سلطان العقل عند أبي العلاء١
يرى القارئ لتراث أبي العلاء — وخاصَّةً اللزوميات — إشادةً بالعقل، واعترافًا بقوة سلطانه، فهو أعز ما وُهب الإنسان:
وهو الهادي الوحيد لمعرفة الخير والشر، والحق والباطل، فلا حاجة إلى انتظار إمام معصوم يرشد الناس إلى ما يُعمل وما يُترك — كما يقول الشيعة — فالعقل كفيل ببيان ذلك كله.
ولكن الناس في كل زمان ومكان ما قدَروا العقل قدره، ولا وفَّوْهُ حقه، ولا عرفوا كيف ينتفعون به:
بالعقل والتفكير الصحيح تنقشع الغيوم، وتنجاب الظلماء، وتهون الصعاب وتنكشف الحقائق:
•••
•••
والدنيا مملوءة بالتجارب، ولكن التجارب طير اختبأ في عشِّه، إنما يستطيع أن يصيده مَن مُنح العقل والعمر:
والعقل هو المرآة الصادقة تُرى فيها الحقائق، لا كلام الناس والإخوان:
وإنما يقيِّد العقلَ ويمنعه عن إدراك الحق والعمل به ما رُكِّب فيه من طبعٍ وشهوات، فالعقل مغلولًا بالشهوات كالشمس يحجبها الغمام:
•••
والعقل أحسن هادٍ لفعل الخير وتركِ الشر، وخيرُ الخير ما أتاه صاحبه لأنه جميل، لا رغبةً في مثوبة، ولا خوفًا من عقوبة:
•••
وأخيرًا فالعقل نبيٌّ صادق، ومن اتبعه رَشَدَ، ومن صدَّ عنه غوى:
وهكذا وهكذا ملئت اللزوميات بهذه المعاني وكُررت على أشكال مختلفة نكتفي منها بهذه المثل لندل بها على قيمة العقل في نظره وسلطانه والاعتداد به، ولننظر بعد كيف استخدمه.
لقد عمل على نضج عقل أبي العلاء ذكاؤه الفطري واطلاعه على الفلسفة اليونانية وصداها في الفلسفة الإسلامية، وطول تفكيره وتأمله الذي أعانه عليه وحدته وعزلته وتجرده من شواغل الدنيا ما استطاع.
وفي الفلسفة اليونانية لونٌ زاهٍ ألوان العقلية ومِن أثر العقليين الذين يرون للعقل الحقَّ المطلق في الحكم على الأشياء والبرهنة على صحتها أو بطلانها، ولا يؤمنون بشيء ولا عقيدة ولا تقاليد ولا مواضعات إلا إذا قام البرهان العقلي على صحتها، وما لم يقم البرهان عليه لا يُسلِّمون به مهما كانت السلطة التي تجيء به، وبذلك أخضع هؤلاء اليونانيون كل شيء للعقل وسلطانه، فكما خلقوا العلوم الرياضية بعقولهم كذلك خلقوا الفضائل والرذائل بعقولهم، وقرروا النظم الاجتماعية، وأشكال الحكم السياسية بعقولهم، من غير أن تمليها عليهم أي سلطة خارجية؛ فالعالم عندهم عالم عقلي، والإنسان ضالٌّ ما لم يكتشف قوانين نفسه وقوانين الطبيعة حوله بعقل، ويَسِر على القوانين التي توائم بين نفسه والعالم الخارجي كما يرشده إليه عقله.
