربتي، وسوف يتناولان طعامهما يوميًّا — أمامي— في السَّراي الملكية.» ولمَّا كان الجيشان قد خَسِرا خَسارةً عظيمةً وأخذ التَّعَبُ منهما كلَّ مأخذ، فقد تعذَّرَ عليهما مواصلة القتال، وقَبِلا عن رضاءِ خاطرٍ الهُدنة، وانسحب الحيثيُّون إلى الشَّمال، ورجَعَ المِصريُّون إلى وطنهم، ولم يربحوا شيئًا رَغمًا عمَّا بذلوه من جهدٍ وأبدَوه من بسالةٍ، ولكنَّ فرحهم بالنَّجاة من الهلاك المُحقَّق أنساهم ما خسِروه. وكم كان مينا فخورًا وهو يسوق عربة الملك داخل أسوار زارو.
وسار الجيش بين جموع الشَّعب التي أتَت لاستقباله، ولِنثْر الورود على جنوده، وكانوا من جميع الطَّبَقات؛ فيهم الكاهن والتَّاجر والنَّبيل.
ولم يكن يُوجَد بعد رمسيس الذي أنقذ جيشه ووطنه وشرفه مَن يستطيع أن يفتخِرَ بعملِه مثل مينا، الذي وقف بجانب سيِّدِه في أشدِّ حالات الخطر.