الشرق والغرب
الدنيا اليوم كلها بركان ثائر لسنا ندري متى يهدأ وكيف يهدأ: نظريات تتعارض، ومصالح تتشابك، ومبادئ تتخاصم، ولم يبقَ شيء من الأسس القديمة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والأخلاق إلا تزلزل واضطرب، وثار ولَمَّا يهدأ.
ابتدأ البركان يثور في نقطة، ثم عم الغربَ، ثم امتد من الغرب إلى الشرقَ، فهذا هو الشرق يتزلزل أيضًا ويضطرب أيضًا؛ لأن العالم كلَّه أصبح الآن شبكة كهربائية تتفاعل في سرعة البرق.
مِن قديم وقف الشرق والغرب معسكرَيْن، في الحروب وفى السياسة وفى الاقتصاد، وفى المدنية وفى أساليب الحياة والتفكير، وغَلب الشرقُ حينًا، وغُلب حينًا، وثار الجدل بين الأوروبيين: هل من المصلحة أن يُمدَّن الشرق بمدنية الغرب أو يُترك وشأنه، يستغله الغرب في موارد الاستغلال، ثم يخليه ونفسه فيما عدا ذلك؟ وثار الجدل بين الشرقيين أنفسهم: ما موقفهم من المدنية الحديثة؟ أيأخذونها بحذافيرها أم يتخيرون منها؟
ولكن قوانين الطبيعة الجازمة الحازمة لم تعبأ بهذا الجدل، وسارت سَيرَها الحثيث نحو توحيد العالم وتوحيد المدنية في جوهر الأمور، وإن اختلفت الأشكال والأعراض، ولم تكترث للحدود الجغرافية المصطَنعة بين الشرق والغرب، فالعلوم والفنون والآداب والأوضاع السياسية ونظم الحياة الخاصة والعامة تسربت من الغرب إلى الشرق، كما تسربت قبل ذلك من الشرق إلى الغرب؛ لأن القانون الطبيعي أن البقاء للأصلح والغلبة للأرقى والأقوى، والتفاعل الدائم بين المتجاورين.
والزمن يعمل عمله في هذا التوحيد بين الشرق والغرب بالرحلات والبعثات والتزاوج والصحافة والثقافة والإذاعة والتجارة في المخترعات الحديثة، ورجال السياسة وأساليبهم وغير ذلك، كلها تنقل الماديات والمعنويات من أقصى الأرض إلى أقصاها فتقرِّب الفكر والمدنية ونمط الحياة.
قد يعوق هذا الامتزاج واتحاد المدنية عصبيةً من هنا وهناك، كعصبية دينية أو عصبية للجنس أو الدين أو القارة أو اللون ونحو ذلك، وكلها قد تؤخِّر السير ولكن لا تُغيِّر اتجاهه، فقد يقف الزمن أمام هذه العوائق ولكنه لا يلبث حتى يقوى ويكتسحها، ويكمل سيره إلى غرضه غير عابئ بما يبدو من بعض القادة السياسيين من وضع العقبات، فكل هذه تنهار أمام القانون الطبيعي في أن سكان الأرض وحدة تتفاعل، ويأخذ متخلفها في نفس الطريق الذي سار فيه متقدمها.