قرأ أبو العلاء هذا في الفلسفة اليونانية وتأثر به تأثرًا عميقًا، يدلُّ عليه ما أشرنا إليه من قبل من تمجيد العقل وسلطانه، ولكنه من ناحية أخرى نشأ في الأوساط الدينية، وقرأ تعاليمَها، وتعمق في مبادئها، وهي تقضي بأن وراء العالم المادي المنظور عالمًا روحانيًّا غير منظور، وإن كان السلطان في عالم المادة للقانون الطبيعي يدركه العقل، فالسلطان في عالم الروح لله، وإن كانت آلة العالم المنظور وإدراك قوانينه هو العقل، فآلة العالم الروحي وإدراك قوانينه هو الوحي، وفي هذا العالم الروحاني الله لا العقل هو مصدر التشريع وهو المرشد إلى الفضائل والرذائل، وهو واضع الشعائر الدينية، وهو الذي ربط بها الثواب والعقاب، وعلى الإنسان أن يطيع أوامر الدين ولو لم يهتدِ إلى بعضها بعقله؛ لأن قوة العقل في الإنسان محدودة، ووراء قوة العقل قوة الوحي.
هاتان الصورتان الصغيرتان جدًّا إذا انعكستا في النفس سبَّبتا الحيرة والاضطراب والقلق، وليس يَسْلَم من قلقها إلا مَن ألحد جدًّا فلم يخضع إلا لحكم العقل، أو من آمن جدًا فأسلم عقله لإيمانه. وهناك أصناف من المذاهب الدينية والفلسفية أرادت التوفيق بين هاتين الصورتين بأشكال مختلفة مما ليس مقصدُنا الآن.
فلننظر إلى أبي العلاء المعري كيف وقف من هاتين الصورتين، وكيف كان موقفه من سلطان العقل وسلطان الدين.
لقد أعلى شأنَ العقل كما رأينا، وأراد أن يستخدمه على طول الطريق، فبدأ ينقد به العادات والتقاليد ونظام الحياة الاجتماعية في عصره، فكان ذلك موفّقًا كل التوفيق.
لقد نقد الملوكَ والأمراء؛ لأنهم بوضعهم العقلي خدَّام الأمة:
فما بال هؤلاء الخدام يعْدون عليها ويظلمونها:
وهم يُصدرون من الأوامر ما لا يتفق والعقل والعدل، ثم ينفِّذون ما يأمرون بقوَّتهم وسلطانهم لا بإقناعهم، فإذا نفذ أمرهم قيل: ما أسوسَهم:
وهؤلاء الولاة المسيطرون على الناس لا عقل لهم، ولا عدل عندهم، شياطين في ثياب ولاة، لا يهمهم جوع الناس إذا مُلئت بطونهم، وخَمِرت رءوسهم:
وحول هؤلاء الولاة بطانة قد جمدت عواطفُهم كأنها الحجارة أو أشد قسوة، لا يرحمون دمعة مظلوم ولا يجيبون صرخة مستغيث:
والقضاة لا عقلٌ ولا عدل:
وفقهاء صناعتهم الكلام، ولا روح ولا أحلام:
ووعَّاظ يقولون ما لا يفعلون، ويأتون ما ينكرون:
وشعراء ليسوا إلا لصوصًا يَعْدون على من قبلهم في سرقة أقوالهم، ويَعْدون على الأغنياء بمديحهم لسلب أموالهم:
وقوم تسودهم الخرافة فيلجئون إلى المنجمين والعرَّافين والمعزِّمين، وما لهؤلاء من علم، ولكنها شباك تُنصب لاستدرار الأموال من المغفلين والمغفلات:
•••
•••
وبعد أن نقدهم طبقاتٍ، من الملوك إلى القضاة إلى الوعاظ إلى التجار إلى النساء، نقدهم جملةً، فكل الناس في زمان ومكان لا يصلحون إلا للفناء:
•••
•••
وسبب فسادهم أنهم مُنحوا العقل فلم يُصغوا إليه ولم يلتفتوا له، وتَجاذبهم عقلٌ يُرشِد وطبع يُغوي، فجروا وراء طبعهم ولم يلتفتوا إلى عقلهم:
•••
•••
•••
•••
وهكذا أفاض في نقد المجتمع ومظاهره ونظمه وأخلاقه، وكان في كل ذلك موفقًا كل التوفيق، ومظهر توفيقه أنه استطاع في مهارة أن يدرك عيوب المجتمع في جملتها وتفصيلها، ويعالج ظواهرها، ويعمق في النفس الإنسانية في دقة وتحليل، فيصل إلى دخائلها. ثم هو لم يتناقض في هذا الباب ولم يضطرب ولم يمجمج، وجرى على وتيرةٍ واحدة في صراحة ووضوح وانسجام.
