ابتسِمْ للحياة
حُدِّثت أن الشيخ محمد عبده والشيخ عبد الكريم سلمان كانا صديقين وفيين منذ صباهما، ألَّف بينهما قُرب الجوار في البلدة، وتساكنهما وتلازمهما أيام المجاورة في الأزهر، ثم تعاونهما بعدُ في معترك الحياة، وأن الشيخ عبد الكريم سلمان كان أذكى من الشيخ محمد عبده وأوفر استعدادًا، ولكن كان الشيخ محمد عبده متفائلًا وكان الشيخ عبد الكريم متشائمًا. كان الشيخ محمد عبده يرى أن الناس خيِّرون بطبعهم، وإنما أفسدتهم الظروف، فإذا أُصلحت صلحوا. وأن المصريين كغيرهم من الناس، إذا ساءت بعض أخلاقهم وبعض تصرفاتهم، فلهم العذر، لِما جنى عليهم أولو الأمر فيهم، فإذا دُعوا إلى الخير ومُهِّدت لهم السبلُ ورسمت لهم الطرق ورُبُّوا تربية صالحة، لَبُّوا الدعوة واستقام أمرهم، واتسع أمامهم طريق المجد والشرف، وعلى هذا الأساس بنى كلَّ حياته وكل أعماله. وكان الشيخ عبد الكريم متشائمًا يرى أن الناس في مصر فسدوا فسادًا لا يُرجى معه صلاح، والمصلح يحرق نفسه ثم لا يأتي بنتيجة، فخيرٌ أن يكتفي المصلح بنفسه، وليدع الناس وشأنهم حتى يأكلهم القدر.
أما الأول فأصبح — لتفاؤله — الشيخ محمد عبده المصلح العظيم الذي ترك في أمته الأثر الكبير؛ وأما الثاني فلم يعرفه إلا خاصته، ولم يستفد من ذكائه إلا أقرب الناس إليه، وكان شمعة مضيئة في غرفة خالية.
لا شيء يُضيع ملكات الشخص ومزاياه كتشاؤمه في الحياة، ولا شيء يبعث الأمل ويقرِّب من النجاح وينمي الملكات، ويبث على العمل النافع لصاحبه وللناس، كالابتسام للحياة، والطبيعة أدرى بذلك، فقد منحتنا القدرة على الضحك، والقدرة على الفرح والإعجاب بالنوادر اللطيفة والروح الفكهة، كما منحتنا الرغبة في الغذاء والقدرة على الهضم ونحوهما من وسائل الحياة، علمًا منها بأن العيش لا يصلح إلا بها، والسعادة لا تتمُّ بدونها، فأتى الإنسان من جهله يكبت هذه الموهبة ويلوِّنها باللون الأسود، فوقع في الهم والشقاء؛ لأن الطبيعة لا تمنح السعادة إلا لمن احترم قوانينها وسار على سننها.
إن الطبيعة علمت أن الدنيا لا تخلو من متاعب، وأن الإنسان سيلاقي في حياته بعض المصاعب، فسلحته بروح المرح وروح الفكاهة، وجعلت ذلك دواءً لدائه وبلسمًا لشفائه، فإذا هو فقده لأي سبب من الأسباب، فقد فقدَ علاج مرضه وعاش في بؤسه، فإن أنت رأيت فتًى أو فتاة أو شابًّا أو شابة عابس الوجه مقطب الجبين، يحمل الهموم ويبرم بالحياة، فاعلم أن هناك مجرمًا من رب أسرة أو مشرف على التعليم قد سلبه أسن ما في طبيعته، وأجمل ما في ملكاته.
ليس المبتسمون للحياة أسعد حالًا لأنفسهم فقط، بل هم كذلك أقدر على العمل، وأكثر احتمالًا للمسئولية، وأصلح لمواجهة الشدائد ومعالجة الصعاب، والإتيان بعظائم الأمور التي تنفعهم وتنفع الناس.
لو خُيِّرت بين مال كثير أو منصب خطير، وبين نفسٍ راضية باسمة، لاخترتَ الثانية، فما المال مع العبوس؟ وما المنصب مع انقباض النفس؟ وما كل ما في الحياة إذا كان صدر صاحبه ضيقًا حرجًا كأنه عائد من جنازة حبيب؟ وما جمال الزوجة إذا عبست وقلبت بيتها جحيمًا؟ لخيرٌ منها ألف مرة زوجة لم تبلغ مبلغها في الجمال وجعلت بيتها جنة.
ولا قيمة للبسمة الظاهرة إلا إذا كانت منبعثة عن نفس باسمة وتفكير باسم. وكل شيء في الطبيعة جميل باسم منسجم، وإنما يأتي العبوس مما يعتري طبيعة الإنسان من شذوذ؛ فالزهر باسم والغابات باسمة، والبحار والأنهار والسماء والنجوم والطيور كلها باسمة. وكان الإنسان بطبعه باسمًا لولا ما يُعرض له مِن طمع وشرٍّ وأنانية تجعله عابسًا. فكان بذلك نشازًا في نغمات الطبيعة المنسجمة، ومن أجل هذا لا يرى الجمال مَن عبست نفسه، ولا يرى الحقيقة من تدنس قلبه. فكل إنسان يرى الدنيا من خلال عمله وفكره وبواعثه، فإذا كان العملُ طيبًا والفكر نظيفًا والبواعث طاهرة كان منظاره الذي يرى به الدنيا نقيًّا، فرأى الدنيا جميلة كما خُلقت، وإلا تغبَّش منظاره واسودَّ زجاجه، فرأى كل شيء أسود مغبشًا.
