بعض الأساطير
أمَّا هذه القصَّة التي سأرويها الآن، فقد كُتبت في زمنٍ أحدث بمئات السِّنين من القصص التي رويتُها في الفصل السَّابق. وأستطيع أن أقول إنَّ الأطفال المِصريِّين القدماء كانوا ينظرون إليها كما ينظر الأطفال الآن إلى قصَّة السِّندباد البحري، وإنَّهم كانوا يشعرون بلذَّةٍ في أثناء تلاوتها تُعادِل ما يشعر به أطفالنا الآن في أثناء قراءة السِّندباد البحري.
وهي تُدعى «قصَّة مَلَّاح السَّفينة المكسورة»، والمَلَّاح نفسه هو الذي يقصُّها لنبيلٍ مِصري؛ حدَّثَ المَلَّاح، قال:
أبحرَت سفينتي على قصد التَّجوال حول مُلك فرعون العظيم، وكانت سفينتُنا من أعظم السُّفُن؛ لا يقِلُّ طولُها عن ٢٢٥ قدمًا وعرضُها عن ٦٠ قدمًا، وكان عددُ ملَّاحِيها ١٥٠ رجلًا من صفوة ملَّاحي القُطر؛ شِداد القلوب كالأسود، وكنَّا جميعًا سُعداء، يُصوِّرُ لنا الأملُ رحلةً جميلةً وعَوْدًا هنيئًا. ولكن عند اقترابنا من أحد الشواطئ هبَّت عاصفةٌ عظيمةٌ أثارَت الأمواج ثَوَرانًا عظيمًا، حتَّى ارتفَعَت كالجبال العالية، فغرِقَت سفينتُنا الجميلة وغمرَتها المياه، وذهبَ كلُّ مجهودٍ بذلناه لإنقاذها سُدًى.
وكان من حُسن حظِّي أن تعلَّقتُ بقطعة خشبٍ كبيرة، حملَتْها المياه وأنا عليها ثلاثة أيَّامٍ طِوال، حتَّی رَسَت بي على شاطئ جزيرة، وكنتُ إذ ذاك وحيدًا؛ فقد غرِقَ كلُّ من كان معي على ظهر الباخِرة، فرقَدتُ تحت غصون بعض الأشجار وقد أُنهكَت قواي.
ومكثتُ على هذه الحالة مدَّةً لم أعرف قَدرها، حتَّى استرددتُ بعض نشاطي، فقُمت باحثًا عن طعام، ولم أبذل جهدًا في ذلك؛ لأن الجزيرة كانت غنيةً بالفواكه، کالتِّین والأعنابِ وكافة الحبوبِ وأنواع الطُّيور، فأكلتُ حتَّى شبِعت، وأوقدتُ نارًا، ثمَّ قدَّمتُ تضحيةً للآلهة؛ مُعبِّرًا عن الشُّكر والحمد لتفضُّلِها عليَّ بالحياة والنَّجاة بعد الموت المُحقَّق.
وجلستُ مُفكِّرًا، ثمَّ دوَّى في الفضاء صوتٌ صارخٌ کالرَّعد القاصف أزعجَ السُّكون الشَّامل، وهزَّ الأشجار، وزلزل الأرض. فنظرتُ حولي بخوفٍ مُستطلِعًا فرأيت ثعبانًا هائلًا يزحف نحوي، وكان طوله خمسين قدمًا، وطول شوكته ثلاث أقدام، وكان جسمه يتلألأ تحتَ أشِعَّة الشَّمس كالذَّهب. ولمَّا اقترب منِّي التفَّ حول نفسه، حتَّى صار كعمودٍ مرتفعٍ ذي حلقات، فارتعبت، وسقطتُ على وجهي من شدَّة الخوف والفَزَع، فابتدرني قائلًا:
«ما الذي أتى بك إلى هنا أيُّها الشَّيء الصَّغير؟ ما الذي أتى بك إلى هنا؟ تکلَّم؛ إنَّك إن لم تُخبرني سريعًا عمَّا أتى بك إلى هذه الجزيرة فسأُفنيك كما يَفنى اللهب.»
