حلمٌ عجيب
أُصبت بالزكام في هذا الأسبوع، وفي ليلة من لياليه أرقت، فقد اعتدت أن آخذ نَفَسي من أنفي وأُطبق فمي، ولكن أنفي — وقد زكم — لا يساعدني، فلا بد من مساعدة فمي، فإذا أخذ النوم عيني عدتُ إلى عادتي، فانضمت شفتاي، وألزمتا أنفي أن يتنفس وحده وهو لا يستطيع، فأكاد أختنق، فأنتبه، وهكذا مرتين وثلاثًا، ثم يكون الأرق الشديد الذي أفضله على النوم المضني.
وأضأت المصباح، ومتى أضأته فلا بد من كتاب، وفتحت المكتبة وتلمست كتابًا سهلًا، فوقعت يدي على كتاب «علاء الدين والقنديل المسحور». وقصة مصباح علاء الدين إحدى قصص «ألف ليلة وليلة»، ولكنها لم ترد في المجموعة التي بأيدينا، إنما عثر عليها مستشرقٌ وطبعها وحدها في باريس.
كنت نسيتها، فأعدت قراءتها من جديد، وأنساني لطفها وظرفها الزكام والأرق، واختلست نفسي ثلاث ساعات أتممت فيها قراءاتها.
وأعجبني هذا المصباح العجيب الذي كان يحكُّه علاء الدين، فيظهر له خادم من الجن يقول له: أنا عبدك وعبد من بيده المصباح، فماذا تأمر؟ فإذا أمر أمرًا أحضره في لمحة البصر؛ يأمره مرة أن يحضر له مائدة أكل لأنه جائع، ففي طرفة عين تأتي المائدة من ألذ الطعام في صحاف من الفضة النقية، ومرة يأمره أن يُحضر جواهر كريمة لا مثيل لها في العالم؛ ليهديها إلى السلطان يتقرب بها إلى ابنته بدر البدور، فما هو إلا أن يأمر فتحضر. ومرة يأمره أن يحضر إليه بنت السلطان وخطيبها؛ لأن السلطان أبى أن يزوجها له، فإذ به يحضرهما إليه، ثم يأمره أن يعيدهما في الصباح فيعيدهما، وهكذا. يبني له القصور متى شاء، وكيف شاء، ويقرِّب له البعيد، ويبعد القريب، حتى يحقق كل أمانيه، ويتزوج بدر البدور، ويعيش في سعادة وهناء، كل ما في الدنيا تحت أمره بفضل هذا المصباح.
وأخيرًا قبل الفجر أخذ مني التعب مبلغه من زكام وأرق وقراءة، فحلمت أنني في يوم دافئ والشمس ساطعة، فاستحثني هذا كله على السير في صحراء مصر الجديدة، فتوغلت فيها، وبينا أنا أسير رأيت على جانب الطريق شيئًا تنعكس عليه الشمس فيلمع، فاتجهت وجهته، فإذا به مصباح، فقلت في نفسي: ومن يدري؟! لعله مصباح علاء الدين، ساقته إليَّ المقادير.
رأيته مصباحًا صغيرًا من جنس المصابيح التي يلعب بها الأولاد في رمضان، تكسَّر زجاج ناحيةٍ من نواحيه الأربع وصدئ صفيحه، ولكن الشمس تسطع على ما بقي فيه من زجاج، وهذا ما كان يلمع عندما رأيته.
وخفت أن أحكه فيظهر العفريت من قبل أن أستعدَّ له، فأرجأت ذلك إلى قراري في بيتي، وعجلتُ العودة، ونفسي مملوءة بالأماني الطيبة، أسائل نفسي: ماذا تطلب لو كان هو حقيقةً مصباح علاء الدين؟ فكرت طويلًا، ثم فضلت أن أترك ذلك للقدر ولوحي الساعة.
ثم سرعان ما وصلت إلى بيتي ودخلت حجرتي وأغلقتها عليَّ من الداخل، وأخذت المصباح فحككته، فما هي إلا الحجرة تنشق ويخرج منها شيطان مريد، فارتعدت فرائصي وكاد يُغمى عليَّ من الخوف، ثم تمالكت نفسي، وعاد إليَّ بعض صوابي، وإذا به يسأل بصوت جازم: ماذا تطلب؟
غابت عن نفسي كل أمانيها الطيبة، ورأيتني أقول في سخافة: أريد أن أعرف الناس على حقيقتهم، والتاريخ على حقيقته، والدنيا على حقيقتها.