هناك نفوسٌ تستطيع أن تخلق من كل شيء شقاءً، ونفوس تستطيع أن تخلق من كل شيء سعادة، هناك المرأة في البيت لا تقع عينها إلا على الخطأ؛ فاليوم أسود لأن طبقًا كُسر ولأن نوعًا من الطعام زاد الطاهي في ملحه؛ أو لأنها عثرت على قطعة من الورق في الحجرة، فتهيج وتسب ويتعدى السباب إلى كل من في البيت، وإذا هو شعلة من نار. وهناك رجل ينغص على نفسه وعلى من حوله مِن كلمةٍ يسمعها أو يؤوِّلها تأويلًا سيئًا، أو مِن عملٍ تافه حدث له أو حدث منه، أو من مال خسره أو من ربحٍ كان ينتظره فلم يحدث أو نحو ذلك، فإذا الدنيا كلها سوداء في نظره، ثم هو يسوِّدها على من حوله. هؤلاء عندهم قدرة المبالغة في الشر، فيجعلون من الحبة قبة ومن البذرة شجرة، وليس عندهم قدرة على الخير، فلا يفرحون بما أُوتوا ولو كثيرًا، ولا ينعمون بما نالوا ولو عظيمًا.
والحياة فن، وفن يُتعلم، ولخيرٌ للإنسان أن يَجد في وضع الأزهار والرياحين والحب في حياته من أن يجدَّ في تكديس المال في جيبه أو في مصرفه. ما الحياة إذا وُجِّهت كل الجهود فيها لجمع المال، ولم يوجَّه أيُّ جهد لترقية جانب الجمال والرحمة والحب فيها؟
أكثرُ الناس لا يفتحون أعينهم لمناهج الحياة، وإنما يفتحونها للدرهم والدينار، يمرون على الحديقة الغناء والأزهار الجميلة والماء المتدفق والطيور المغردة، فلا يأبهون لها، وإنما يأبهون لدينارٍ يأتي ودينار يخرج. قد كان الدينار وسيلة للعيشة السعيدة، فقلبوا الوضع وباعوا العيشة السعيدة من أجل الدينار، وقد رُكبت فينا العيون لنظر الجمال، فعوَّدناها ألَّا تنظر إلا إلى الدينار.
ليس يُعبس النفس والوجه كاليأس، فإن أردتَ الابتسام فحارب اليأس. إن الفرصة سانحة لك وللناس، والنجاح مفتوح بابه لك وللناس، فعوِّد عقلك تفتح الأمل وتوقع الخير في المستقبل. إذا اعتقدت أنك مخلوق للصغير من الأمور لم تبلغ في الحياة إلا الصغير. وإذا اعتقدت أنك مخلوق لعظائم الأمور شعرتَ بهمة تكسر الحدود والحواجز، وتنفذ منها إلى الساحة الفسيحة والغرض الأسمى. ومصداق ذلك حادثٌ في الحياة المادية، فمن دخل مسابقة مائة متر شعرَ بالتعب إذا هو قطعها، ومن دخل مسابقة أربعمائة متر لم يشعر بالتعب من المائة والمائتين؛ فالنفس تعطيك من الهمة بقدر ما تحدد من الغرض. حدد غرضك، وليكن ساميًا صعب المنال، ولكن لا عليك في ذلك ما دمتَ كل يوم تخطو إليه خطوًا جديدًا. إنما يصد النفس ويُعبسها ويجعلها في سجن مظلم اليأس وفقدان الأمل والعيشة السيئة برؤية الشرور، والبحث عن معايب الناس والتشدق بالحديث عن سيئات العالم لا غير.
وليس يوفَّقُ الإنسان في شيء كما يوفَّق إلى مُرَبٍّ ينمي ملكاته الطبيعية، ويعادل بينها ويوسع أفقه، ويعوِّده السماحة وسعة الصدر، ويعلمه أن خير غرض يسعى إليه أن يكون مصدرَ خير للناس بقدر ما يستطيع، وأن تكون نفسُه شمسًا مشعة للضوء والحب والخير، وأن يكون قلبُه مملوءًا عطفًا وبرًّا وإنسانية وحبًّا لإيصال الخير لكل من اتصل به.
النفس الباسمة ترى الصعاب فيلذها التغلب عليها، تنظرها فتبسم، وتعالجها فتبسم، وتتغلب عليها فتبسم، والنفس العابسة لا ترى صعابًا فتخلقها، وإذا رأتها أكبرتها واستصغرت همتها بجانبها، فهربت منها وقبعت في جحرها تسبُّ الدهر والزمان والمكان وتعللت بلو، وإذا، وإن. وما الدهر الذي يلعنه إلا مزاجه وتربيته، إنه يودُّ النجاح في الحياة ولا يريد أن يدفع ثمنه، إنه يرى في كل طريقٍ أسدًا رابضًا، إنه ينتظر حتى تمطر السماء ذهبًا أو تنشقَّ الأرض عن كنز.
