في الأدب العربي (١)
المعروف أن الأدب العربي عُني أكثر ما عني بالإبل لأنها كانت عماد العرب في حياتها، فلم يتركوا شيئًا فيها حتى عالجوه جملة وتفصيلًا. ومع هذا فلما اتصلوا بغيرهم من الفرس والهنود ورأوهم يعتمدون — فيما يعتمدون — على الفيل، عالجوه في أدبهم كما استخدموه في حروبهم امتثالًا لقوله تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ. ولو عاشوا اليوم ورأوا الدبابات والطائرات لاستخدموها في حروبهم وأدبهم.
لقد رأى العرب الفيل في غزو الحبشة لهم لما أتوا من اليمن يريدون هدم الكعبة، ففشلوا وجاءت في شأنهم سورة الفيل.
ثم شاهد العرب الفيلة في حروبهم مع الفرس في غزوة القادسية وجلولا ونهاوند، فلم يخافوا ولم يهنوا، فغلبوهم بجمالهم؛ لأنه كان مع الجمال قلوبهم — وقلوبهم قلوب أسود — وكان مع الفيلة قلوب أعدائهم، وقلوبهم هواء.
وظهر في آخر العصر الأموي شاعر اسمه هارون بن موسى الأزدي بالولاء، كان شاعرًا وكان يحارب مع المسلمين بالمولتان من أرض الهند، مارس الفيلة في الحروب فعالجها في الشعر، وقال في صفات الفيل أشعارًا كثيرة، وقد حكوا عن هارون هذا أنه اكتشف سرًّا خطيرًا وهو أن الفيل يخاف من الهر، فجاء الموقعة ومعه هرٌّ خبأه في ملابسه فلما دنا من الفيل رمى الهرَّ في وجهه ففزع الفيل وولى هاربًا، وهربت الفيلة على أثره، وتساقط الأعداء من فوقها فكان ذلك سبب الهزيمة، وأترك تحقيق ذلك لعلماء الحيوان.
ولما رأى المسلمون أن خصومهم يعتمدون على الفيلة في حروبهم، لم يجمدوا، وألَّفوا في جيوشهم فرقة الفيلة، فكان في جيش أبي جعفر المنصور فرقة الفيلة والفيَّالين، وكذلك مَن بعده من خلفاء العباسيين، ومرنوا عليها ومهروا فيها مهارة خصومهم.
ثم كان الفيل مصدر وحي للأفكار والمعاني عند الفرس والهنود، وانتقل ذلك إلى اللغة العربية عن طريق كتاب كليلة ودمنة، فهو غني بالأمثال المشتقة من الفيلة مثل: «وقال العلماء: إن الرجل الفاضل لا ينبغي أن يُرَى إلا في مكانين ولا يليق به إلا أحدهما: إمَّا مع الملوك مكرَهًا وإما مع النُّساك متبتلًا، كالفيل إنما بهاؤه وجماله في مكانين: إما في برية وحشيًّا وإما مركبًا للملوك»، وفيه «إن مثلك في هذا كما قال التاجر: إن أرضًا يأكل جرذانها مائة مَنٍّ مِنْ حديد غير مستنكر إن تخطف بُزاتُها الفيلة»، وفيه «إن الكريم إذا عثر لم يستعِن إلا بالكريم، كالفيل إذا وحل لم يستخرجه إلا الفيلة» إلخ إلخ.
ولحظت العرب في الفيل كثرة أكله وشدته وعظم خَلقه، فضربت بذلك كله الأمثال فقالت: آكَلُ من فيل، وأشدُّ من فيل، وأعجب مِن خَلْق فيل.
ورووا أنه حضر فيلٌ في المدينة وكان مالك بن أنس يدرِّس في المسجد، فقال قائل: قد حضر الفيل. فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوه، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندلسي، فقال له مالك: لِمَ لْم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك ولم آتِ لأنظر الفيل.
وحدث في سنة (٣٧١ﻫ) أن وقع خلاف في أسرة بني بويه، وقاتل عضد الدولة البويهي فخرَ الدولة البويهي أيضًا، فانهزم فخر الدولة والتجأ إلى قابوس بن وشمكير بجرجان، فطلبه عضد الدولة، فأبى قابوس أن يُسلمه، فتحاربا وانهزم قابوس، وكان في الجيش المنتصر السياسيُّ الأديب الصاحب بن عبَّاد، وكان فيما غنموا فيلٌ عظيم كثر الحديث عنه، فلما سكت السيف تكلم اللسان، فاقترح الصاحب بن عباد على الشعراء أن يقولوا في الفيل، واشترط عليهم أن يكون ما يقولون على وزن وقافية قصيدة عمرو بن معد يكرب البطل الشجاع المشهور فارس اليمن:
وكان مُوفقًا في هذا الاختيار، فالقصيدة حماسية قوية، وهي إلى حماستها ظريفة الوزن جيدة الوقع، فتدفق الشعر في الفيل، وكان لنا من ذلك أدبُ فيلٍ وفيرٍ غزير نسوق طرفًا منه. فمما قال أبو الحسن الجوهري:
ومما قاله عبد الصمد بن بابك:
إلخ. إلخ.
وقال أبو محمد الخازن:
•••
إلخ. إلخ.
وهكذا أقاموا معمعةً حول الفيل كما أقاموا معمعةً حول المُلْك.
وفي هذا القدر اليوم كفاية.