رأيته يبتسم من قولي، فسُرِّي عني، وقال: إن هذا أول مطلب من نوعه سمعته منذ خُلقت في عهد سليمان — صلوات الله عليه —، وفي كل تاريخي إنما استحضرت لآتي بمال كثير، أو جوهر كريم، أو امرأة جميلة أو عرش عظيم، أو التنكيل بعدو: من إغراق في البحر، أو رمي من شاهق جبل، وذلك مما سُهل عليَّ، ومرنتُ عليه؛ فأما مطلبك فيحتاج إلى إعمال فكر في الوسائل، واتخاذ العدة للوصول إلى الغرض.
ثم غاب عني ساعةً أطول مما حكته قصة «ألف ليلة» في عودته في مثل لمح البصر، وعاد ومعه منظارٌ عجيب فيه مسمارٌ علمني تحريكه ليكون من المنظار ثلاثة أوضاع: وضعٌ إذا أردت أن أعرف الناس، ووضع إذا أردت أن أعرف التاريخ، ووضع إذا أردت أن أعرف الدنيا، ثم اختفى.
وضعته على عيني، وخرجت لأعرف الناس، فرأيت عجبًا، رأيت على صدر كل شخص بطاقةً تُظهر حقيقته وتبين قيمته. راعني أني رأيت أغلب من لاقيت درجاتٍ تبين وزنه، أكثرها تحت الصفر بعشر ومائة ومائتين، وألف وألفين، وقلَّ منهم جدًّا من هو فوق الصفر، ورأيت وجيهًا كبيرًا خيرٌ منه كنَّاس، وعظيمًا خطيرًا يفوقه بمراحل ساعي بريد، ومَن أعرف أنه وطني كبير كُتب في بطاقته أنه خائن، وخائن كبير كُتب في بطاقته أنه وطني كبير، وعالم عظيم لُقب بمغفل، وأميٌّ حقير لُقب بحكيم، ومجنون بعاقل، وعاقل بمجنون، وغني له الثروة العريضة والمال الوفير والأرض والعمارات والأوراق المالية بالألوف والمئات كُتب في صحيفته أنه فقير، وفقير لا يملك إلا قوت يومه كُتب عنه أنه غني كبير، وشريفة عالية المقام نُبزت بالفجور، ومتزينة متبرجة وُصفت بالعفاف.
وعلى الجملة فقد رأيت الأوضاع انقلبت، والقيم انعكست؛ فالصديق عدو والعدو صديق، والأول آخر والآخر أول، ومن كانت يده تُقبَّل تستحق القطع، ومن كان يُنبذ ويمتهن يستحق التكريم والتقديم.
ودخلت حفلًا رُتبت صفوفه ومقاعده حسب المقام والطبقات، والوظائف الحكومية والدرجات المالية، والمنزلة في الهيئة الاجتماعية، فتصفحت صحائفهم المثبتة في صدروهم، فرأيت فيمن جلس في الصدر من يستحق أعلى المسرح، ومن جلس في أعلى المسرح من يستحق الصدر؛ وعجبت إذ رأيت قادمًا كُتب في صحيفته ألف تحت الصفر، قد استقبله المستقبلون من خارج الباب واحتفوا به أشد احتفاء، وأجلسوه في أعظم مكان، ومَن كُتب في صحيفته أنه ألف فوق الصفر لم يؤبه له، وحاول أن يدخل فلم يستطع من الزحام فعاد من حيث أتى، وذكرت الحديث: «رُبَّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبرَّه»، فقلت: لا بد أن يكون صاحب الحديث قد قاله وهو لابس هذا المنظار.
وهاجت عواطفي فرأيتني أصفع وجيهًا، وأعانق فلاحًا، وأُعرِض عن باشا، وأقبل على مسكين، وأحيي عاملًا، ولا أرد تحية كبير، وأتصدق على غني، وأتحرَّج من الصدقة على فقير، وأهزأ بكلام عالم، وأصغي إلى كلام جاهل. ومن أغرب ما رأيت وأنا أسير في الشارع سيارة فخمة يركبها سائق قد كُسي أحسن ثياب، وصاحب السيارة في داخلها عريان، ومررت على بنك فشممت منه رائحة كريهة، وعلى مصنع فشممت رائحة ذكية، ورأيت سيدة رزينة محتشمة في ملبسها، جادة في مشيتها، فقرأت صحيفتها. فكدت أرجمها، ورأيت خادمتها التي تسير خلفها لها قيمة كبيرة، فقدمت لها وردة جميلة اختطفتُها من صدر شاب لا يستحقها. وعلى الجملة رأيتني آتي بأفعالٍ حسبما أقرأ من القيم، أقل فعل منها يقتضيني أن أكون في مستشفى المجاذيب.
