القلب
خطر لي أن أكتب في القلب، فمددت يدي إلى «دائرة المعارف البريطانية» وطالعت فيها مادة القلب، فرأيت فيضًا من الكلام في القلب وشكله، وكيفية بنائه الفسيولوجي وأجزائه، ووظيفة كل جزء، وحالته في الجنين وتطوره، ومقارنة القلوب في الحيوانات المختلفة، ثم ما يعتريها من أمراض … إلخ. ثم قلت: لا يغنيني هذا شيئًا فيما أريد، فللأعضاء وظائف روحية غير الوظائف المادية؛ فإذا أردتَ البحث عن فصاحة اللسان أو ذكاء العقل أو طهارة القلب فلست واجدًا شيئًا من ذلك في كتب المادة — كتب وظائف الأعضاء — إنما تجدها في كتب المعاني والروحانيات؛ وهذه أيضًا قلَّما تُعنَى بتشريح العضو من ناحيته الروحية كما عنيت كتب الفسيولوجيا بتشريحه من الناحية المادية؛ لأن أمور الروح أعقد وأدق وأعسر.
وقد نالت بعض أعضاء الجسم حظًّا أوفى من غيرها في مجال الروح؛ فالشعر العربي — مثلًا — مملوء بالكبد في باب الحب والألم من الهجر والفراق وما إلى ذلك، كالذي يقول:
ولكن لم ينل شيء منها — من التقدير والشهرة والجريان على الألسنة وكثرة ما نُسب إليه في باب الدين والخلق والشعر والحب — ما نال القلب — ففي القرآن الكريم تردد القلبُ والفؤاد أكثر مما تردد العقلُ، ولا تكاد تقرأ مقطوعة صوفية أو أبياتًا غزلية إلا يطالعك القلب. وفي الأخلاق رُبطت الشجاعة والجبن بالقلب، فقالوا في الشجاع: ثبْتُ الجَنان، جميع الفؤاد، رابط الجأش، قوي القلب، وقالوا في الجبان: إنه مخلوع القلب، مهزوم الفؤاد. وباب الرحمة والقسوة يدور على القلب، فيقولون: منظرٌ تتوجع له القلوب، وينفطر له القلب رحمةً، وحالة تلين له القلوب القاسية، ويتصدَّع لها فؤاد الجلمود. وفي عكس ذلك يقولون: إن له قلبًا لا يعرف اللين ولا تَلِجُه رحمة، وإنَّ له قلبًا أقسى من الحديد وأصلب من الجلمود. ويقولون للرجل العظيم: كبير القلب، وللرجل النذل: صغير القلب … إلخ. ولو أنك شرَّحتَ القلب فسيولوجيًّا لم تجد فيه ما يدل على شجاعة وجبن، ولا على رقة وقسوة، بل قد تجد قلب الجبال أحيانًا أصح ماديًّا من قلب الشجاع؛ ذلك لأنهم يقصدون بقولهم ووصفهم القلب الروحي لا القلب المادي. فما هو هذا القلب الروحي؟
يصح أن نعرِّفه بأنه مركز العواطف — مِن حب وكره وإعجاب وازدراء وميل ونفور ورحمة وقسوة … إلخ. وبعبارة أخرى «هو مجتمع العلاقات»؛ فكما أنه — ماديًّا — مركز الشرايين التي توزِّع الدم على كل أجزاء الجسم، كذلك هو مركز الصلات بين الفرد وغيره، وكما أنه مركز للدم الفاسد ينصلح فيه، وللدم الصالح يوزعه، كذلك هو مركزٌ للعواطف المختلفة يوحِّدها — وهو أيضًا نقطة الاتصال بين العالمَين اللذين يعيش فيهما الإنسان: عالم المادة وعالم الروح، فهو الجسر الذي يعبر عليه أحدهما إلى الآخر. لك أن تسمي هذا شعرًا أو خيالًا، ولكنه هو الحقيقة — وعلى قدر هذه العلاقات — التي بين الإنسان والأشياء كميةً وكيفيةً والتي مركزها القلب — تكون قيمة الإنسان وقيمة حياته.