قبل ثلاثة قرون ونصف لم تكن هناك هذه الفروق بين الشرق والغرب، فإن كان ولا بد فالشرق كان يسبق الغربَ في مدنيته وحضارته ووسائل حياته. ثم حدث في أوائل القرن السابع عشر أن اكتشف الغرب وسائل للعلم التجريبي جديدة بنى عليها ثروته الصناعية والاقتصادية، ومن هنا بدأت نقطة التحول والتفوق. ومن نحو قرنين تضاعفت قوةُ الغرب باكتشافه بعض قوانين الطبيعة ومعرفته كيف يتغلب عليها، وافتتح عصرًا جديدًا عماده البخار والكهرباء. والشرق في هذه القرون الثلاثة كان يعتمد على وسائله القديمة الخالية من البخار والكهرباء فتخلَّف، وكان هذا هو الفرق الكبير الذي نراه الآن. وليس هذا فرقًا طبيعيًّا في عقلية الأمم؛ فالتاريخ علَّمنا أن التفوق والنبوغ يتحولان وينتقلان بين الشعوب لأسباب نفهم بعضها، ونعجز عن فهم بعضها، كنبوغ الأفراد يظهر من حيث لا نعلم، فقد ينبغ مِن بيتٍ حقير ومن بيتٍ عظيم ومن أسرةٍ وضيعة، ومن أسرة نبيلة ومن قرية ومن مدينة، ومن أكثر الناس علمًا ومن أقلهم علمًا. وهكذا نبوغ الأمم. حملت رايته الصين حينًا، والهند حينًا واليونان حينًا وبغداد حينًا والقاهرة حينًا، وجاء دور الغرب فحملها، وهو دورٌ كسائر الأدوار؛ فلا معنى للتبجح بدعوى التفوق الطبيعي والاستمرار الزمني والمكاني. فما على الشرق إلا أن يأخذ بالوسائل التي اعتمد عليها الغرب من العلم التجريبي واستخدام البخار والكهرباء، حتى تتغير مدنيته وحياته وأخلاقه ويتبوأ مكانه.
وليس كل الذنب في تقصير الشرق راجعًا إليه وحده. نعم إنه تكاسل وتواني وأخلد إلى الراحة حينًا طويلًا، لكن جزءًا كبيرًا من المسئولية يرجع إلى الغرب، فهو لم يأخذ بيده إلى الآن كهادٍ ومرشد، بل هو إذا رأى الشرق ينتبه، ويدرك سر التقدم الغربي ويبدأ في أن يسير سيرته ويحذو حذوه صدَّه ووقف في سبيله لمنفعةٍ له وقتية أو نظرٍ أناني قصير أو استغلالٍ مادي حقير، إن أراد استخراج الحديد من أرضه لم يشجعه، وإن أراد أن يغزل قطنه لم يؤيده، وإن أراد أن يقوِّي جيشه لم يُفسح الطريق له، وإن أراد أن يُصلح سياسته كما يرى وكما ينبغي لم يمكنه من ذلك، ثم عِيبَ عليه تقصيره وتخلفه واتُّهم بأن عجزه طبيعةٌ فيه.
إن المدنية الغربية قامت على أكتاف أشخاص يُعدون على الأصابع أمثال: جاليليو وكبلر وهارفي ونيوتن وغيرهم، لو مُنح مثلهم الشرق لتحوَّل تحولًا خطيرًا وسار إلى الأمام سريعًا. ولكن لِمَ مُنح الغرب هؤلاء ولم يُمنح الشرق مثلهم؟ إن البيئة الشرقية الحاضرة لا تسمح بخروجهم، لا لطبيعة الشرق، ففي القديم أخرج الشرقُ من العظماء ما لم يُخرجه الغرب، ولكن لأن الظروف الاجتماعية والسياسية في العصور الحاضرة لا تسمح بخروج هؤلاء النوابغ في الشرق، والمسئول عن ذلك الشرق بخموله والغرب بضغط قوته وسلطانه. وفي حدود قدرته على التملص من هذه القيود استطاع الشرق أن يرتقي بعض الرقي، وينهض بعض النهوض.
- (١)
تمكين كل فرد من أن يعمل لترقية نفسه حسب ملَكاته وقواه.
- (٢)
استغلال الأراضي أحسن استغلال حسب خصوبتها.
- (٣)
استخدام الأمة الطبيعة التي حولها لمصلحتها.
- (٤)
تصريف سلعها ومنتجاتها في أوسع دائرة من الأسواق.
- (٥)
العناية بتأسيس الأخلاق القومية لا الأخلاق الفردية وحدها.
- (٦)
غرس المبادئ التي توحي بشدة المحافظة على الحقوق — والمطالبة بها إذا أُهملت — وأداء الواجب.