ولم يُتِمَّ حديثَه حتى أخذني في فمِه، وحمَلَني إلى وِجاره، وتركَني على الأرض، ولم يمسَّني بأيِّ سوء، ثمَّ قال ثانيًا:
ما الذي أتى بك إلى هنا أیُّها الشَّيء الصَّغير؟ ما الذي أتى بك إلى هذه الجزيرة؟
وهنالك قصَصتُ عليه تاريخ رحلتي، من وقت إبحارِنا إلى مصر، حتَّى ساعة غَرَقِ السَّفينة، وأخبرته کیف غرِق زملائي ونجوت وحدي، فقال لي:
«لا تخف أيُّها الصَّغير، وامسح مسحة الحُزن عن وجهك. إذا كنتَ أتيتَ إلى هنا، فالرَّبُّ هو الذي أرسلك إلى هذه الجزيرة المملوءة بالخيرات. اسمع الآن؛ ستُقيم هنا أربعة أشهر، وفي نهايتها سَتَقدمُ سفينةٌ من وطنك إلى هذه الجزيرة، وستعود فيها إلى وطنك آمنًا، حيث تموت في مسقط رأسك. وإن أردتَ أن تعلم شيئًا عنِّي فاعلم أنِّي أُقيم هنا مع رفقاء لي ومع أولادي، وعددنا جميعًا خمسةٌ وسبعون، وبجانب ذلك كانت تُوجد فتاةٌ صغيرةٌ أتى بها القدَر إلى هنا، وقد حُرِقَت بنارٍ من السماء. وإذا کنتَ قويًّا وصبورًا فسوف تُعانِقُ أولادي وزوجتي، وتعيش معنا سعيدًا حتى تعودَ إلى وطنك.»
وهنا انحنيتُ أمامَه باحترام، ووعدتُه بأن أقصَّ خبَرَه لفرعون، وأن أعود إليه بسُفُنٍ مُحمَّلةٍ من جميع كنوز مصر، التي لا يُوجد مثيلٌ لها في البلدان الأخرى. ولكنَّه ابتسم لكلامي، وقال:
«ليس في بلادك ما أرغب فيه، لأنِّي أمير بلاد «بنت»، وكلُّ كنوزها ملكٌ لي، وفوق ذلك فإنَّك بعد أن ترحلَ من هنا لن ترى هذه الجزيرة مرَّةً أخرى؛ لأنها ستكون حينذاك أمواجًا كأمواج البحر.»
وانتظرتُ أربعة أشهر، وقد صدَقَتْ كلمة الثُّعبان، وأتَت السَّفينة الموعودة، وقد حدَّثني الثُّعبان قائلًا: «وداعًا وداعًا، اذهب الآن إلى وطنك أيُّها الصَّغير وتمتَّع برؤية أطفالِك بعد هذا الغياب، ولا تذكُر اسمي إلَّا بالخير؛ هذا كلُّ ما أرغبُ فيه.»
وودَّعته، وركبت السَّفينة بعد أن زوَّدَني بعطايا نفيسة، مثل العاج والأخشاب وغيرهما.
وقد وصَلنا أرض مصر بعد شهرَين في الماء، وسأحظَى بالمُثُول بين يدي فرعون، وأقصُّ له قصَّتي، وأُقدِّمُ له هدايا الثُّعبان، وسوف يَشكرني الملك في حضرة عظماء مصر ا.ﻫ.
•••
أمَّا القصَّة الأخيرة، فقد كُتِبت بعد قصَّة السَّفينة السَّابقة بمدَّةٍ طويلةٍ.
في سنة ١٥٠ قبل الميلاد، حكَمَت مصر أسرةٌ مالكةٌ اشتُهرت بمَيلِها الحربي، وقد أسَّسَ أفرادُها إمبراطوريةً كانت من السُّودان جنوبًا إلى سوريا وناهارينا شمالًا، وكانت هذه الإمبراطورية أرضًا مجهولةً قبل فتحِها وامتلاكِها، فكانت هذه الأرض مثل أمريكا على عهد الملكة إليزابث.
وهذه القصَّة هي «الأمير المقضيُّ عليه بالهلاك» التي سأرويها لك، تُمثَّلُ بعضُ أدوارها في ناهارينا، والبعض الآخر في مصر، وهي — كما سترى — تمُتُّ بأسبابٍ كبيرةٍ إلى قصصنا الخرافية الحديثة.
يُحكى أنه كان بمصر ملكٌ لم يلِد وارثًا لعرشه، وقد أورثَه ذلك حُزنًا دائمًا، وکان کثيرًا ما يُصلِّي للآلهة ويَضرعُ إليها أن تهبَه طِفلًا؛ فأصغَت الآلهة إلى تضرُّعاته ووهبَته طِفلًا. ولمَّا جاءت «جدَّاته» ليكشِفنَ السِّتار عن مُستقبله، قلنَ: «سيكون موته على يدِ تمساحٍ أو ثعبانٍ أو كلب.» ولمَّا سمع الملك ذلك زال عنه السُّرور، وعاد إلى الحزن والألم، وبعد تفكيرٍ طويلٍ عزم على حِفظ الطِّفل في مكانٍ حريز حيث لا يمكن أن يصِل إليه ضررٌ أو سوء، وبنى له قصرًا بعيدًا في الصَّحراء، وأثَّثَه بأفخم الأثاث، وأرسل إليه الطِّفل تحت رعاية خدمٍ أمناء يحرُسُونه ويسهرون على راحته. وهكذا نما الطِّفل وكبُرَ في هذا القصر، بعيدًا عن العالم وما فيه.