والغذاء الصالح لقلبنا هذا الروحي هو الحب، والحب الذي نقصده هو الحب بأوسع معانيه، حب الجمال الخِلْقي، والجمال الطبيعي، والجمال الفني، وحب المعاني من نبلٍ وسموٍّ، وأخوَّة وإنسانية، وشأنه في ذلك شأن الطفل يغذَّى الغذاءَ الصالح لجسمه فينمو ويحيا، والغذاءَ الفاسد فيضعف وقد يموت.
فالقلب الكبير في الشخص الكبير هو الذي غزُي بالحب حتى نضج، ومن أجل هذا كان القلب عمادَ الدَّين؛ لأن الدين ليس إلا حبًّا، وعمادَ الغزل، وهو الحب؛ وعماد الرحمة لأنها حب الضعيف، وعماد الوطنية؛ لأنها من حب الأمة، وعماد الإنسانية؛ لأنها حب الإنسان مجردًا عن جنسه ودمه وقوميته. وهناك قلوب تتغذَّى بجب المنصب والجاه والمال والشهرة، ولكنها كلها غذاء لا يوافق عناصر القلب. الأساسية، غذاء تنقصه الفيتامينات الضرورية، فقد يكبر بها القلب، ولكنها ضخامة ورمٍ، أو طبلٌ أجوف، أو تمثالٌ لقلب.
والقلب عضو الرغبة، الرغبة في الحياة ووسائلها، هو — دائمًا— ينادي: «أرغب» «أريد». ولكن القلوب تختلف قيمتها الروحية بحسب رغباتها؛ فقلبٌ كقلب الطفل يرغب أن تكون كل الدنيا له، علاقته علاقة المالك بما ملك. وقد يكبر الرجل جسمًا وتكبر مادةُ قلبه، ولكن لا تكبر روحانية هذا القلب، فيكون أنانيًّا، يريد أن يسخِّر كل شيء لنفسه، أو يستبد بكل شيء لشخصه، أو يوجَّه كل شيء لفائدته! ولكن إذا كبرت روحانية القلب تعددت خيوط علاقاته، وعرف ما تستوجبه كلُّ علاقة؛ علاقته بالأصدقاء، وبالبؤساء، وبالأمة، وبالإنسانية؛ فإذا قال قلبه: «أنا أريد»، فإنما يريد أن تكون هذه العلاقات المتعددة على أحسن وجهٍ يوحي به الحب.
إن القلب المادي يغذِّي ويتغذَّى، ويأخذ ويعطي، ويضحي لنفسه ولجسمه، وإذا فتر لحظةً فترت الحياة، وإذا سكن لحظة سكنت الحياة، وهو ينشر نفوذه، ويقدم خدماته للقريب من أجزاء الجسم والبعيد، للمعدة على قوَّتها، وللشعرة على ضعفها؛ فالقلب الروحي لا يصح حتى يكون كذلك، فإذا قال: أنا أرغب فإنما يرغب للعالَم ولنفسه، وهو شديد الاتصال بما حوله ومن حوله؛ اتصال انتفاع ونفع، واتصال استفادةٍ للإفادة، دائبٌ لا يملُّ، عاملٌ لا يفتر حتى تفتر الحياة، ينبض بالحياة كلها كما ينبض قلبه المادي بالجسم كله، يتناغم مع العالم حوله كما يتناغم قلبه المادي مع جسمه، من قدمه إلى فرْقِه، فإذا تمنَّى لنفسه فقط فالنزاع الأخير.