- (٧)
حب الحرية وعشق النظام.
- (٨)
حب المغامرة والميل إلى الإقدام والرغبة في التجديد. وما عدا ذلك فأمورٌ سطحية كالعادات والتقاليد في الأفراح والجنائز والزواج والطلاق والملابس ونحو ذلك.
ولست أرى ما يمنع الشرق من السير على هذه الأسس إذا أخلص قادته من جهةٍ، وأفسح له الغرب طريقه من جهة أخرى.
ولو أحطنا الشرقي بكل بيئة الغربي السياسية والاجتماعية، وثقفناه بالعلم وربيناه على النهج الغربي لكان كالغربي في تفكيره وميوله وأخلاقه، والعكس، بدليل ما نرى من أن الفروق تتضاءل جدًّا بين المثقفين الشرقيين والمثقفين الغربيين في العقلية، وتتضاءل بين من عاشوا في إنجلترا أو فرنسا أو ألمانيا في الأخلاق. فكيف إذا اتحدوا في أشكال الحكومات والنظم السياسية وما إلى ذلك؟
قد يظهر بعض الفوارق في مزاج الشرق والغرب، فالشرق أمْيَل إلى التأمل، والغرب أميل إلى العمل، والشرق أميل إلى النظر للماضي في تاريخه والمستقبل في جنته أو ناره، والغرب أميل إلى النظر لحاضره في دنياه، والشرق أميل إلى النظريات وإلى التجديد، والغرب أميل إلى التطبيقات وإلى الواقع، والشرق يميل إلى ما وراء المادة، والغرب يميل إلى التغلب على الطبيعة وضبطها بالعلم.
ولكن هل هذه الفروق وأمثالها توجب التعدد والانقسام، والنظر العالي إلى الأسفل، والنظر الأسفل إلى العالي؟ أو هي فروق كالفروق التي بين أفراد الأسرة يكَون فيها المذكر والمؤنث وقويُّ العاطفة وجامدها والأديب والعالم، وهذه الفروق لم تمنع أن تتكون منها أسرة متوحدة متعاونة متحابة.
الحق أن ليست هناك حضارة غربية وحضارة شرقية، فما نسميه اليوم حضارة غربية بعض نتاج الصين في اكتشافها صناعة الورق والطباعة والبارود، وبعض نتاج الهند والعرب في العلوم الرياضية والفلسفة، كما أنه بعض نتاج فلسفة اليونان وعلمهم وفلسفة المحدَثين وعلمهم أمثال: كانت وجاليليو ونيوتن؛ فالعلم والفلسفة والاختراع والمدنية مَدينة للنوابغ من جميع أنحاء العالم من هندٍ وصين وعرب ويونان وإنجليز وفرنسيين وألمانيين، فتسميتها بالحضارة الغربية تسميةٌ بمن احتل أعلى طبقة في البناء الذي شيده العالم منذ نشأته واشترك في تشييده النوابغ من كل صقع ومن كل جنس. وتسميةُ البناء باسم سكان الطبقة العليا تسمية تعسفية أو اصطلاحية، أو هي كالبطاقة توضع على السلعة للتعريف بها.
وكذلك لا أفهم معنًى للشرق والغرب بالتفسير الذي يقصدونه، وهو أن هناك فروقًا خِلقية وطبيعية بين سكان في بقعة وسكان في بقعة أخرى، وأن هذه الفروق قدَرٌ محتَّمٌ كالقدر الذي جعل هذا حجرًا وهذا نباتًا وهذا حيوانًا، وهذا برًّا وهذا بحرًا، وأنه من المستحيل أن يتحول هؤلاء إلى أولئك ولا أولئك إلى هؤلاء. وعبَّروا عن هذا المعنى بقولهم: «الشرق شرقٌ والغرب غربٌ» أي: كما نقول: الأرض أرض والسماء سماء.