ولكن في ذات يومٍ وكان الطِّفل واقفًا على سطح القصر رأى رجُلًا يسير في الصَّحراء يتبعُه كلب، فقال للخادم الذي معه: «ما هذا الذي يتبَعُ الرَّجُل؟»
– «إنَّه كلبٌ.»
– «أحضِر لي واحدًا مثله.»
ثمَّ إنَّ الخادم ذهب إلى الملك وأعلمَه بالخبر، فقال الملك: «ابحث له عن جروٍ (كلب صغير) وخُذه إليه حتَّى لا يحزن.»
ونفَّذَ الخادم أمر الملك، واشترى للأمير كلبًا صغيرًا.
وشبَّ الأمير وترعرع، وشعَرَ بالمَلَل والضَّجَر من وجوده وحيدًا في القصر، ولمَّا نَفد صبرُه أرسل لأبيه رسالةً جاء فيها:
«ولماذا تحبِسُني هنا دائمًا؟ إن كان الموت مُقدَّرًا لي على يدِ أحد الحيوانات الثلاثة، فدعني أنال في الدُّنيا ما أشتهي، وليقضِ الرَّبُّ ما يُرید.»
واقتنع الملك برأي الأمير، فأعطَوا للأمير سلاحًا، وذهبوا معه إلى الحدود الشَّرقية، وقالوا له: «اذهب حيث تشاء.» فسار صوب الشَّمال وكلبه يتبَعُه، حتَّى وصلَ إلى ناهارینا.
وكان لحاكم هذه البلاد بنتٌ واحدةٌ بنى لها قصرًا عجيبًا، شیَّدَه على قمَّة صخرةٍ شاهقة يزيد ارتفاعها على مائة قدم، وكان بالقصر سبع نوافذ.
وقد جمع الحاكم أبناء حكام البلد الصغار، وقال لهم:
«ستكون ابنتي زوجة من يستطيع مِنكم تسلُّق الصَّخرة والدُّخُول من إحدى النوافذ.»
وقد عسكر الأمراء حول الصَّخرة المُشيَّد عليها القصر، ثمَّ أخذوا يُحاولون تسلُّق الصَّخرة كلَّ يوم، ولكنَّ واحدًا منهم لم يستطِع الوصول إلى النَّافذة؛ لأن الصَّخرة كانت مرتفعةً وعظيمةَ الانحدار.
ففي ذات يومٍ وهم في محاولتهم مرَّ بهم الأمير المِصريُّ وكلبه الأمين، فرحَّبُوا به، وأعطوا له زادًا هو وكلبه، وسألوه:
«من أين أتيتَ أيُّها الشَّابُّ النَّبيل؟»
ولم يرغَب في أن يُخبِرَهم بأنه ابن فرعون مصر، فأجاب:
«أنا ابن ضابطٍ مِصري، وقد تزوَّج أبي أخرى، ولمَّا وَلَدَت أطفالًا كرِهَتني أشدَّ الكُره، وطردتني من منزل أبي.»
فضمُّوه إلى رفقتهم، وعاش بينهم، ثمَّ سألهم:
«لماذا تُقيمون هنا؟ ولماذا تُحاولون تسلُّقَ هذه الصَّخرة؟»
فأخبروه عن الأميرة الجميلة التي تعيش في القصر، وكيف أن أوَّل مَن يصِل إلى نافذتها يتزوَّجها.
واشترك الأمير معهم، ونجح في الوصول إلى الغرَض، ولمَّا رأته أحبَّته وقَبِلته.
وفي الحال نمى الخبرُ إلى مسامع الحاكم، ولمَّا سأل الذي أوصل له الخبر عن الأمير الذي ظَفِرَ بابنته أجاب الرجل:
«هو ليس أميرًا؛ إن هو إلا ابن ضابطٍ مِصري، طردته زوجة أبيه من المنزل.»
فثار غضب الحاكم، وقال: «هل تتزوَّج ابنتي مِصريًّا مُتشرِّدًا؟ أرجِعوه إلى مصر.»
ولمَّا رجَعَ الرَّسُول إلى الأمير، وأعلمَهُ بإرادة الحاكم القاضية بإقصائه عن مُلكه، أمسكَتِ الأميرة بيده، وقالت: «إذا أبعدتموه عنِّي، فسوف لا آكُل ولا أشرب حتَّى أموت في أقرب وقتٍ.»
فأرسل الأب رسُلًا ليقتلوا المِصري، ولكنَّ الأميرة تعرَّضَت لهم، وقالت: «إن قتلتموه ستجدونني ميتةً قبل غروب الشَّمس؛ لن أعيشَ ساعةً واحدةً بعيدةً عنه.»
