المنطق العملي
كثير من الناس يخطئون فيظنون أن مجال المنطق هو الدراسة النظرية والبحوث الجامعية والبيئات العلمية، ولكن الواقع غير ذلك، فأعمالُ الحياة كلُّها خاضعة للمنطق — الفلاح في زراعته، والتاجر في بيعه وشرائه، والإنسان في أسرته وفي وظيفته وفي جمعياته، كل أولئك خاضعون في كل تصرفاتهم للمنطق العملي.
غاية الفرق أن ما يُدرس في معاهد العلم هو علم المنطق، وما يُستخدم في الحياة اليومية هو فن المنطق، وذلك كعلم الموسيقى الذي يدرس النظريات، وفن الموسيقى الذي يعلِّم التوقيع على الآلات، وعلم الهندسة وفن الهندسة، وعلم البلاغة، وفن البلاغة، وهكذا. العلم يقرر القواعد النظرية، والفن يمارس الناحية العلمية.
وأعتقد أن مِن أهم الفروق بين تاجر راقٍ وتاجر منحطٍّ وفلاح راقٍ وفلاح منحط وأسرة راقية وأسرة منحطة وأمة راقية وأمة منحطة هو استخدام الطائفة الأولى لفن المنطق، وإهمال الثانية له، وأن من أهم وجوه الإصلاح في الأفراد والجماعات نشر فن المنطق بينهم.
الخصام بين الناس، والنازعات بين الأحزاب، وسوء المعاملة بين الملَّاك والزراع وبين الباعة والمشترين وبين الرؤساء والمرءوسين وبين أصحاب الحاجات والموظفين، يرجع في الأعم الأغلب إلى سوء التفكير وانعدام فن المنطق أو ضعفه. فَرَقِّ التفكير في أية طائفة من الطوائف واجعلهم يؤسسون تفكيرهم على المنطق، ويصدرون في أعمالهم حسب فن المنطق ترتقِ المعاملةُ وترتقِ الطائفة.
استعرِض ما شئتَ من التصرفات تجد أن صواب التصرف راجع إلى انطباقه على فن المنطق، وخطأه وما ينتج عنه من أضرار راجع إلى الانحراف عن فن المنطق. هَبْ أن الأسرة قررت شراءَ سيارة، ففن المنطق يقضي بحساب ميزانية البيت ودرس ثمن السيارة وما تتكلفه كل شهر ومنافعها ومضارِّها ودرس ما تحتاجه الأسرة من ضروريات وكماليات، ومنزلة السيارة من هذه الأشياء الضرورية والكمالية، ومنزلة ثمن السيارة من ميزانية الأسرة، فإن دُرس ذلك كله درسًا صحيحًا ورُؤيَ من المستحسن شراء السيارة، فهذا من فن المنطق. ولكن إن اشتريت السيارة مِن غير درسٍ وموازنة ومقارنة، فقد أُهمل فن المنطق وتعرَّض رب الأسرة لأضرارٍ كثيرة. وعلى هذا القياس كل ما يحصل من متاعب في الأسرة من جهة الميزانية سببه إهمال فن المنطق.
خُذ مثلًا آخر في الأسرة: أمٌّ مرض طفلها فارتفعت حرارته واستمرَّت مرتفعة، فسألت الجيران ماذا تفعل! فكلٌّ أشار عليها بعمل، فعملت بالإشارة الأولى فلم تنجح، فعملت بالإشارة الثانية، ثم بالثالثة فمات الطفل. إن الطفل إنما مات من إهمال المنطق، فالمنطقُ الصحيح عَرْضُ الطفل على الطبيب ليعرف نوع المرض وما يناسبه من علاج.
هذه أمثلة صغيرة جدًّا واضحة جدًّا، ولكن استعرض على ضوئها كل ما يشقي الأسرة تجد أنه راجع إلى إهمال المنطق من الأسرة، أو من ربة الأسرة أو من أولاد الأسرة، وأن الأخطاء راجعةٌ إلى أن أعمالًا تعمل قبل أن تُدرس ويفكَّر فيها تفكيرًا صحيحًا، أو أنها دُرست ولكن اتخذ لتحقيقها وسائل غير صحيحة، أو قُوِّمت فيها اعتباراتٌ سخيفة لأسباب سخيفة غمرت الاعتبارات الصحيحة وهكذا. كذلك الشأن إن نحن وسَّعنا نظرنا من الأسرة إلى علاقاتنا الاجتماعية والسياسية، فهي تحسُن بالمنطق وتسوء بعدم المنطق.
إن التاجر الناجح في الحياة هو التاجر الذي طبَّق فن المنطق مِن عرضه لسلعه، وضبطه خَرجه ودخله ورأس ماله وربحه، ومعرفته لنفسية الجمهور وطريقة إرضائهم وهكذا. فإن هو سار على البركة لم ينجح إلا إذا وقع مصادفةً على فن المنطق، وضحايا التجار وأرباب الأعمال هم في الواقع ضحايا المنطق الفاسد.
