الرحمة الكاذبة
ولكن«كونفوشيوس» الفيلسوف الكبير، الذي كان يعيش في الزمن نفسه، لم يوافق على هذا الرأي وكان يقول: «قابل الرحمةَ بالرحمة والقسوة بالعدل».
وجاء شرَّاح هذين المبدأين، فقالوا: إن كلًّا من الحكيمين نظر إلى المسألة من جانبه، وإن لوتس كان رجلًا شعبيًّا فوضع هذا المبدأ في الحقوق الشخصية، فإذا ظلمك أحدٌ في مالك ولم يدفع الدينَ الذي عليه، فرحمتَه وسامحتَه فذلك حقك، وإذا أساء إليك إنسان بكلمة قاسية أو عملٍ غير لائق فرحمته وعفوت عنه، فأنت وشأنك.
أما «كونفوشيوس» فكان حاكمًا، وكان واليًا على إقليم، فنظر إلى المسألة من جانب المصلحة العامة، ومن جانب خير المجتمع، فمن سَرق فرُحم، أو قتَل فرُحم، جرَّأت الرحمةُ الناسَ على السرقة فسرقوا، وعلى القتل فقتلوا، وفسدت الجمعية البشرية.
وعلى هذا المبدأ أنت حر في حقوقك الشخصية، تعفو أو تؤاخذ، وترحَم أو تعدِل، ولكن لست حرًّا في الحقوق العامة، فلا بد من العدل دون الرحمة.
وأحيانًا يمتزج الحقان، ويختلط الأمران، فإذا حاول لصٌّ أن ينشل ساعتك قبضتَ عليه، فالمالُ مالك والساعةُ ساعتك، ولكن ضرر السرقة ليس مقصورًا عليك، بل معاقبة السارق حقٌّ من حقوق الأمة؛ لأنه إذا لم يلقَ جزاءه جرَّأه ذلك العودة، وفى ذلك ضرر عام للمجموع.
ففي هذه الحالة وأمثالها يجب أن نسير على مبدأ كونفوشيوس، ونهدر الحق الشخصي، ولا نرعى إلا الحق العام، فنُبلغ عن السارق لينال عقوبته.
والحق أن مِن أكبر مصائبنا غلبةَ الرحمة علينا حيث تجب القسوة، والمعاملةَ بالشفقة حيث يجب العدل.
انظر إلى «مصلحتين» من مصالح الحكومة، رئيسُ إحداهما عادلٌ حازمٌ لا يرحم متهاونًا ولا يغفر لأحدٍ غلطة، ورئيسُ الأخرى لين رحيم لا يضرُّ أحدًا ولا يؤذي أحدًا ويتستر على الخطأ، فإن ظهر عفا عنه، فماذا تكون النتيجة؟
المصلحةُ الأولى منتظمة تجري الأمورُ فيها على أحسن ما يُرام، قد آذينا شخصًا أو شخصين أو ثلاثة بقطع أيام أو حتى بالفصل … ولكن كم من ألوف الناس انتفعوا بهذا النظام وبهذه العقوبة، فقُضيت مصالحهم واستقامت أمورهم؟ وكم من الموظفين في المصلحة اتعظوا بهذه العقوبة، فاحترسوا من الخطأ، وتجنبوا الزلل؟
والمصلحة الثانية فوضى بسبب رحمةِ شخصٍ أو شخصين، كثرَ فيها الإهمال وتعطلت مصالحِ الناس، وكانت النتيجة أن العقوبة لم تقع على الجاني، وإنما وقعت على أصحاب الأعمال الذين لم يجنوا أي جناية!
بالأمس ذهبتُ إلى مصلحةٍ لقضاء عمل، فرأيت الموظف المختص خالعًا طربوشه، مسندًا رأسه إلى يده، يكاد يداعب النعاسُ عينيه، فلما طلبت منه مسألتي تلكأ في الرد، ثم ردَّ بفتور، وتَخلَّص من العمل … وأحال على غيره ممن عملَ مثل عمله!
أيقال: إن مثل هذا يُرحم فتضيع مصالحُ الناس برحمته؟ … إن الإفراط في عقوبة مثل هذا أجدى على الأمة ألف مرة من الرحمة الكاذبة!
وفشوُّ هذا الخلُق في الأمة جعل المثلَ الأعلى عندها «هو الرجل الطيب»، والرجل الطيب في نظرها مَن لا يؤذي أحدًا … ومَن يغمض عينه عن مرتكب الجرائم، وعن الكسول، والمتهاون، ومن يرى السارقَ فيرحم، والمرتشيَ فيرحم، والمهملَ لعمله فيرحم. ولو عقلَ الناس لسموا هذا «الرجلَ الطيب» أكبرَ مجرم؛ لأنه أساء إلى آلاف الناس برحمة رجل واحد.
المعلم «الطيب» بهذا المعنى أسوأ معلم، والقاضي «الطيب» بهذا المعنى أسوأ قاضٍ، ورئيس المصلحة «الطيب» أسوأ رئيس، والوزير «الطيب» أسوأ وزير … لسنا نريد «الطيبين» ولكن نريد العادلين الحازمين!
فوضى «الرحمة» في الأمة جعلت الأم تخشى على ابنها من السفر، ولو كان في منفعته، وتولول إذا جُند، ولو كان التجنيد في خيره وخير أمته.
وفوضى الرحمة جعلت كلَّ موظفٍ يريد أن يكون في القاهرة بجانب أبيه وأمه.
وفوضى الرحمة أفقدتنا الشجاعة؛ لأن كل من حدثته نفسه بأعمال المغامرين، والاستماع إلى باعث الشجاعة، رأى حوله أُمًّا تئن وأبًا يَحنُّ … ودموعًا تَسِحُّ.
فطلَّق شجاعته، واستنام إلى الدعة في أحضانهم.
الناسُ في مصر يكرهون الحازمَ الشديد ويُحبون اللين الرحيم … ولو أنصفوا لبدَّلوا الحبَّ بالكره، والكرهَ بالحب، فإنما ينفعهم الحازم ويضرُّهم الليِّن … ينفعهم الحازم الذي يكافئ ويعاقب، وينفع ويضر، ويعرف متى ينفع ومتى يضرُّ، ويضرهم اللين الذي يريد أن يستخرج من الناس لقب «الطيب» وما هو بطيب!
ليس يعجبني مَن وصفهم الشاعر بقوله:
وإنما يعجبني وصف الآخر بقوله:
لقد تغلبت على الناس فكرةُ الخوف من «قطع العيش»، وقالوا: إن الرجل إذا أذنبَ فوراءه زوجةٌ وأولاد لم يُذنبوا. وهي حجةٌ واهية، ولو كانت صحيحة لرحمنا القاتلَ من أجل أسرته، والسارق من أجل أمه أو أبيه.
فالواجب أن يُقتص من الجاني أيًّا كان، وعلى جهات البر من الأمة أن تدبر عيش المساكين مِن أسر الجانين. أما الخوف من «قطع العيش» المجرم فنتيجته «قطع العيش» الأمة!