وسبب نجاحه في هذا أمران: الأول: أن الأمور الاجتماعية والأخلاقية التي نقدها هي في صميم اختصاص العقل؛ فالعقل أداة صالحة لربط الأسباب بالمسببات، والأمور الاجتماعية والأخلاقية تجارب تحدث فتحدث نتائجها، تظلم الملوك والحكومات فتسوء حالُ الأمة، وتعدل فيصلح حالها، وللوعاظ غاية، هي إرشاد الناس من طريق إعطائهم المثل بأنفسهم، والدعوة إلى الخير بألسنتهم؛ فإذا لم تتحقق هذه الأمور فالوعَّاظ شر، وهكذا. فكل ما نقده أبو العلاء من هذا القبيل داخلٌ في دائرة العقل والتجارب. والأخلاق العقلية التي قررتها الفلسفة اليونانية هي بعينها تقريبًا الأخلاق الدينية؛ لأنها أيضًا نتيجة تجارب لصالح المجتمع. وقد نقدت مظاهر المجتمع والأخلاق من قبل أبي العلاء، كما فعل ابن المقفع والجاحظ مثلًا، ولكن مهارة أبي العلاء كانت في إبرازها إبرازًا فنيًّا رائعًا. والسبب الثاني في نجاحه في هذا الباب: أن ناقد هذه الأمور متمتع بكثير من الحرية، فلا لومَ عليه إذا نقد المجتمعَ ونقد الأخلاق، بل إن الناس يصفقون للناقد ويُعلون شأنه؛ لأنه يدعوهم بنقده إلى الكمال المحبَّب إليهم من أعماق نفوسهم؛ لذلك صرَّح بكل ما يريد في هذا الباب وهو آمن مطمئن فنجح.
بعد هذا انتقل خطوة أخرى — في النقد — أدق، وهي تحكيم عقله في المسائل الدينية الشرعية الفرعية، مثل: اليد كيف تُودَى بخمسمائة دينار، وتُقطع في ربع دينار؟
ومثل أن الإسلام جاء لمحو الأوثان والأنصاب، فكيف عظمت بعض شعائر الحج كاستلام الحجر الأسود وتقبيله ونحو ذلك:
وهذا النوع قد عرض له أناس من أول عهد الإسلام، أرادوا أن يُحكِّموا العقل في التعاليم الإسلامية فصُدوا، كالتي سألت عائشة: ما بال المرأة تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: أحَرُوريَّة أنت؟ وكالذي رُوي أن ربيعة الرأي سأل سعيدَ بن المسيب عن عَقل أصابع المرأة: ما عقل الإصبع الواحدة؟ قال: عشرة من الإبل. قال: فإصبعان؟ قال: عشرون، قال: فثلاث؟ قال: ثلاثون. قال: فأربع؟ قال: عشرون. قال ربيعة: فعندما عظم جُرحها نقصَ عقلها؟ فقال له سعيد: أعراقي أنت؟ إنما هي السُّنة.
ومن أجل هذا روي عن علي أنه قال: «لو كان الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخفين خيرًا من المسح على ظاهرهما»، فجاء أبو العلاء ينقد على هذا النحو فلم يُرتح لقوله، ورد عليه الشعراء المتدينون فيما قال.