لقد ألَّف القلب المادي الجسمَ كله، ووحَّده بنبضاته، فليوحد القلبُ الروحي كلَّه في خلجاته وتموجاته؛ وقد مد القلبُ المادي شرايينه إلى الجسم كله، فإذا انسدَّ شريان مات عضو، فليس من المعقول ألَّا يكون للقلب الروحي إلا شريان واحد يجري فيه الدم لشخصه، للقلب الروحي عينٌ يُبصر بها؛ لأنه مركز الضوء في الحياة، يرى الجمالَ والقبح، والفضيلة والرذيلة، والخير والشر، وفي أعماقه مصباحٌ يضيء، ولكن لا بد أن يُتعهد بالزيت وبالشعلة تضيئه وإلا انطفأ. وللقلوب عمًى كعمى العيون، وصدق الله العظيم: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارَ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
الإنسان هو القلب، والقلب هو الإنسان، والحي حيُّ القلب، والميت ميت القلب. لا يعبأ القلب الروحي بالزمان والمكان كما تعبأ الأجسام؛ فالتحام الأجسام لا يكوِّن صداقةً، واقتراب الأبدان قد يكون مع العداء والخصام، ولكن قلبًا يتصل بقلبٍ يولِّد الصداقة مهما تباعد الزمان والمكان!!
وإنه على صِغره لَيَسع العالم على كبره، إنه ليسعُ السماء والأرض، والبر والبحر، ينبض بجمالها، ويتناغم بنغماتها، ويخفق لها، ويحيا بسكناها، وبمقدار سعته وضيقه يوزن الإنسان.
صدقت العرب إذ سمته قلبًا، واشتقَّت منه التقلِّب، فهو دائم التغير، يضيق ويتسع ويرقى ويسفُل ويموت ويحيا، ويشتت ثم يجتمع، ويلتئم بعد أن ينصدع، ويضيء ثم يُظلم، ويُظلم ثم يضيء، ويكون مرةً جنةً ومرةً نارًا، ومرةً أرضًا ومرةً سماءً.
يا للقلب!! إن الناس ليرحلون ليروا العجائب وبين جنوبهم قلوب هي أعجب العجب. فلو سُئلتُ عن أعجب شيء في السماء والأرض لقلتُ: القلب، ولو قيل للأنبياء: لا تذكروا القلب في تعاليمكم، وللشعراء لا تترنموا بالقلب في شعركم، وللفنانين لا تعرضوا للقلب في فنكم، وللموسيقيين لا تتناغموا مع القلب في موسيقاكم، لم يقولوا شيئًا ولم يفعلوا شيئًا!
ثم للأمة قلبٌ مشترك، وهو — كقلب الفرد — يقوى ويضعف، ويموت ويحيا، وينبض ويخمد، وينقلب من حال إلى حال؛ يحيا فتحيا الأمة، ويموت فتموت. هو قلبٌ موحَّدٌ من قلوب الحكومة والموظفين والعمال، وله شرايين تصل إلى كل فرد فتنبض بنبضه، وينبض بنبضها، وهو يتغذى بالحب؛ لأنه وحده هو الذي يُعلِّمه التضحية، ولا حياة لأمة بدون تضحية.
إن المحب الذي يُحبك لِتحبَّه تاجر، والذي يحبك لتكافئه مالي، وإنما المحب مَن يحبك لأنك أنت أنت. فإذا أحب قلبٌ الأمةَ ضحَّى وكَدَّ وعمل، ولم ينتظر ربحًا، فإذا الأمة تدبُّ فيها الحياة.
إن الحب في قلب الأمة رحمة للضعيف، وعطفٌ مِن الغني على الفقير، وتعليم للجاهل، وتعفف عن المال إلا بحقه، وذودٌ عن الوطن، وتقدير للكفاية، وإعلاءٌ لشأن العدل، ومقتٌ للظلم، وهو نبل الحاكم، وشرف الموظف، وجدُّ العامل، والغيرة من الجميع على سمعة البلاد.
إن أردت الحكم على أمة فاستمع لنبض قلبها.