بعض الأساطير
كان الأطفال ذوو الوجوه السُّمر الذين يعيشون في مصر منذ ثلاثة آلاف سنةٍ مُغرَمين مثل أطفالنا بالقصص التي تبدأ ﺑ «يُحكَى أن»، وسأقُصُّ عليك الآن بعض القصص التي كانت تُحكَى لتاهوتي و«سن سنب» إذا خيَّمَ الليل، وإذا انتهيا من عملهما المدرسيِّ ولهوِهما.
وهي أقدم قصص خرافيةٍ ولو أنها منسيةٌ الآن، وقد اختُرعت قبل أن يُفَكِّرَ أحدٌ في كتابة قِصَّة «جاك» و«بینستوك» بقرونٍ عديدةٍ.
في ذات يومٍ دعا الملك خوفو(وهو الذي بنى هرم الجيزة الأكبر) أولادَه وعقلاء مملكته، ثمَّ قال لهم: «هل فيكم من يستطيع أن يرويَ لي قصص قدماء السَّاحرين؟» وهنا وقف الأمير بوفرا — ابن الملك — وقال: «مولاي، سأروي لكم قصَّةً غريبةً حدثت في عهد الملك سنیفرو أبيكم العظيم.»
فقد تضايق الملك يومًا، وشعر بالسَّأَم والضَّجَر، ولم يجد ما يُفَرِّجُ به عن نفسه المَلَل، وأخيرًا قال لضبَّاطِه: «أحضِروا إليَّ السَّاحر زازامانخ.» فلما مَثَلَ بين يدَيه قال له الملك: «أيُّها الساحر زازامانخ، لقد بحثتُ في جميع قصري، فلم أجد ما يُذهب عنِّي المَلَل.»
فقال السَّاحر: «تفضَّل يا مولاي بالرُّكوب في القارب، ودعه يسيرُ بنا في بُحيرة القصر، ومُر بإحضار عشرين فتاةً ليُحَرِّكنَ المجاديف، وركِّب في القارب مجاديف من الأبنوس المُرَصَّعِ بالذَّهب والفضَّة، ولا بُدَّ أن تُفَرِّجَ عنك يا مولاي بالنَّظَر إلى طيور الماء، وشواطئ البحيرة الجميلة، والحشائش الخضراء، وتعيد لنفسك سرورَها.»
وركِب الجميع في السفينة الجميلة، التي سارت بهم في بُحيرة القصر، وكان على كلِّ جانبٍ من جانبَي السَّفينة تجلس تسعُ فتياتٍ يُجدِّفن، أما الاثنتان الباقيتان، وكانتا أجمل الفتيات، فقد جلستا في مؤخر السَّفينة بجانب الدَّفَّة، وأخذتا تُنشِدان لحنًا خاصًّا للتَّجديف، وابتدأ السُّرور يُعاوِدُ الملك كلَّما توغَّل القاربُ داخل البُحيرة، وكانت المجاديف ترتفعُ في الهواء وتغوص في الماء على نَغَم الفتاتَين الجميلتَين.
ولكن حدث أن مِجداف إحدى الفتاتَين الجميلتَين لمس خطأً رأس الفتاة الثَّانية، فسقط تاجٌ فيروزيٌّ صغيرٌ كان على رأسها، فتوقَّفَت عن التَّجديف وعن الغِناء، وتوقَّفَت الفتيات اللائي في صفِّها كذلك. فسأل الملك: «لِمَ توقفتُنَّ عن العمل؟»
فأجابت الفتاة: «ذلك لأن تاجي الفیروزي سقط في الماء.» فقال الملك: «استمرِّي في الغناء، وسأُعطيك واحدًا غيرَه.»
– «أريد تاجي القديم، ولا أرغبُ في امتلاك سواه.»
فدعا الملكُ السَّاحر، وقال له: «لقد سُرَّ قلبي لاتِّباعي مشورتك، ولكن سقط تاج هذه الفتاة في الماء، ودعاها ذلك للسُّكوت، ممَّا جعل جميع فتيات صفِّها يتوقَّفن عن التَّجديف، وهي ترغب في استعادة التَّاج المفقود.»
وهنا وقف السَّاحر في القارب، وفاهَ بكلماتٍ غريبةٍ غامضةٍ.
