منطق العقل ومنطق الدنيا
من الأقاصيص الشعبية المصرية أن رجلًا تزوج اثنتين؛ فأما «أم السعد» فشابةٌ لعوب على حظ قليل من الجمال وعلى حظ كبير من المرح والفتنة وخلب العقول والدهاء والمكر. وأما «أم حسن» فشابةٌ على حظ كبير من الجمال وقليل من الحيلة، طيبة القلب، عفيفة النفس، طاهرة الذيل.
أراد زوجهما السفر فاتخذ كل احتياط لصيانتهما، على طريقة العهد القديم، فسمَّر الشبابيك حتى لا تُفتح غيابه، وتفنن ما شاء في القيود والأغلال، ووضع الأرصاد على البيت حتى لا يقربه من يخونه، ثم سافر مطمئنًّا.
فأما «أم السعد» ففكت القيود، وسُخرت بالأغلال، واحتالت على الأرصاد وخرجت وفجرت. وأما «أم حسن» فحفظت عهد زوجها، وصانت سمعته، وحافظت على شرفها وشرفه؛ فلم تخرج من بيتها، ولم تحتلْ في فك أغلالها، وكانت أمينةً في كل شؤونها.
فلما كانت ليلة حضور الزوج تزينت «أم السعد» وتبهرجت، وفعلت كل صنوف الإغراء والفتنة، وأما «أم حسن» فاعتمدت على استقامتها وطهارتها، فلم تبالغ في زينة، ولم تُفْرط في تجمل.
وحضر الزوج، فهللت «أم السعد» لحضوره، وتصنعت كل ضروب الفرح للقائه، وفعلت الأفاعيل لإغرائه، وقابلته «أم حسن» في هدوء واتزان، وحشمة وثبات.
ثم أخذتا في الحديث، فهرجت «أم السعد» وأخذت تصف كيف حافظت على عهده ووفت بأمانته، وكيف كانت لا تنام شوقًا إليه، وحنينًا للقائه — ومن حين إلى آخر تتكلم «أم حسن» كلمة أو كلمتين تعليقًا على حديثٍ أو ردًّا على سؤال.
وأخيرًا نظر الزوج إلى أم السعد طويلًا، ثم أدار نظره إلى أم حسن طويلًا، ثم أعلن أن لأم السعد كل ما أتى به من هدايا، ولأم حسن الطلاق.
هكذا منطق العقل ومنطق الدنيا، فمنطق العقل يقضي بالمكافأة للطاهرة العفيفة الجميلة، ومنطق الدنيا يقضي بها للمهرجة اللعوب غير الجميلة.
منطق العقل يقضي بأن يقوَّم بمواهبه وكفاياته، ككل شيء في العالم، فنحن نقوَّم الفرس بسرعته لا بسرجه، وكل شيء بالغرض منه لا بشكله، وعلى هذا فالإنسان يجب أن يقوَّم بكفاياته فيما أريد منه، فإن أردته صانعًا فقوِّمه بصناعته، أو عالمًا فقوِّمه بعلمه، أو لمنصب من المناصب فاختر من يحقق الغرض من المنصب. هذا في منطق العقل، وأما في منطق الدنيا فإنه يُقدَّر بمنظره قبل مخبره، وبقرابته قبل كفايته، وبعلاقته قبل حقيقته. منطق العقل مبنيٌّ على التجريد من الاعتبارات، ومنطق الدنيا مبنيٌّ على تقدير الملابسات. منطق العقل أساسه تقدير الشيء بما فيه من نفع وضرٍّ، فإن رجح نفعه عُمل، وإلا تُرك، ومنطق الدنيا أساسُه رضا فلان وغضب فلان، ورجاء فلان وانتفاع فلان، وإغاظة فلان، وهكذا من اعتباراتٍ لا حدَّ لها.
منطق العقل مقدِّمة صغرى ومقدِّمة كبرى، إن صحَّتا فالنتيجة صادقة حتمًا، ومنطق الدنيا قد تصدُق فيه المقدمات وتكذب النتيجة، وقد تكذب فيه المقدمات وتصدق النتيجة.
