فى الأدب العربي (٢)
مما أعيب عليه كثيرًا من الأدباء ميلَهم إلى قصر الأدب على الشعر والنثر الفني المصنوع، فإذا أنا عمدت إلى الكتب المؤلفة في مختار الأدب لم أجد — غالبًا — إلا هذين النوعين: شعرًا من امرئ القيس إلى شوقي وحافظ، ونثرًا من عبد الحميد الكاتب وأمثاله من ابن المقفع والجاحظ، ثم ابن العميد وابن عباد والقاضي الفاضل، إلى المنفلوطي وأضرابه. وأرى أن هذه الفكرة عن الأدب غير صحيحة، وأنها ضارة بالناشئين والمتعلمين؛ إذا تجعلهم يتصورون الأدب على أنه حلية لفظية شكلية، فإذا عمق الكاتب وفكر تفكيرًا دقيقًا خرج عن الأدب ولم يُسمَّ أديبًا. وضررُ هذا واضح، وهو اتجاه الأدب العربي إلى السطحية، والعناية فيه بالشكل أكثر من العناية بالموضوع. فإذا نحن استثنينا ابنَ المقفع والجاحظ وأمثالهما من الكُتَّاب الذين كان لأدبهم موضوعٌ رأينا الكثرة العظيمة تتجه نحو الأدب الشكلي الذي تسُود فيه العناية بالألفاظ، وتنميقها أكثر من عنايتهم بالأفكار وتوليدها والموضوع ودراسته. على هذا سار ابن العميد وابن عبَّاد والثعالبي والقاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وأمثالهم إلى المنفلوطي.
وقد آن لنا أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم والحديث؛ فمن ناحية القديم يجب أن نتوسع في فهم معنى الأدب، فنُدخل فيه نواحي كثيرة لم يُنظر إليها على أنها أدب، فالشعر الصوفي والنثر الصوفي أدبٌ يجب أن يدرس، وهو يمثل ناحيةً من نواحي النفس والعكوف عليها والتأمل فيها، ويجب أن يختارَ منه في كتب المختارات، والإحياء للغزالي جزء كبير منه نوع من الأدب يجب أن يُدرس ويُختار منه، ومقدمة ابن خلدون نوع من الأدب؛ لأنها تتعرض لشرح نظرياتٍ اجتماعية واقتصادية في أسلوب أدبي، وليس الأسلوب الأدبي مقصورًا على السجع والجناس والمزاوجة، بل إن الأسلوب المرسَل كأسلوب ابن خلدون أرقى وأجمل من أسلوب القاضي الفاضل؛ لأن المعنى إذا تفهَ احتاج إلى زينة صناعية تستره، ولكن إذا جمل وغزر كان كالغانية تستغني بجمالها عن حليها.
وبعض رسائل إخوان الصفا أدب، غزيرة الفكر في أسلوب جيد، ويجب أن يعلم الطالب نوعًا من النماذج الفلسفية تعينه على عمق التفكير وسلامة المنطق.
وألف ليلة وليلة أدب كمقامات الحريري، فهي تعلِّم الخيال الواسع ووصف المجتمع في شكل قصصي، ومقامات الحريري تعلِّم اللغة والأساليب في خيال محدود. والذي دعانا إلى هجر ألف ليلة وعنترة وعدم تقويمهما نزعتنا الأرستقراطية الضيقة في فهمنا أن الأدب لا يكون إلا حيث اللفظ الضخم والتأنق في التعبير.
وكتب التاريخ ذات الأسلوب الجيد، والتي لا تُعنى فقط بالأحداث وتاريخ وقوعها كتبُ أدب، كتاريخ الطبري، وتجارب الأمم، والفخري.
وكتب الرحلات، كرحلة ابن جبير وابن بطوطة وأمثالهما كتبُ أدب ذات موضع جيد، يعين على حب المغامرات ودقة النظر وإجادة الوصف.
وهكذا وهكذا، في التراث العربي أنواع كثيرة غير الشعر والنثر الفني يجب أن تُعد أدبًا، ويجب أن تُدَرَّسَ في باب الأدب، ويُختار منها لنماذج الأدب.
أما في الأدب الحديث، فالأمر أوضح، فيجب أن يتجه أدباؤنا إلى الموضوع أكثر من الشكل. ونحمد الله إذ نرى هذا الاتجاه واضحًا جليًّا؛ فالكتب التي تتعرض للمشاكل الاجتماعية أدب، والكتب التي تنقد الأوضاع السياسية أدب. وحسبنا أن نرى أكبر الأدباء في أوروبا اليوم يتجهون هذا الاتجاه. فبرنارد شو يكتب في الاشتراكية ونقد النُّظم الاجتماعية وتُعدُّ كتبه هذه من صميم الأدب كرواياته التمثيلية، و«ﻫ. ج. ولز» يؤلف في التاريخ على نمط جيد، وفي نقد السياسيين والنظم الحاضرة، وما يرجى للعالم من سعادة، وتُعدُّ كتبه هذه أدبًا كرواياته السينمائية. وبالأمس قرأت للأستاذ ديورانت وصفًا لكتاب «الإنسان ذلك المجهول» للدكتور إلكسيس كارليل يقول فيه: إنه أعمق كتب الأدب الأمريكي الحديث وأعظمها قيمة، وأحفلها بالحكمة، وما هذا الكتاب؟ إنه كتاب لطبيب تعرض فيه مؤلفة لجسم الإنسان، وأنواع نشاطه العجيب، والغدد ووظائفها، وجهود العقل ومظاهر النبوغ، ومواهب النوابغ وأسبابها، وأعمال الجسم العجيبة في حفظ الذات ونحو ذلك في أسلوب يبعث على الإعجاب من الجسم الإنساني وعظمته، وعظمة أعماله وعظمة خالقه — فعَدَّ هذا أدبًا. فَفَهْمُنَا للأدب على أنه شعرٌ أو نثر يشبه الشعر، أو قصة بديعة، أو نحو ذلك فَهْمٌ قاصر، والأدب أوسع من ذلك وأشمل، وإن كنا قصَّرنا إلى الآن في أدب الموضوع وأفرطنا في أدب الشكل، فواجبنا يقضي أن نزيد في الاتجاه نحو أدب الموضوع حتى يعالَج النقص.
لست أريد أن أُغمط الأسلوب حقَّه، فالأسلوب عنصر كبير من أهم عناصر الأدب، وله فضلٌ كبير على المعاني، فهو يرقى بالمعنى إلى حد الإعجاب، بل هو قد يعمد إلى المعاني المألوفة فيخرج بها إلى مستوى رفيع، ولكن أريد أن أقول: إننا — وفي عصرنا خاصة — لا يمكن لأديب أن يتبوَّأ مكانًا عالميًّا إذا اعتمد على الأسلوب وحده، وكان مصابًا بالفقر العقلي، وإن الأدب الحقَّ يجب أن يرتكز على ركنين أساسيين لا بد منهما، وهما الموضوع والأسلوب. وإعجاب الناس إذا كان مبنيًّا على الأسلوب وحده إعجابٌ موقوت كالإعجاب بأعمال الحواة والمهرِّجين. إنما يطول الإعجاب يوم يُعتمد على الموضوع في أسلوبٍ، لا على الأسلوب له صورة موضوع.