فأسرعت في العودة إلى بيتي.
ودخلت مكتبي، وغيرت وضع المنظار لأرى التاريخ، وعمدت إلى كتابَي المسعودي وابن الأثير أفتحهما، وأقلب صحفهما فأدهشني ما رأيت؛ رأيت أن كثيرًا من الصفحات قد شُطب وكُتب عليه بالخط الأحمر «كذب»، وأحيانًا أرى صفحات قد مُحي سوادها، وكُتب في بياضها أنها لا تستحق الذكر، وأحيانًا أرى قائدًا كبيرًا أو ملِكًا عظيمًا قد أُعْلِم عليه وكُتب مكانه تاريخ جندي مجهول أو رجل مغمور، وكُتب في آخره أنه أولى بالذكر. ورأيت في أول تاريخ كلِّ قرن صفحاتٍ بيضاء كُتب في أولها بالأحمر عنوان كبير: «الشعب في هذا العصر»، ثم لم يُكتب شيء — وأحيانًا تفصيلاتٍ كثيرة عُلِّق عليها بأن مِن غفلة المؤلف أنه ذكر المسببات وأهمل الأسباب، وكان في ذكرها الكفاية.
ووقع في يدي — خطأً — كتاب في «الطبيعة»، فرأيت في آخره تعليقًا واحدًا، وهو أن «هذا علمٌ صحيح بالنسبة لزمنه وستكشف الأيام خطأه».
وأسرعت فاشتقت إلى الوضع الثالث من المنظار، وهو الوضع الذي يريني الدنيا على حقيقتها، واستحسنت أن أرى هذا المنظر فوق سطح بيتي، فصعدت والقمر ساطع، والجو ساكن، والدنيا نائمة، فحركت المسمار، فإذا السقف يرتجُّ من تحتي، ودخان كثيف يملأ الأفق، والجو ينذر بحادث فظيع أنا مقدم عليه، فلم أتمالك نفسي وارتجف قلبي، ولم أشجع على مواجهة ما سيكون، فقلَبتُ المنظار، ونزلت من السطح سريعًا، وأحضرت المصباح وحككته، فظهر العفريت. فقال: لبيك!
فقلت: خذ هذا المنظار واكسره، فخيرٌ لي أن أعيش مغفلًا جاهلًا في وسط مغفلين جاهلين، وفي كتبٍ مغفلة جاهلة، من أن أعيش عاقلًا في وسط كل هذه الغفلة والجهالة.
تبسم العفريت، وقال: أتذكر بسمتي يوم طلبتَ طلبتك؟
قلت: نعم.
قال: هذا ما كنت أتوقع، وهذا سرُّ ابتسامتي، لخَيرٌ لك أن تطلب مني ما كان يطلبه الناس من أن تتفلسف في الطلب، وتتسامى في الغرض.
أأحضر لك كنزًا من الذهب؟
قلت: لا.
قال: فأحجارًا كريمة؟
قلت: لا.
قال: فزوجة شابة جميلة؟
قلت: اخفض صوتك، لا.
قال: فجاهًا عريضًا؟
فغضبتُ من كثرة العرض وكثرة الرفض.
وصرخت فيه: لا لا لا بأعلى صوتي.
فانتبهتُ من النوم وأنا أقول: لا.
وحزنت على الرفض، فأغمضت عيني وقلت: «طيِّب هات»، ولكن الأمر كان قد فات.
فقمت آسفًا، وأنفي يعطس، ورئتي تسعل، وجسمي مهدَّم من سوء ما لاقيت من الأرق، والزكام، والأحلام؛ وقد نذرت إن عثرتُ على مصباح علاء الدين مرة أخرى لأطلبنَّ ما يطلب الناس.
وأدرت التليفون لأطلب صديقًا لي متخصصًا في تفسير الأحلام على مذهب «فرويد» فلم أجده، فقلت: «بركة يا جامع».