ثم خطوة أخرى أجرأ وهي عرضه الحديث والأخبار الدينية على عقله، وصرخته بأن كثيرًا منها لا يرتضيه العقل، سواء في ذلك ما أتى به اليهود أو النصارى أو المسلمون:
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
والناس لا يُحكِّمون عقلهم في دينهم، إنما هي تقاليد يتبعونها وعادات تحرون عليها:
•••
وقد سبقه المعتزلة إلى تحكيم العقل في الأحاديث، وأنكروا منها ما لا يتفق والعقل، وخاصة «النَّظَّام» فقد كان يُنكر الحديث في صراحة إذا كان عقله لا يُقرُّه، ولا يكتفي في الحكم على الحديث بالوضع إذا ضعفَ إسناده، بل أهم من ذلك إذا لم يصبر أمام امتحان العقل؛ ولكن أبا العلاء جرؤ على ما لم يجرؤ عليه النظَّام وأمثاله، وأراد أن يعرض الأخبارَ الدينية كلها — أحاديث أو غيرها — على محكِّ العقل، وختم هذه المرحلة بقوله الشديد الجريء:
•••
وقد قوبلت أقواله في هذا الباب ببعض السخط، لكن سار فيه أيضًا بخطى ثابتة غير مضطربة؛ وإنما قلت: «ببعض السخط»؛ لأنه صاغها صياغةً غامضة يحتمل كثيرٌ منها التأويل في جانبه.
بعد ذلك نأتي إلى المرحلة الثالثة في نقده العقلي، وهي أخطر المراحل وأشدها وأوعرها، وهي التي تعرَّض فيها لصميم الدين: هل الله موجود أو لا؟ وهل هناك وحيٌ أو لا؟ وهل هناك حياة أخرى أو لا؟ وهل الإنسان في هذا العالم مجبورٌ أم مختار؟ ما الحقُّ في ذلك كله؟ وأين أجده؟ وكيف أجده؟
هنا كانت تتراءى له الصورتان السابقتان المتعارضتان: صورة الفلسفة اليونانية ومَن نحا منحاها، وهي التي تصوِّر أن العقل وحده أداةُ المعرفة، وهو وحده الذي يستطيع الوصول إلى الحقائق في ذاتها. والمعارف التي تصلنا عن طريقه هي وحدها الحق ولا حق غيرها. والصورة الدينية التي تصوِّر أن الحق يأتي من الله على لسان أنبيائه، وأن مردَّ الحق إلى الوحي لا إلى الفلسفة، وأن مركز الحق في القلب لا في الرأس. لم يستطع أبو العلاء التوفيق بين الصورتين، ولا أن يكوِّن صورة واحدة مؤلَّفة منهما، ولا أن يضع لهذه دائرة اختصاص ولتلك دائرة، إنما تركهما — كما هما — تعتركان، وكلُّ ما فعل أنه كان ينظر أحيانًا إلى هذه الصورة فتعجبه، ويستلهمها فتلهمه؛ وينظر أحيانًا إلى الأخرى فتعجبه، ويستلهمها فتلهمه. إن نظر إلى الأولى ألهمته إلحادًا، وإن نظر إلى الأخرى ألهمته إيمانًا. ينظر إلى الأولى فيتوقد ذهنه فلا يرى إلا أسبابًا ومسببات، ومنطقًا ونتائج ومقدمات لا تسلم إلى إسلام، فينكر. وينظر إلى الأخرى فيخفُق قلبه ويرهف شُعوره، فيترنح من نشوة الإيمان. وهو في كلتا الحالتين صادق معبر عن نفسه أصدق تعبير. وهذا الموقف ليس بعيدًا عن حال كثير من المثقفين في كل عصر، فكم منهم يَحار ويُصدِّق، ويلحد ويؤمن؛ كالنفس تشدو لها أنغامًا حزينة فتحزن، وأنغامًا سارة فتُسَر. والإنسان يطغى أن رآه استغنى، وإذا أدركه الغرق قال: آمنت أن لا إله إلا هو. وأكثر مؤرخي أبي العلاء يُخطئون إذ يفرضون في أبي العلاء وحدة الزمان والمكان والفكرة، بل يتصورون نفسه الإنسانية حجرًا لا تعتريه حالات؛ فمن اعتقد إيمانه تأول له آيات الكفر، ومن اعتقد كفره لم يأبه بآيات الإيمان. والحقُّ أن من أكفره صادق، ومن جعله مؤمنًا صادق؛ كلاهما يصوِّر حالة من حالات نفسه، وما أكثر حالات التغير في النفس اليقِظة المتوثبة، ثم هو في حال إيمانه صريح لا يحتاج إلى كناية أو مجاز؛ فهو يتفق وآراء الجمهور. وفى حال إلحاده مضطر إلى الكناية والمجاز خشية السوء. ومع هذا فقد تستغويه الفكرة. فلا يعبأ بالناس ولا يعبأ بموته أو حياته:
•••
•••
•••
لنعد إلى موقف أبي العلاء من هذه المسائل الأساسية في الدين في ضوء هذا الرأي: هل الله موجود؟ اللزوميات مليئة بالإجابة بنعم:
•••
•••
•••
•••
إلخ … إلخ.