منطق العقل كباحثٍ في معمل يُجرب ويرصد التجارب، فإذا أسفرت التجربة عن لون أحمر قال: إنه أحمر، أو أصفر قال: إنه أصفر، ولا شيء غير ذلك. وأما منطق الدنيا فكالممثل على المسرح يومًا ملكًا ويومًا صعلوكًا، ويومًا غنيًّا ويومًا فقيرًا، على حسب الظروف.
المحسوبية منطق الدنيا، والعدل منطق العقل، وتقدير الأشكال منطق الدنيا، وتقدير القيمة الذاتية منطق العقل.
•••
بالأمس حضرتُ مجلسًا دار الحديث فيه حول رسم المصحف، فقال قوم: إن من الواجب أن نرسم المصحف حسب قواعد الإملاء المعروفة، حتى يستطيع الناشئ أن يقرأه، والرجل المثقف العادي أن يقرأه كما يقرأ كل كتاب. أما الرسم الحالي فلا يمكِّن القارئ من أن يقرأ إلا إذا كان حافظًا أو متخصصًا، فكيف يستطيع الناشئ أن يقرأ الصلاة إذا رسمت هكذا «الصلوة!»، ولخيرٌ أن نُيَسِّر قراءة القرآن على الناس عامة من أن نحصر قراءته في دائرة قليلة. أما رسم المصحف الحالي فيكون للخاصة، ومن يريدون أن يدرسوا تاريخ الإملاء.
وإننا نفسد تعليم الناشئ إذا نحن علَّمناه الإملاء على طريقتنا ثم وضعنا في يده المصحف فرأى طريقة لم يألفها. وقال قوم: لا بد من المحافظة على رسم عثمان حفظًا لآثار السلف الصالح وعملًا بالمأثور، وربطًا بين قديمنا وحديثنا. فقمت وفي نفسي التفكير بين منطق العقل ومنطق الدنيا.
وشاء القدر أن أحضر مجلسًا آخر حميت فيه المناظرة حول معلمي اللغة العربية. فقال قائلون: أمن الحق أن يتوزع تعليم اللغة العربية — دون سائر المواد — ثلاثة معاهد: كلية اللغة العربية الأزهر، ودار العلوم في وزارة المعارف، وقسم اللغة العربية في كلية الآداب، وكلٌّ يسلك منهجًا يخالف الآخر حتى إذا أتموا دراساتهم كانت بينهم حرب شعواء على الوظائف! أليس من الخير ألَّا يكون في البلد إلا معهد واحد يُختار له خير المناهج وخير الأساليب كما الشأن في كل المواد؟ وقالوا أيضًا: إننا نفهم أن يكون في البلد مائة معهد للثقافة، أما للصناعة، ولصناعة التعليم، فلا بد ألَّا يزيد إنتاج المصنع عن حاجة البلد. وقال آخرون: إنها التقاليد، وإنها السلطات، وإنها العصبيات.
فخرجت من المجلس مفكرًا في منطق العقل ومنطق الدنيا.
وركبت «المترو» وجلست بين جماعةٍ ينقدون بألسنةٍ حداد حالة الوظائف والموظفين، وكلٌّ يشكو ويضرب الأمثلة في وزارته عمَّا حدث من ترقيات؛ هذا للقرابة، وهذا للمصاهرة، وهذا للملق، وهذا للهتاف، وهذا لتقبيل اليد، وهذا للمصالح الشخصية.
فقلت: إن هذا يومٌ غريب تتتابع كل حوادثه للتمثيل لمنطق العقل ومنطق الدنيا.
ورجعت بذاكرتي إلى أقاصيص جحا، وما في كتب الأدب من أقوال عقلاء المجانين، فوجدت كثيرًا منها يعجب الناس لأنها تُصور الفرق بين منطق العقل ومنطق الدنيا.
والناس يضجون بالشكوى لأنهم لم يفهموا الفرق بين منطق العقل ومنطق الدنيا، وأرادوا أن يُخضعوا الدنيا لمنطق العقل ففشلوا.
والشعراء والأدباء رأوا أنهم لكفايتهم أحقُّ بخيرات الدنيا مِن كل مَن عداهم مِن الحمقى والمغفلين، وهذا منطق العقل. ثم رأوا أن الدنيا في يد أقل الناس كفاية، وأنهم محرومون حتى من ضرورات الحياة، على حين أن المغفلين يغرقون في النعيم، وهذا منطق الدنيا. ولطول ألسنتهم أقاموا حربًا شعواء على الناس، وقالوا آلاف الأبيات في شكوى الزمان، وأنه مغفل يحابي المغفلين، ويضطهد العقلاء والأدباء، وأنه لا عقل له ولا منطق له، وجردوا منه شخصًا وجَّهوا إليه أفظع السب وأقذع الهجاء، وما دروا أن للدنيا منطقًا تخضع له غير منطقهم، وأسلوبًا تتبعه غير أسلوبهم.