وعلى أثر ذلك ارتفعت المياه الموجودة في نصف البحيرة، وتجمَّعَت على سطح مياه النصف الآخر، حتَّى ارتفَعَت بذلك المياه إلى عُلُوٍّ عظيم، ووقفَت سفينة الملك على سطح المياه العالية، وظهر قعر البحيرة في النصف الآخر منها وما فيه من الأصداف المُتلألِئة تحت أشِعَّة الشَّمس، ورُؤِيَ التَّاجُ الصَّغير على صدَفةٍ مكسورة، فقفز السَّاحر وأتى به، ورجَع إلى السَّفينة، ثمَّ فاه مرَّةً أخرى بكلماتٍ غريبة، فرجَعَت البحيرة إلى ما كانت عليه أوَّلًا.
أمضى الملك يومًا سعيدًا، ووهب للسَّاحر مالًا وهدايا.
ولمَّا أتمَّ ابنُ الملك قصَّته سُرَّ بها الملك، ولَهَجَ لسانُه بمدح القدماء والثَّناء على أعمالهم.
ثم قام ابنٌ آخر له هو الأمير «هورداديف» وقال: «أيُّها الملك، هذه قصَّةٌ من قصص الأيَّام الغابرة، ولا يستطيع أحدٌ أن يجزمَ بصحَّة خبرها أو كذبه، أمَّا أنا فسوف أُقَدِّمُ بين يدَيك ساحرًا يعيش في زماننا هذا.»
– «من هذا الساحر یا هورداديف؟»
– «اسمه دیدي، وعمره مائةٌ وعشرة أعوام، وطعامه اليوميُّ خمسمائة رغيف، وشرابه مائة إبريقٍ من الجِعة، وهو — بفنونه السِّحرية — يستطيع أن يُثَبِّتَ رأسًا فُصل عن جسمه، وله القدرة على أن يُخضِعَ أسد الصَّحراء له ويجعلَه يتبعه ذليلًا مُستكينًا، ويعرف سِرَّ منزل الرَّبِّ الذي طالما تشوَّقت لمعرفته.»
وفي الحال أمر الملك ابنه بإحضار السَّاحر، وصدع الأمير للأمر، وأتى به في القارب الملكي.
وخرج الملك إلى فناء القصر، ومَثَلَ دیدي بين يدَيه، فسأله الملك: «لِمَ لَم أرَك من قبل يا دیدي؟» وأجابه السَّاحر: «وهبك الرَّبُّ الحياة والصِّحة والقوَّة أيُّها الملك؛ إنَّ المرء لا يَحظَى بالمُثُول بين يدَيك إلَّا إذا دعوتَه!»
– «هل صحيحٌ أنك تستطيع أن تُثبِّت رأسًا فُصل عن جسده؟»
– «هذا صحيحٌ يا مولاي.»
فقال الملك: «أحضِرُوا سجينًا، واقطعوا رأسَه، وسنری کیف تُثبته في جسمه.»
– «أطالَ الرَّبُّ عمرك أيُّها الملك؛ الأوفَق أن نقطع رأس حيوانٍ أو طيرٍ على أن نفصل رأس إنسانٍ.»
وأتوا بإوِزَّةٍ وقطعوا رأسها، ثمَّ وضعوا الرَّأس في رکنٍ والجسم في ركنٍ آخر، ووقف السَّاحر يُتمتِمُ بكلماتٍ غامضة، فحدث ما يُعَدُّ معجزةً؛ إذ تحرَّك الرَّأس نحو الجسم، وسار الجسم ناحية الرَّأس، ثمَّ التصقا ببعضهما كما كانا، وقامت الإوِزَّةُ على قدمَيها أمام عرش الملك، ثمَّ صاحت.
ثمَّ أعاد دیدي التجرِبة على رأس ثَورٍ ضخم، ولمَّا شاهد الملك ذلك قال للسَّاحر: «وهل حقيقيٌّ تعرف سِرَّ منزل الرَّبِّ؟»
– «نعم؛ هذا صحيح، ولكنِّي لستُ أنا الذي أستطيع أن أُعلِمَكَ به.»
– «إذن مَن الذي يستطيع؟»
– «هو الولد الأكبر للسَّيِّدة «رد دیدیت»، زوجة كاهن رع إله الشمس وقد وعده رع بأن أولادَه الثَّلاثة سوف يحكمون مملكتكم.»