إن الصعاب في الحياة أمورٌ نسبية، فكلُّ شيء صعب جدًّا عند النفس الصغيرة جدًّا، ولا صعوبة عظيمة عند النفس العظيمة. وبينما النفس العظيمة تزداد عظمة بمغالبة الصعاب، إذا بالنفوس الهزيلة تزداد سقمًا بالفرار منها، وإنما الصعاب كالكلب العقور إذا رآك خِفت منه وجريتَ نبحك وعدا وراءك، وإذا رآك تهزأ به ولا تعيره اهتمامًا وتبرق له عينك أفسح الطريق لك، وانكمش في جلده منك.
ثم لا شيء أَقْتَل للنفس مِن شعورها بضعتها وصغر شأنها وقلة قيمتها، وأنها لا يمكن أن يصدر عنها عمل عظيم، ولا ينتظر منها خير كبير. هذا الشعور بالضعة يُفقد الإنسان الثقة بنفسه والإيمانَ بقوتها، فإذا أقدم على عمل ارتاب في مقدرته وفي إمكان نجاحه وعالجه بفتورٍ ففشل فيه. الثقة بالنفس فضيلة كبرى عليها عماد النجاح في الحياة، وشتان بينها وبين الغرور الذي يُعَدُّ رذيلة، والفرق بينهما أن الغرور اعتماد النفس على الخيال وعلى الكبر الزائف، والثقة بالنفس اعتمادُها على مقدرتها على تحمل المسئولية، وعلى تقوية ملكاتها وتحسين استعدادها. ورجال الأديان مسئولون — إلى حد كبير — عن نشر الأفكار في تحقير النفس وذلتها، وخساستها وشرورها ومعاصيها، حتى ليبالغ بعضهم فينغِّص على الناس حياتهم، ويُفقدهم كل أمل في النجاح.
وبعد: فالشرق في حاجةٍ كبرى إلى كميات كبيرة من الابتسامات الصادقة الدالَّة على النفوس الراضية الآملة الطامحة.
سِرْ أَنَّى شئتَ في الشوارع واغْشَ المنتديات والمجتمعات، وتفرَّسْ في الوجوه، فقلَّما ترى إلا وجوهًا مستطيلة مقطبةَ الجبين، ورءوسًا أثقلها الهمُّ فخفضها، وعيونًا ساهمة قد فقدت بريقَ السرور ولمعان الحيوية.
استثنِ الضحكات العالية في مجالس اللهو وأماكن التنادُر، فهل ترى إلا العبوس وما يشبه العبوس، واستبعد البسمات المزيفة المتصنعة في المقابلات والمجاملات، وانفذ منها إلى أعماق النفوس، فهل ترى إلا انقباضًا وانكماشًا؟
ما السرُّ في هذا كله؟
سرُّه في تعاقب الظلم على الشعوب من زمنٍ قديم حتى سلبها حريتها، وهل تبسم النفس إلا للحرية، وهل تنقبض إلا من الاستبداد؟!
وسرُّه في الفقر الشامل لأكثر أفراد الشعب، فهم يحملون الهمَّ المضني، كيف يأكلون ويعيشون، وكيف يسدون حاجات أسرتهم ومَن تعلق في رقبتهم، والمنافذ ضيقة في وجوههم، وأكثر الثروة قد ضاعت من أيديهم.
وسرُّه في ضعف التربية التي لا تفتح النفسَ للحياة، وتكتفي بالعلم الجاف.
وسرُّه في النظم الاقتصادية التي لا تُقدم على الأعمال، ولا تفتح أبواب الرزق للشبان، ولا تستغل ما بقي من ثروات البلاد.
وسرُّه في أننا إلى الآن لم نتعلم فن الحياة، ولم نسمع به في برامج الدراسة، ولم نرَه لا في بيوتنا ولا مدارسنا ولا عند خطبائنا وكُتَّابنا.
وسرُّه أننا لم نستشعر الثقة بالنفس؛ فلا الفرد يثق بنفسه، ولا المواطن يثق بمواطنه، ولا رجال الإدارة والأعمال يثقون بمواطنيهم، ولا الناس يثقون بأولي الأمر فيهم.
وسرُّه أخيرًا أنَّا حُرمنا العزة القومية طويلًا، وكم تبعث العزة القومية من بسمات! فلنتغلب على هذه الصعوبات جميعًا، ولنبسم للحياة ولو تكلُّفًا ينقلب التكلف بعد حين تطبعًا.
ابسم للطفل في مهده، وللصانع في عمله، وابسم لأولادك وأنت تربيهم، وابسم للتاجر وأنت تعامله، وابسم للصعوبة تعترضك، وابسم إذا نجحت، وابسم إذا فشلت … وانثر البسمات يمينًا وشمالًا على طول الطريق؛ فإنك لن تعود للسير فيه.