وأكثر ما يُظهر منطق الدنيا في السياسة؛ فقد أراد الفلاسفة في عهد أفلاطون وأرسطو أن يُخضعوا منطق السياسة لمنطق العقل، فوضع أفلاطون جمهوريته، وأرسطو كتابه في السياسة، والفارابي مدينته الفاضلة، وهكذا تتابع الفلاسفة يرسمون المثل الأعلى للحكومة وللسياسة، يريدون أن يُخضعوا كل شيء في الدولة لمنطق العقل، والسياسة دائمًا تتمرد عليهم وتأبى إلا أن تخضع لمنطق الدنيا، وكان هذا هو الشأن إلى أيام ولسن، فقد وضع نظام العالم على أساس منطق العقل، وما زال منطق الدنيا يحاربه بأسلحته حتى هزمه شر هزيمة.
وربما كان «ميكافلِّى» هو الشخص الذي فهم منطق الدنيا بعد أن جرَّب الحياة الواقعية وسفرَ لأمته عند الملوك والأمراء، فنادى بأن السياسة لا تتبع العقلَ والعدل والخُلق، وإنما هي ترعى طبائع الناس وظروف الزمان والمكان، وقال: إن السياسة يجب أن تعرف الخير والشر، ولا بأس من أن تنحرف عن الخير تبعًا لضرورة الظروف القائمة — وقرر بعض مبادئ منطق الدنيا، فقال: «إن الناس أسرع إلى الإساءة إلى مَن وضع نفسه من قلوبهم موضع الحب، منهم إلى من جعل نفسه مخوفًا مَهيبًا»، وقال: «إن الأمير يجب أن يكون أسدًا، ولكن ينبغي له أن يتعلم كيف يلعب دورَ الثعلب». وهكذا أراد أن يشرح منطق الدنيا كما شرح أفلاطون وأرسطو منطق العقل، ولكن — مع الأسف — لم يستطع أن يدوِّن كل منطق الدنيا كما دوَّن مَن قبله كل منطق العقل. إن الذي وضعه جزء بسيط من منطق السياسة، وما السياسة بجانب الدنيا كلها؟ ولو كنت مكانه لوضعتُ قواعد منطق الدنيا في سلوك الإنسان وفى كيف يقدِّر الإنسان الإنسان، وكيف يصل الإنسان إلى أغراضه مع امتهانه لمنطق العقل، وكيف يفعل رجالُ الحكم تمشيًّا مع منطق الدنيا، وكيف تقف التقاليد والأوضاع أمام منطق العقل لتفسح الطريق أمام منطق الدنيا وهكذا، ولَجعلتُه مائة فصل، وجعلتُ ما كتبه ميكافلي عن السياسة فصلًا واحدًا من فصوله.
في كل شيء يصطدم منطق العقل مع منطق الدنيا، في الأسرة، في الشارع، في المتجر، في المصنع، في الوظيفة، في الحياة الخاصة والعامة، فنرى العقل في ناحية والدنيا في ناحية، وكلما كان الإنسانُ أرهف حسًّا، وأكبر نفسًا، وأرقى عقلًا، كانت صدمة الدنيا أقوى وأعنف.
ومع هذا فأظن أن العالم سائرٌ إلى التقدم في الاستزادة من منطق العقل، والتقليل من منطق الدنيا، ومقياس ذلك الأمم المنحطَّة والأمم الراقية، ففي الأمم المنحطَّة منطق العقل يسبح في دائرة قطرها «قيراط»، ومنطق الدنيا يسبح في دائرة قطرها ألف متر، وفي الأمم الراقية تكاد تتعادل الدائرتان أو تكون دائرة منطق العقل أوسع، وليس عمل المصلحين في الدنيا دائمًا إلا أن يحاولوا توسيعَ دائرة منطق العقل بتضييق دائرة منطق الدنيا.