ولمَّا سمع الملك هذه الجملة اضطرب قلبُه، وظهرت على وجهه علامات القلق، فقال دیدي: «لا تضطرِب أيُّها الملك؛ فسوف يحكم بعدَك ابنُك، وسوف يحكم بعده ابنُه، ولكن بعد هذا الحفيد سيئول العرش إلى أحد الأبناء الثَّلاثة».
وأمر الملك بأن يُقيم السَّاحر في القصر، وأن يُقَدَّمَ له يوميَّا مائة رغيف، ومائة إبريقٍ من الجِعة، وثَور، ومائة بصلة.
ولمَّا وُلِد الأولاد الثَّلاثة أرسل إليهم رع أربع ربَّاتٍ لیکُنَّ مُربِّياتِهم.
وقد جِئنَ في لباس الرَّاقصات المُرتحِلات، وجاء معهنَّ ربٌّ في زيِّ حمَّال، فلمَّا ربَّين الأطفال الثَّلاثة قال لهنَّ زوجُ رد ديديت: «أيتها السيِّدات، أيَّ أجرٍ تطلُبنَ؟»
ثمَّ أعطاهنَّ أكياسًا مملوءَةً شعيرًا، وذهبنَ بعد أن أخذنَ أجرهُنَّ.
ولمَّا بعدنَ مسافةً قصيرةً قالت رئیستُهُنَّ وهي إیزیس: «لِمَ لا نُفاجِئُ الكاهنَ بأعجوبةٍ؟» وعليه فقد صنعنَ تِيجانًا منها تاج مصرَ الأحمر، وتاجها الأبيض وأخفينَها في كيس الشَّعير، ووضعنَه في مخزن «رد دیدیت»، وذهبنَ إلى حال سبيلهنَّ.
وبعد مُضِيِّ أسبوعٍ — وكانت رد ديديت تصنع بيرةً لأهل المنزل — أرسلَت خادمةً لها إلى المخزن؛ لتُحضِر كيسًا مملوءًا شعيرًا. وذهبت الفتاة إلى المخزن، ولكنَّها لم تمكُث فيه دقيقةً حتَّى سمعت نغماتٍ شجيةً وصوتَ غناءٍ ورقصٍ ممَّا لا يُسمَعُ مثیلُه إلَّا في قصر الملك، فارتعبت الفتاة، ورجَعَت لسيِّدتِها وأخبرتها بالأمر، ونزلت السَّيِّدة فسمِعَت الموسيقى الملكية، ولمَّا حضر زوجُها أخبرته عن قصَّة الغِناء، وعَلِمَ مِن ذلك أن أولادَه سيحكمون مصر، وقد باتَتِ الأسرة هذه الليلة على أسعد ما يكون. وبعد مُدَّةٍ قصيرةٍ من هذه الحادثة، بدا من تصرُّف الخادمة ما حَمَلَ سيِّدتَها على طردِها بعد ضربٍ مُوجعٍ. وقالت الخادمة لخدَم المنزل وهي تُوَدِّعُهُم:
«هل يَصِحُّ أن تعاملَني هذه المعاملة؟ لقد وَلَدَت ملوكًا، وسأنقل خبرَهم إلى الملك خوفو.» وانصرفَت إلى عمِّها، وأخبرَته بما عقدت العزم على عمله، ولكنَّه غضب من ذلك، ولم يرضَ أن تخونَ الأطفالَ الأبرياء، وضربها بسَوطٍ ضربًا أليمًا.
وتركت منزل عمِّها وهامَت على وجهِها، وبينما هي تسيرُ على شاطئ النِّيل، ظهر تمساحٌ فجأةً وجذبَها إليه، واختفى بها في الماء.
وهنا — للأسف — تنتهي القصَّة، ولم نعرِف هل حاول خوفو قتل الأطفال أم لا؛ فإنَّ أوراقَ البَردي مفقودة، لا يعلم أحدٌ عنها شيئًا.
ولكنَّا نعلم أن الملوك الثَّلاثة الذين خلَفُوا أُسرة خوفو في حكم مصر، كانوا يحملون أسماءً كأسماء أولاد كاهن رع.
هذه هي أقدم الأساطير في العالم، وقد لا تكون جميلةً جذَّابةً بحيث تستثيرُ إعجابَك، ولكن يلزم أن تعلمَ أن لكلِّ شيءٍ بداية، وأن الذين كتبوا هذه القصص لم يكونوا مُدَرَّبين في فنِّ القصص كما نحن الآن.