وعلى ذلك وافق الحاكم على كُرهٍ وتزوَّج الأمير من الأميرة، ووهب الحاكم لهما قصرًا وعبیدًا وخيرًا جزيلًا.
وبعد مُضِيِّ زمنٍ طويلٍ قال الأمير للأميرة: «کُتب ليَ الموت إمَّا بيد تمساحٍ أو ثعبانٍ أو كلبٍ.»
– «إذن، لماذا تحفظ بجانبك هذا الكلب؟ دعنا نقتله!»
– «كلَّا؛ لن أقتل كلبي الأمين، الذي نشأ عندي منذ كان جروًا صغيرًا.»
وامتلك قلب الأميرة الخوف على حياة زوجها، فما كان يبعد عن عينها لحظةً.
وبعد أعوامٍ رجع الأمير وزوجته وكلبه إلى مصر؛ حيث أقام الجميع في سعادةٍ واطمئنانٍ.
وفي ذات مساء، استولى نومٌ عميقٌ على الأمير، وملأت الأميرة إناءً لبنًا، ووضعته بجانبه، ثمَّ جلسَت ترقبه بعينَيها السَّاهرتَين، فرأت حيةً عظيمةً تزحف نحو الأمير، فأمَرَت الخدم أن يُقدِّمُوا لها اللبن، فأقبَلَت عليه تشرَب منه حتَّى لم تستطِع حَراکًا.
وهنا قتلت الأميرة الحية بعدَّة طعناتٍ من خنجرها.
ثمَّ إنَّها أيقظت زوجها، الذي كانت دهشتُه عظيمةً عندما رأى الحية الميتة بجانبه. وقالت زوجته:
«لقد نجَّاك الرَّبُّ من الخَطَرِ الأوَّل، وسيُنجيك من الآخرَين.»
هنالك قدَّم الأمير للآلهة تضحية، وشكرها من أعماق قلبِه.
وفي يومٍ من الأيَّام ذهب الأمير للتَّمَشِّي في أملاكه يتبعه كلبه كالمعتاد، وفي أثناء سيرهما جرى الكلب في جهةٍ مُعيَّنةٍ لغرضٍ خفي عن الأمير، ولكنَّه تبِعَه في الحال حتَّى اقتربا من النِّيل، وسار الكلب ناحية الشاطئ والأمير خلفه، وهنا ظهر للأمير تمساحٌ عظيمٌ أمسك بالأمير، وقال:
«أنا مقدورك؛ أتبعك حيثما سرتَ.»
وهنا تنتهي القصَّة بلا نهاية، ولم تُوجد بعد بقیَّة لفَّات البَردي، ونحن تبعًا لذلك لا نعرف ما حدث للأمير، وأظنُّ أنه نجا من التِّمساح بمساعدة الكلب، ثم إنه مات بواسطة الكلب الأمين الذي يُحِبُّه ويُخلِصُ له.
وعلى كلِّ حال، فنهاية القصَّة كانت حتمًا بموت الأمير؛ لأن المِصريِّينَ كانوا راسِخي الإيمان بالقدر، وبأنه لا يُمكن لإنسانٍ أن يُحوِّلَ إرادته عمَّا ينوي فعله بالإنسان. ولربَّما يعثُر بعض المُستكشِفين الذين يجوبون أرض مصر بحثًا عن آثارها، بأوراق البَرديِّ الباقية، وسنعرف وقتئذٍ ما إذا كان الكلب هو الذي قتل الأمير، أو أن الآلهة نجَّته من الأخطار الثَّلاثة كما أمَلت بذلك زوجتُه.
هذا مثلٌ من القصص التي كان يستمع إليها الأطفال كلَّ مساءٍ إذا أنهكهم التَّعَب من اللَّعِب والجَري، وقد تراها بسيطةً عاريةً من كلِّ جمالٍ أو لذَّة، ولكن لا ریبَ عندي أنه لمَّا كانت تُروى قديمًا، فإنَّ عيون الأطفال السُّود لمَعَت بنور الإعجاب والدَّهشة، ولا بُدَّ أن السَّاحر الذي يَفصِلُ الرَّأس ويُثبته ثانيًا كان موضعَ إعجاب الجميع، وأن التِّمساحَ الذي يتكلَّم كان يُخيَّلُ إليهم أنه حقيقةٌ لا مراءَ فيها ولا جدال.
وعلى كلِّ حال، لقد قرأت الآن أقدم الأساطير، وهي أجداد — إن صحَّ أن نقولَ ذلك — القصص العظيمة الحاضرة، التي تنال إعجاب الأطفال، وتُدخل السُّرور لقلوبهم الصَّغيرة في كلِّ زمانٍ ومكانٍ.