استكشاف السودان
لا تُوجد روايةٌ أمتع من رواية استكشاف القارَّة المُظلمة «أفريقيا»؛ لقد استُكشِفَت جزءًا جزءًا، حتَّى انتهى الأمر بمعرفة الأسرار العظيمة التي ظلَّت مدفونةً في جوفها أعوامًا لا عدادَ لها.
ولكن هل يُمكن تصوُّر طول هذه القصَّة، التي بدأ الفصل الأوَّل منها منذ أحقابٍ لا تُعَدُّ؟
ونحن نقرأ هذا الفصل باللغة المُصوَّرة الأنيقة — التي كان يكتب بها قدماء المِصريِّين — على جُدران المقابر، في الجزء الجنوبيِّ من مصر، في مكانٍ يُدعَى «أليفانتين».
في الأزمنة القديمة، كانت حدود مصر الجنوبية تقف عند الشَّلَّال الأوَّل، حيث تنصبُّ مياه النِّيل في سيولٍ عظيمة.
ولقد اختفى ذلك الشَّلَّال الآن؛ لأن المهندسين الإنجليز بَنَوا سدًّا عظيمًا في عرض النَّهر في هذه النُّقطة، وتحوَّل الجزء الذي يَلِي هذا السَّد من جهة الجنوب إلى بُحيرةٍ كبيرة، أمَّا في تلك الأيَّام الغابرة، فكان المِصريُّون يعتقدون أن النِّيل — الذي يَدينون له بكلِّ شيءٍ — ينبُعُ عند الشَّلَّال الأوَّل.
ومع ذلك فكانوا يعرفون شيئَا عن مملكة نوبيا المتوحِّشة الكائنة خلف الشَّلَّال؛ لأنه قبل خمسة آلاف سنةٍ كان المِصريُّون يُرسِلُون — بين آنٍ وآخر — حملاتٍ استكشافيةً إلى الأرض شبه الصَّحراوية، التي نعرفها الآن باسم السُّودان.
على مقرُبةٍ من الشَّلَّال الأوَّل، كانت تُوجد جزيرة إليفانتين، ولمَّا كانت المملكة المِصرية صغيرةً تركت أمر تأديب القبائل النُّوبية التي كانت تُغِير على الحدود الجنوبية، إلى الأمراء الذين كانوا يحكمون الجزيرة المذكورة، وحمَّلَتهُم مسئولية حماية القوافل المِصرية، فكانوا في كثيرٍ من الأحايين يقودون القوافل داخل الصَّحراء.
وكانت القافلة في ذلك الوقت تختلف تمام الاختلاف عمَّا تتصوَّره الآن عند ذِكر اسمها من صفِّ الجِمال الذي يخترق الصَّحراء. نعم؛ لقد وُجد الجَمَل في مصر قبل بدء التَّاريخ، ولدَينا صورٌ تُثبت ذلك ولكنَّه — لسببٍ نجهله — اختفى منذ مئات السِّنين؛ فلم يستعمله الفراعنة الأمراء، واستبدلوا به الحمار، الذي كان يحمِل لهم العاج والذَّهب، والأبنوس الذي كان يُستجلَب من السُّودان.
وكان أمراء جزيرة أليفانتين يحملون لقب حرس الباب الجنوبي، أو قُوَّاد القوافل. ولم تكن قيادة القافلة أمرًا سهلًا، ولم يكن الرُّجوع بها وبکنوزها مع النَّجاة من غزو القبائل النُّوبية متيسِّرًا دائمًا، وكم من أميرٍ رحل على رأس قافة لا ليعود بالكنوز؛ بل ليتركَ عظامه وعظام رفقائه بين رمال الصَّحراء.
ويُخبِرُنا أحدهم كيف أنه لمَّا عَلِمَ بموت أبيه في الصَّحراء جمع أتباعه وسار جنوبًا وخلفه مائة حمار، ثمَّ أنزل بالقبائل التي قتلت والده وأبادَت قافلته أشدَّ أنواع العقاب، وأحضر معه عند عودته لوطنه جثَّةَ والده؛ ليدفنَها بما تستحقُّه من الشَّرَف والتَّقدير.
ويُمكن قراءة أخبار هذه الرِّحلات — وهي أوَّل مجهودٍ إنسانيٍّ بُذل في سبيل الاستكشاف — على جدران مقابر عظماء المُستكشفين القدماء. وقد أخبرنا أحد الأمراء المدعو هیرکوف عن أربع رحلاتٍ قام بها إلى السُّودان. ففي الرِّحلة الأولى كان مع أبيه، وقد غاب عن وطنه ما يقرُبُ من سبعة أشهر، وفي الرِّحلة الثانية سمح له أن يذهب بمفرده، وقد عاد بقافلته آمنةً بعد غياب ثمانية أشهر، وقد توغَّل في رحلته الثَّالثة أكثر من قبل، وجمع كَمِّيَّاتٍ كبيرةً من العاج والذَّهب؛ حتَّى إنه اقتضى حملها ثلاثمائة حمار، ولمَّا كانت مثل هذه القافلة مما يُغري نفوس النُّوبيِّين ويُثير جَشَعَهم؛ فقد اتَّفق هيركوف مع أحد رؤساء القبائل على إرسال حملةٍ معه لحمايته. وهكذا سارت القافلة في مأمنٍ من طمَع رجال القبائل وكيدهم، الذين لم يُفكِّروا في مهاجمتها؛ بل أظهروا استعدادهم لمدِّ يد المعونة للقائد المِصري، وتزويده بالقُطعان والرِّجال.