فهذه نظرية خلقها التعصب وخلقتها السياسة. والحق أن القوانين الطبيعية لا تعرف هذه الحدود الفاصلة، وإنما تعرف موجاتٍ يتموج بها العالم كله، وتعرف أن الرقيَّ العقلي وحضارة العالم وعلمه وخلقه سُلَّم واحد تقف منه الأمم على درجات، وتقف كل أمة منه على قدر استعدادها وجدِّها، وأن ليست الدرجة العليا وقفًا على قومٍ دون قوم ولا على جنس اسمه الغرب دون جنس اسمه الشرق، بل الدرجات تتبادل، والدرجة العليا تحتلها الأمم بالتناوب، وكل أمة بلغت أعلى درجة في شيء أفسحت الطريق أمام الآخرين ليبلغوها وقد يزيدون عليها، وليست الأممُ تماثيل واقفة على سُلَّمها لا تتعداه، فالعالم لا يعرف السكون وإنما يعرف الحركة، والسُّلَّم عليه دائمًا حركات بهلوانية يرتفع عليه قوم وينخفض آخرون.
لقد وسَّع الهوةَ بين ما يُسمى بالشرق وما يسمى بالغرب طائفتان: رجال الدين ورجال السياسة. فأما رجال الدين فقد شاء القدر أن يكون ما يسمى بالغرب مسيحيًّا وما يسمى بالشرق مسلمًا أو بوذيًّا أو غير ذلك. فنشط رجال الدين يبشرون، وكان من وسائل ذلك الرمي بالانحطاط والضعف وتصوير الشرق في صورة وضيعة، واستتبع ذلك ردُّ فعلٍ من الشرق بالكراهية والنفور والتحفظ وسوء الظن وما إلى ذلك. وأما رجال السياسة فقد لعبت برؤوسهم الوطنية، ولعبت الوطنية دورَها في العداء بين الأمم الأوروبية نفسها، ولكنها وجدت مجالها الفسيح فيما يسمى بالشرق، فتسابق الساسة الأوروبيون في أن يقدِّموا لأممهم الهدايا من الشرق بالاستعمار والانتداب والتدخل وبسط النفوذ، وكلما كان المكسب أكثرَ كانت الأوسمة والألقاب التي يكافأ بها على الوطنية أكثر. وكما حصل رد الفعل من رجال الدين حصل كذلك من رجال السياسة، فقوبلت وطنية الغرب بوطنية الشرق، وحصلَ النزاع المستمر بالقلم دائمًا وبغير القلم أحيانًا.
ولا شفاء من هذا إلا بتعديل الأساس وهو إلغاء استعمال كلمة الشرق والغرب، بالمعنى الذي تُعورف عليه إلى اليوم، والنظر إلى العالَم كوحدة، وتبادل المصالح عن طريق التعاون لا طريق الاستغلال، وإحلال الإنسانية محل الوطنية.
لو فكَّر الساسة تفكيرًا عميقًا وحسبوا ما يكسبون حقًّا وما يخسرون حقًّا من نظرتهم القديمة لوجدوا الخسارة أكثر من المكسب، وأن المصالح المشتركة يمكن التفاهم عليها عن طريق التعاون والأخذ والعطاء، لا عن طريق الأخذ قسرًا مِن غير عطاء، ولا عن طريق الوطنية الضيقة بالنظر إلى الكسب فقط.
وقد آن الأوان لتعديل هذا الأساس، فما يسمَّى الشرق لم يَعُد طفلًا غرًّا يُضحَك عليه باللعب، وما يُسمى الغرب قد ذاق مرارة الوطنية الحادة، ودعاة الإصلاح منهم يَكثرون ويُكثرون من الدعوة إلى الإنسانية بدل الوطنية حتى في معاملة الأمم المهزومة.
وتعديل الأساس على هذا المنوال هو ما تنادي به الطبيعة نفسُها، وما ينادي به تقدمُ العلم وتقدم الاختراع الذي جعل من العالم وحدة. والقوانين الطبيعية لا تَرحم، فإن سمعَ إليها القادة فبشِّرهم بنعيم مقيم، وإلا فبعذاب أليم.