وأحيانًا أخرى نجد له ما يمجمج به في الإنكار كقوله:
•••
هل الكون قديم أزليُّ كما قال أرسطو، أو هو حادث فانٍ كما يقول الدين؟
أحيانًا هذا وأحيانًا ذاك. فمن ناحية يقول:
ومن ناحية أخرى نقول:
•••
هل الإنسان في هذا العالم مجبر أم مختار؟
أما أكثر شعره فالقول بالجبر:
•••
وأحيانًا يميل إلى الاختيار ومسئولية الإنسان:
وأحيانًا يرى التوسط بين الجبر والاختيار:
هل هناك بعثٌ وحياة أخرى؟
أحيانًا نعم وأحيانًا لا؛ فنعم كقوله:
•••
•••
•••
وأحيانًا «لا» كقوله:
•••
•••
•••
وأخيرًا: هل هناك وحيٌ وأنبياء أو لا؟
الجواب أيضًا: نعم ولا.
فنعم في مثل قوله:
•••
و«لا» في مثل قوله:
•••
•••
•••
وهكذا. وهكذا.
•••
لقد فكر أبو العلاء طويلًا بعد هذه المرحلة الطويلة التي قطعها في إعمال العقل، واستعرض ما فكَّر وما قال. فماذا رأى؟ رأى تناقضًا في الفكرة وفي القول، يُسلمه التفكير يومًا إلى الشيء أنه أبيض فيعلنه، ثم يُسلمه يومًا آخر إلى أنه أسود فيعلنه، فإذا هو آخر الأمر يلعن أنه أسود وأبيض معًا ومحالٌ ذلك. أيهما الحق أهو أسود أم أبيض؟ لا بد أن يكون أسود فقط أو أبيض فقط، إما أسود وأبيض معًا فضلال، وما هذا العقل الذي يُسلمني إلى الشيء ونقيضه؟ عند ذلك صرخ من أعماق نفسه بأنه حائر لم يُوفق، ضالٌّ لم يهتد، وأن ليس في الناس من يستطيع هدايته، فكلُّهم إما عاقل لا دين له أو دَيِّن لا عقل له، وهو يريد أن يكون دَيِّنًا عاقلًا، والمطمئنون الذين استطاعوا أن ينجوا من الحيرة مقلِّدون لم يؤمنوا عن فكر وعقل، فهؤلاء ضالون لتقليدهم، وهؤلاء ضالون لحيرتهم. والعقل وما أدراك ما العقل؟ أسلمت له قيادي، فلم يُسلم لى قياده، وآمنت به كل الإيمان، وفضلته على كل الأديان، وجعلته نبيًّا من الأنبياء، ونورًا يلمع في الظلماء، فلم يؤدِ رسالة، ولم ينقع غلة، فلأكفر به كما كفرت بغيره، ولأنكر سلطانه كما أنكرتُ كل سلطة، ولأكسر قيثارتي التي غنيت عليها في مدحه، ولأضع أناشيد أخرى في ذمه، فهذا هو الجزاء الوفاق لمن وفيتُ له فلم يفِ لي، وأكبرت شأنه فأصغرَ شأني، وركنت إليه فحيرني. جربت النقل فلم أطمئن إليه، وجربت العقل فلم أطمئن إليه، فلأرفع عَلَمَ الشك، وأعلن أنه لا يقين.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
لقد تركت الدنيا للدين، والنقل للعقل، ولذة المادة للذة الروح، فلا أفدتُ هذا ولا ذاك. وأخيرًا:
عقدة أبي العلاء أتت مِن عظمته، وضعفه نبعَ من قوته. قد مُنح عقلًا قويًّا دائب النشاط يريد أن يطحن كل شيء يصل إليه ليعرف كنهه، وشعورًا قويًّا رحيمًا بالإنسان راثيًا لبؤسه، رحيمًا بالحيوان معذبًا نفسه في سبيل الرحمة به. ومثل هذا الشعور القوي يريد أن يؤمن، ومثل هذا العقل القوي يريد أن يواصل البحث حتى يصل إلى الحقيقة. ولكنه — وهنا موضع العقدة — يريد أن يؤمن بعقله كما آمن بشعوره، والعقل ليس أداةً صالحة لإدراك الغيب، إدراك الله والحياة الأخرى والوحي والملائكة وما إلى ذلك؛ إنما خُلق ليكون أداة للحياة الدنيا ووسيلةً لحفظها وبقائها ورقيها، وهو عاجز كل العجز أن يرسم بريشته عالم الغيب المجهول الذي لا يخضع لقانون سببٍ ومسببٍ، ومقدمةٍ ونتيجة، وزمان ومكان، وحيز وحدود.
لقد شُغلت الفلسفة القديمة بالبحث وراء المادة، فدارت حول نفسها ولم تصل إلى نتيجة، حتى جاءت الفلسفة الحديثة وعلى رأسها «كانت»، فتحول بعض فلاسفتها من البحث فيما وراء المادة إلى البحث في العقل نفسه ومقدرته على المعرفة وحدود ما يمكن أن يعرف وما لا يمكن أن يُعرف، إن العقل إنما يستمد معلوماته من الحواس، وكل البحوث في سائر العلوم حتى أدق العمليات الرياضية والهندسية منشؤها الحواس، أعمِل فيها العقل بالمقارنات وما إلى ذلك، والحواس لا تدرِك من العالم إلا بقدرٍ، فإذا انخفض الصوت عن قدر معين أو ارتفع عن قدر معين لم نسمع، وهكذا العينُ والشم واللمس، فكم في العالم من أشياء لم تدركها عقولنا لأنها لم تدركها حواسنا. والعقلُ لا يستطيع أن يسير إلا مستندًا على حواسه، ولا يمكن أن يدرك من العالم إلا مظهره، هل يستطيع أن يدرك ما الضوء وما الكهرباء وما الجاذبية؟ إنما يدرك آثارها ومظاهرها. هل يستطيع أن يدرك مركزَ نفسه، وحقيقة شعوره؟ كلا إنما يدرك آثار ذلك في الحياة الخارجية. من أين أتينا؟ أين كانت حياتنا قبل أن نحيا؟ ماذا تكون حياتنا بعد أن نموت؟ وما حقيقة علاقتنا بالعالم الخارجي حولنا؟ كل هذه الأسئلة ومئاتٌ نحوها لا نعرفها، ولا يستطيع العقل أن يعرفها، ولم يتقدم في إدراكها كما تقدم في العلم بقوانين المادة. كم في العالم من حُجَر مغلقة لم نعطَ مفاتيحها؟
إنما نشعر بالله وبالحياة الأخرى وبالمملكة الروحانية بقلبنا، وتطمئن نفوسنا إذا آمنت، وتقلق وتضطرب إذا ألحدت. لقد ارتفع «برجسون» (الفيلسوف الفرنسي المعاصر) إلى أوج الشهرة في أعوامٍ قلائل؛ لأنه دافع عن الطبيعة الإنسانية وآمالها، فكم اغتبط الناس واطمأنوا إذ رأوا فيلسوفًا يصون لهم ما يرجون من خلود وما يعتقدون في إله. وقال وليم جيمس: «لقد بحثتُ في نفسي ولم أعلم ما هي وما شبهها، وأين تسكن وكيف تتغير، وكيف تكون مجبورة، وكيف تكون مختارة؛ وتتغير نظرياتي في ذلك من وقت إلى وقت، ولكن مع هذا أُومن بنفسي، وأومن أنها مركزٌ لكل ما أعرف عن العالم حولي»، كذلك الشأن في إدراك المبدأ والمنتهى والله والخلود، إنها عقيدة وإيمان لا قضايا منطق.