ولمَّا رجَعَ هيركوف إلى مصر مُحمَّلًا بالكنوز سُرَّ الملك بنجاحه، حتَّى إنه أرسل إليه رسولًا خاصًّا في قاربٍ مملوءٍ بما لذَّ وطاب؛ إظهارًا لإعجابه وتقديره.
وكانت الحملة الرَّابعة أعظم نجاحًا من سابقاتها، وكان الملك الذي تمَّت الرِّحلات الثَّلاث الأولى في عهده قد مات، وتولَّى عرشه طفلٌ يُدعَى «بيبي»، وكان في السَّادسة من سِنِي حياته، وقد حكم تسعين عامًا، وهو أطول عهد أمضاه ملكٌ على عرشه.
ففي العام الثَّاني لجلوس بيبي على العرش، خرج الرَّحَّالة على رأس قافلته للمرَّة الخامسة، وقد أحضر معه شيئًا آثَرَه الملك أكثر على الذَّهب والعاج.
أنت تعلم أنه لمَّا ذهب ستانلي في البحث عن أمين باشا اكتشف قومًا في غابات أواسط إفريقيا، كلُّهم أقزامٌ يعيشون في عزلةٍ عن العالمين، ويخشون لذلك الغرباء.
والظَّاهر أن أجداد هؤلاء الأقزام كانوا يعيشون في مكانٍ أقرب للسودان ومصر من المكان الذي عثر عليهم فيه ستانلي. وقد حدث أن أحضر أحدُ رحَّالةِ المِصريِّين قَزَمًا من هؤلاء إلى قصر فرعون؛ ليُسرَّ الملك بشكله الغريب.
وكان من حُسن حظِّ هيركوف أن فكَّرَ في إحراز قَزَمٍ يُهديه للملك الصَّغير، ليضمَّه إلى لُعَبِه الخشبية، ولمَّا سمع الملك الطِّفل عن هذا القَزَمِ سُرَّ سُرورًا عظيمًا، وقد كان مجرَّد التَّفكير فيه يُدخل لقلبه سرورًا يصغُرُ بجانبه سرورُه بالكنز العظيم الآتي إليه مع القَزَم.
وأمر بكتابة خطابٍ لهيركوف، يُظهر فيه سرورَه وإعجابَه، ويطلُب منه أن يعتنيَ بالقَزَم اعتناءً عظيمًا؛ حتَّى لا يُصيبه ضُرٌّ أو سوءٌ.
والخطاب بما فيه من جُمَلٍ غريبة، لا يختلف عن أيِّ خطابٍ يكتبُه طفلٌ ينتظر لعبةً جديدة. كتب فرعون الصَّغير:
«ترغب جلالتي في امتلاك هذا القزم أكثر من جزية بلاد بنت، وإذا أحضرتَه إلى القصر سليمًا، فسيجزيك جلالتي خيرًا ممَّا جزى الملك أسا مستشاره بوردید» (وهذا المستشار هو الذي أحضر القزم في الأيَّام القديمة).
ثمَّ أرسل الملك أُناسًا يُوافونه بالأخبار عن القزم، بعد أن أمرَهم بحراسته.
فكانوا يسهرون أمام الغرفة التي ينامُ فيها، وينظرون إلى وجهه عشر مرَّاتٍ ليتأكَّدُوا من وجوده حيًّا سليمًا. ولا شكَّ أن القزم قد كابد آلامًا كثيرةً من هذه المُراقبة، فكيف يذوق الرَّاحة مثلًا إذا كانوا يُوقِظونه عشر مرَّاتٍ ليلًا ليتأكَّدُوا أنه حيٌّ يُرزَق، وأنه سليمٌ مُعافًى؛ لربَّما كان الخطر الذي يُهدِّد حياته من شدَّة عنايتهم به أعظم ممَّا ينجُمُ لو تُرِك لنفسه! وعلى كلِّ حال، فقد وصل هیرکوف سليمًا ومعه القزم، ولا ريبَ أن القزم كان أحسن من جميع لُعَب الملك، كما كان أحبَّها إلى نفسه.
ويَعجَب الإنسان؛ كيف كانت حال القزم وهو يُشاهد المدن المِصرية العظيمة بقصورها الشَّاهقة؟ وهل لم يحنَّ يومًا إلى حرِّيَّته الكاملة في موطنه؟
وقد بلغ افتخار هیرکوف برسالة الملك أن أمر بنقشها على جدران قبره حرفًا حرفًا، ويُمكن قراءتها إلى اليوم، وهي تُخبرنا عن أوَّل حملةٍ استكشافيةٍ ذهبت إلى السُّودان، وتدلُّنا بذلك على قِدَم عهد رواية استكشاف القارَّة المُظلمة، كما تدلُّنا على أن الطِّفل طفلٌ دائمًا، ولو عاش قبل الآن بآلاف السِّنين وكان على عرش مملكةٍ عظيمة.