الرجل الثقيل
الرجل الثقيل: هو من كان وزيرًا أو مديرًا فحدَّد لمقابلة الناس موعدًا من الساعة الثانية عشرة إلى الواحدة في يومي السبت والخميس — مثلًا — ليسمع شكوى الناس ورجاءهم وظلاماتهم، ثم خصص ما عدا ذلك من الوقت للمصلحة العامة يدرس مسائلها ويصرف شؤونها، فإذا جاءه أحد مهما كان عظيمًا — باشا من الباشوات أو نائبًا من النواب أو شيخًا من الشيوخ — اعتذر عن عدم مقابلته لأنه لم يأتِ في الموعد المحدد مِن قبل أو لم يطلب موعدًا خاصًّا يقابله فيه، فهذا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل من رجوتَه في علاوة موظف أو ترقيته أو نقله من قنا إلى القاهرة، فدرس مسألتك ثم قال لك في صراحة: إنه لا يستطيع ذلك لأن قواعد العدل تأبى إجابة طلبك، فمن رجوتني فيه لا يستحق الترقية لأنه غير كفء، أو لا يستحق النقل من قنا إلى القاهرة لأنه لم يقضِ فيها المدة المعقولة — فهذا ثقيل أيضًا.
والرجل الثقيل من عهد إليه رئيسه درسَ مسألة أو كتابة تقرير عنها ولمَّح له برغباته، وأشار له بمقاصده، فذهب هذا المرءوس ودرس المسألة من جميع وجوهها ورأى الحق في غير ما لمح به الرئيس، فسمع لصوت ضميره لا لصوت رئيسه، وكتبَ التقرير بما يراه هو أنه الحق لا بما يراه رئيسه تحت ضغطٍ رجاءٍ أو رغبةٍ في منفعة شخصية، فهذا أيضًا ثقيل.
والرجل الثقيل من سمع محاضرةً أو خطبةً أو أهدى إليه مؤلفٌ كتابًا أو قصيدة، ثم سُئل عن رأيه في ذلك كله فقال رأيه الصريح في المحاضرة والخطبة والكتاب والقصيدة مِن غير محاباة ولا مجاملة ولا تحامل أيضًا، وذكر ما في ذلك مِن محاسن إن كانت هناك محاسن وما فيه من عيوب إن كانت هناك عيوب، ولم يجامل ولم يمجمج — فهذا أيضًا ثقيل.
والرجل الثقيل من اختير عضوًا في مجلس، فإذا عُرض أمر فحصه فحصًا دقيقًا قبل أن يبدي رأيه، ثم ذكره ولو خالف في رأيه كل الأعضاء، وإذا عُرضت عليه ترقيةٌ لموظف طلبَ أن تُعرض عليه كل الأشباه والنظائر ليقتنع باستحقاق من طُلبت ترقيته أو عدم استحقاقه، ويعارض في الأمر لأنه يراه خطأ، وهو بذلك يغضب جهة من الجهات المحترمة أو لم يهتم عند إبداء رأيه بالحزب القائم ولا بالحزب الذاهب، بل ينظر إلى المسألة نظرًا مجرَّدًا عن كل اعتبار إلا اعتبار الحق، ويعتبر نفسه في المجلس قاضيًا عادلًا يجب أن يتصف بكل صفات القضاة العدول من درسٍ وفحص وبناء رأي على «حيثيات» لا يراعي فيها إلا المسألة بذاتها من غير تحيز، فهذا أيضًا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل هو الذي يرى الرأي فيصلُب فيه ولا يتزحزح، يرجوه فلان الكبير أن يعدل عن رأيه فلا يقبل، ويرجوه رئيسه فلا يقبل، فإذا فشلت كلُّ أنواع الرجاء حاولوا ذلك بطريق الإغراء، فمنَّوْه بدرجة فلم يقبل، وبوظيفة أكبر من وظيفته فلم يقبل، وبتعيين ابنه في وظيفة لائقة فلم يقبل، فإذا لم ينفع الرجاء ولا الإغراء سلكوا معه طريق التهديد، فهُدد بالنقل إلى وظيفة أحقر. فقال: لا بأس، وقالوا: ننقلك إلى أقصى الصعيد. فقال: لا بأس، ونهملك فلا نُسند إليك عملًا. فقال: لا بأس، ونتهمك بأنك غير كفء وأنك لا تصلح لعمل، فقال: لا بأس. واستمر على عناده لا يعبأ برجاء ولا إغراء ولا تهديد، فهذا رجل ثقيل.
والرجل الثقيل رجل عالم في الاقتصاد أو السياسة أو الاجتماع، أدَّاه بحثه إلى نظريةٍ رأى صوابها وخالفه كلُّ من حوله من رجال فنه، فلم يعبأ بذلك وجاهر برأيه، فسلقه الناس بألسنةٍ حدادٍ وقالوا: هل أنت وحدك المحق وكل هؤلاء العلماء الكبار على باطل؟ فلم يعبأ بقولهم؛ أو سياسي رأى الاتجاه السياسي للأمة خطأً مع إجماع الساسة عليه، فجهر برأيه وتحمل النقد الشديد في صبر وحزم، وظلَّ يعلن عن رأيه بكل الوسائل المشروعة، أو أديب رأى الأدب العربي فيه ضعفٌ وفيه قوة، فعرض لذلك في صراحة وإن خالف الناس وإن اتهم بقلة ذوقه وعدم وفائه للغته وأدبه، أو اجتماعي رأى الأمة كلها تتردى في نقيصةٍ من النقائص الاجتماعية، فثار عليها وطالب بإصلاحها متحمسًا لا يأبه بنقدٍ ولا يكترث لمخالفٍ، فهذا رجل ثقيل أيضًا.
والثقلاء عندنا قليلون يُعدُّون على الأصابع، والكثرة العظمى ظرفاء يجاملون — ولو على حساب المصلحة العامة — ويقبلون الرجاء ويعدون بتنفيذه ولو كان مستحيلًا، ويوافقونك على رأيك ويوافقون غيرك على رأيه ولو تناقض الرأيان، ويُسمعونك الكلام الحلو العذب ولو أضمروا خلافه، ويفضلون ضياع الوقت في مقابلاتٍ على صرفه في إنجاز العمل وقضاء مصالح الناس، ويرعون في أحكامهم خاطر فلان وخاطر فلان ومصلحة فلان ومصلحتهم هم وكل شيء إلا الحق، ويجمِّلون ظاهرهم إلى أقصى حد ولا يُهمهم تجميل باطنهم إلى أي حد، ويعنون أشد العناية بالكلام الأنيق واللباقة في الحديث واللياقة في التصرف، ولا يُعنون أية عناية بالعدل في الكلام والعدل في العمل والعدل في التصرف.
فاللهم أكثِر من ثقلائنا وقلل من ظرفائنا.