اعتبر الأديان كلها، مبعثها ومظهرها، تجدها تختلف باختلاف الأمم ورقيها وطبيعتها، وتتغلب على كل دين صفة من الصفات تكاد تكون كالمحور؛ كالتضحية، ومعنى الأبوة، والرحمة والغفران، وإطاعة الأوامر، والفن والجمال، وإنكار الذات، والإحسان إلى الجميع، والشفقة على الحيوان، والشجاعة، والجهاد في سبيل نشر الدعوة. وكل هذه االصفات على اختلافها من قبيل العواطف والمشاعر، ولم نرَ دينًا أتى بفلسفة عقلية، ولستَ تستطيع أن تُقنع المحب بالحجج العقلية حتى يسلو، ولا أن تُقنع من جمدت عواطفه حتى يُحب. إن عقله قد يقيم البرهان على خطأ الحب، وقد يمنعه من الزواج، ولكن لا يستطيع أن يمنعه من الحب، وهكذا الشأن في كل المشاعر، وهكذا الشأن في الدين. الدين في القلب لا في العقل، وإذا بُحث الدين بالعقل المجرد لم تكن النتيجة دينًا ولا فلسفة، وإنما شيءٌ تافه اسمه «علم الكلام».
وقد أراد أبو العلاء أن يضمَّ إلى إيمانه بقلبه إيمانه بعقله فلم يستطع، وكانت العقدة. ولو نام شعوره وانتبه عقله لألحد مستريحًا، ولو نام عقله وانتبه شعوره لآمن مستريحًا، ولو صحا عقله وشعوره ورسم حدوده، وعرف لكلِّ دائرة اختصاصه لاستراح أيضًا، ولكنه أراد أن يصل إلى ما ليس يمكنه العقل فلم يفلح، وقلق واضطرب كما يقلق ويضطرب كل من خرج على قوانين الطبيعة، وحاول الخروج على طبائع الأشياء؛ لأن الدين يغذي حاجة من حاجات النفس لا غنى لها عنه إذا مرضت. هذا هو السبب في أنه نقد المجتمع فنجح، ونقد الأخلاق فنجح، ونقد الأخبار فنجح، ونقد الدين في صميمه فلم ينجح.
يعجبني وصف بعضهم لهِجل وصفًا ينطبق على أبي العلاء انطباقًا تامًّا إذ قال: «إنه رجلٌ كفرَ عقله وآمن قلبه»، كما يصدُق عليه أيضًا قول جوته عن «فاوست»: «إنه عقلٌ طغى على القلب فأشقى صاحبه».
وأيًّا ما كان، فهذه الشخصية الفذة، الشخصية المؤمنة الكافرة، الشخصية القلقة الحائرة، أخرجت كلَّ ما كان يتناوبها من نبضات قلبٍ، وخطرات عقلٍ، في صورة فنية رائعة أمتعت الناس وإن أشقت صاحبها. فرحمه الله، ورحمه الله.