انتقل بعد هذا إلى الجو السياسي ترَ أن البرلمان الصالح هو السائر في بحوثه، وكلام أعضائه ومناقشاتهم وجدلهم وضبط عواطفهم على فن المنطق، فإن هم انحرفوا عنه فبرلمانٌ فاسد، والبلد الناضج في السياسة هو الذي يسيطر عليه رأي عامٌّ يعرف فن المنطق، فيحكم على الأشياء والحوادث والأشخاص حكمًا صحيحًا، يقدِّر الكلام بما فيه من حقائق لا بما فيه من تهويش، ويقدِّر المسائل بجواهرها لا بأشكالها. والبلد البدائي في السياسة هو الذي لا يدرك فن المنطق؛ فيقدِّر السياسي بتملقه له، ويقدر الشيء بمنفعته الحاضرة القريبة وإن استتبعت أضرارًا بعيدة، ويخدعه التهويش، وهكذا.
كل الناس صالحون لأن يتقدموا في فن المنطق على اختلاف استعدادهم، ومِن الناس من مُنحوا استعدادًا فطريًّا جيدًا، فساروا في الحياة على فن المنطق، وإن لم يعلموا أنه منطق ولم يسمعوا باسم المنطق، ولكن مهما كان الاستعداد فالتربية المنطقية تصقله وتزيده قوةً وصفاءً.
إن العمل الصحيح هو وليد التفكير الصحيح، والتفكير الصحيح وليد شيئين؛ تثقيف واسع بقدر الإمكان، وبيئة صالحة بقدر الإمكان، فإذا أردنا أن نرقِّي الشعب من ناحية تفكيره وعمله في الحياة حسب فن المنطق وجب أن نثقفه ما وسعنا تثقيفه، فالجهل عدو التفكير الصحيح، ثم يجب أن نصلح ما حوله بالأمثلة والنماذج الصالحة للتفكير الصحيح، ثم نفتح عينه للتجارب. فهذا العمل جُرِّب فحسنت نتائجه فيجب أن يكرَّر، وهذا العمل جُرب فساءت نتائجه فيجب أن يُجتنب أو أن تعاد تجربته على نمط آخر.
بل إن فن المنطق لا يُستفاد من التعلم النظري بقدر ما يُستفاد مما نسميه التربية الاجتماعية، ونعني بذلك أن الجمعية التي يعيش فيها الفرد هي معهد تربية، فإذا كان هذا المعهد يفكِّر تفكيرًا منطقيًّا ويعمل وفق تفكيره، كان هذا أكبر مربٍّ للفرد، وكل محل تجاري منظم يجري على فن المنطق هو أكبر معلم لأفراده فنَّ المنطق، وكذلك الأسرة والمصنع والحزب، فالبيئة التي يعيش فيها كل فرد هي مدرسته التي تعلِّمه حُسن المنطق أو سوء المنطق؛ وهذه البيئة قابلة للتغير المستمر من سيئ إلى حسن أو مِن حسن إلى سيئ؛ فالفلاح يسوء تفكيره لأن بيئته سيئة التفكير خاضعة للاعتقادات الخرافية والتقاليد البعيدة عن فن المنطق، والمصنع الفوضَى والمتجر الفوضَى أسوأ مدرسة لفن المنطق. فأصلِح هذا كله يصلُح التفكير فيصلح العمل.
والمدرسة النظامية تقوم بنوعين من التربية: التربية عن طريق العلوم النظرية، وهي قليلة الأهمية هنا، والتربية الاجتماعية، وهي تربية السلوك والناحية العملية في الحياة. ومما يؤسف له أن هذه التربية الثانية إلى الآن ضعيفة، وهي التي عليها عماد التفكير الصحيح والعمل على وفق هذا التفكير.
كذلك من أهم معاهد التفكير الصحيح السينما والتمثيل والصحافة؛ فهي دائمًا تعرض نماذج في التفكير ومن الحوار ومن العمل وفق التفكير، فإذا أُصلحت حدث فن المنطق في الأمة ورفعته، وإلا أفسدته ووضعته.
إن عهود الظلام السابقة خلَّفت لنا ديونًا ثقيلةً من تقاليد وأوضاع لا تتفق وفن المنطق؛ فعاداتنا في الزواج والطلاق والأفراح والمآتم، واعتقاداتنا في الأضرحة والمشايخ وطب الرُّكَّة والرُّقَى والتعاويذ ونحو ذلك، كلها ضرباتٌ سامة في صميم فن المنطق، تميت الفكرَ الصحيح، وتجعل الأعمال الصادرة عنه أشبه بأعمال المخبولين والمعتوهين، فإذا رقي الفكر بالوسائل التي ذكرنا حلَّ محلها تدريجًا تقاليدُ مبنية على المنطق.
وعلى الجملة فالحياة ليست إلا سلسلة تفكير تتبعها سلسلة أعمال، فإن ساء التفكير ساء العمل فساءت الحياة، وإن حَسُن التفكير حسن العمل فحسُنت الحياة.
فإن نحن قلنا: إن شقاء الناس مِن سوء المنطق لم نُبعد.