كنَّاس الشارع!
هذا كناس الشارع بوجهه الذي علته طبقةٌ من جنس ما يكنس وثيابه الممزقة المتهدلة، وبيده مكنسته التي يثير بها الغبار على نفسه وعلى الناس، ويبرز من عبه نصف رغيف من الخبز الجاف أعده للأكل عندما يعضه الجوع.
وهذا مُلاحظُه ببذلته التي تشبه البذلة العسكرية، وبكبريائه التي تشبه كبرياء الضباط على الجنود، وكبرياء الجنود على الباعة الجوالين، وبيده عصا من خيزران خفيفة الحمل جيدة اللسع قد أهوى بها على الكناس لسببٍ لا أدريه، فتلقى الكناس ذلك بسكونٍ ظاهر وغيظ مكتوم.
وتدخَّل المارة في الشارع يرجون من المُلاحظ أن يكفَّ والكناس أن يحتمل، فكف الملاحظ، وسكت الكناس، وانتهت الرواية إلا في جوانب نفسي.
قلت: إن هذا النظر ليس وليد اليوم ولا أمس، ولكنه وليد قرونٍ وقرون من عهد أن كان مثل هذا الكناس يجر أحجار الأهرام ويرفعها، وعليه مثل هذا الملاحظ يلسعه بالعصا إذا تهاون في عمله أو استراح من كده، وقد تمثل في القرون الوسطى في الأيوبيين والمماليك يوم صوَّروا ما كانوا يلقون من عنت في الحكايات المنسوبة إلى ظلم قراقوش وأمثاله. وتمثل في العصور الحديثة بما كان يفعله المديرون الأتراك في المراكز والقرى، فهم يظلمون ويستبدون بالمأمورين، ويثأر هؤلاء المأمورون لأنفسهم من العُمَد، والعُمَد من مشايخ البلد، ومشايخ البلد من الأهالي. صورة واحدة ورواية واحدة تُمثَّل في أعلى طبقة، ثم يعاد تمثيلها طبقةً بعد طبقة إلى أن تصل إلى مثل هذا الملاحظ وهذا الكناس، وتمثلت ما كان يقصُّه عليَّ والدي — رحمة الله عليه — من ظلم إسماعيل باشا المفتش وخليل أغا ومن يُسمى داود باشا، وكيف كانوا يجمعون المال من أي سبيل، وكيف كانوا يعذبون الأهالي، وكيف هرب أبوه من بلدته إلى مصر تاركًا أطيانه لعجزه عن دفع ما يُطلب منه.
تمثلت ذلك كله في العصوات التي أكلها الكناس على الريق قبل أن يأكل نصف رغيفه. لا. لا إن نظام الطبقات واستبداد الطبقة العليا بالسفلى نظام لم يعد صالحًا لهذا الزمان.
فالناس سواءٌ في الحقوق والواجبات، فحقوق كناس الشارع وواجباته كحقوق رئيس الوزارة وواجباته، فإذا كان من حقوق رئيس الحكومة ألَّا يُضرب وألَّا يعتدي عليه، وألَّا يعاقب إلا إذا أجرم وإلا إذا ثبتت إدانته، فكذلك كناس الشارع.
إنا إذا قبلنا على مضض هذه الفوارق الشاسعة في الغِنى والفقر والمائدة الفخمة الدسمة الشهية المختلفة الألوان والطعوم، والكسرة الجافة في عب الكناس، فلسنا نقبل هذه الإهانة للكرامة الإنسانية وتمريغها في التراب.
إن نظرية الطبقات قد اعتنقها الناس حينًا واستمتعت بها الأقلية وشقيت بها الأغلبية حينًا، وسمن عليها النبلاء والأغنياء وذوو البيوتات الرفيعة حتى ورجال الدين، فأشرفوا على سواد الناس من طيارة، واستغلوا جهودهم لصالحهم، ونظروا إليهم في احتقار وازدراء، واحتكروا الوظائف الرفيعة لهم والمدارس لتعليم أبنائهم، والأماكن الجميلة لمتعة أنفسهم. ولكن طواحين العالم التي تطحن دائمًا، وتطحن ناعمًا قد طحنت هذه النظريات وخلاف الطبقات فيما طحنت، فجعلت الوظائف حق الأكفاء، والمدارس حق الجميع، والكرامة الإنسانية حق كل إنسان. فما بال هذا الملاحظ يضرب هذا الكناس؟!
لسنا نريد طبقاتٍ وإنما نريد ابن الباشا يجلس في الفصل في المدرسة بجانب ابن الكناس يتعلمان معًا، ويرعاهما المدرس على السواء معًا، ويؤنب ابن الباشا على ما أخطأ ويشجع ابن الكناس على ما أجاد، ويهذبهما معًا، ويعلمهما أن لهما الحقوق المتساوية في كل ما يتصل بالكرامة الإنسانية. وكل ما نطلب أن تتدبر الدولة في تنظيف أبناء الفقراء، فليس من حق ابن الغنيِّ أن يشمئز من وضاعة ملابس ابن الفقير، ولكن له الحق أن يشمئز من قذارتها، فلتنظر الدولة كيف تنظفه.
لقد مر زمان على الشعوب الأوربية كانت تُعنى فيه بمدارس للخاصة من أبناء الذوات والأعيان، فإذا أتموا دراستهم خطب فيهم خطباؤهم أنهم أعدوهم؛ ليكونوا أسياد الجماهير وقادة الجماهير. ثم أخذ هذا في التلاشي بفضل الديمقراطية الصحيحة، وانقلب الوضع، وصرخ الناس: لسنا نريد قوادًا للجماهير، ولكن نريد خدامًا للجماهير.
لسنا نريد مدير إدارة يتربع على كرسيه الفخم أمام مكتبه الفخم، يشعل سيجاره الفخم ليتكلم من طرف لسانه ويشمخ بأرنبة أنفه على الموظفين عنده ليلعبوا هم مثل دوره على الفلاحين وأصحاب الأعمال.
ولكنَّا نريد موظفًا صغيرًا يخدم الجماهير وأرباب العمل، وموظفًا كبيرًا يخدم الموظف الصغير في إرشاده وتوجيهه كيف يخدم ذوي الحاجات، فليس بيننا قائد ومقود آمر ومؤتمِر، ومن هو فوق القانون ومن هو تحت القانون، إنما بيننا خادم كبير وخادمٌ صغير، والكبرُ والصغر ليسا إلا تابعين لنوع الخدمة.
وعلى هذا الأساس فكناس الشارع يؤدي خدمةً للأمة كالموظف على مكتبه، ومدير الإدارة في مصلحته، وكلٌّ له الحق في أن يعيش، وأن يعيش مكرَّمًا ممن فوقه ومكرِمًا لمن تحته.
فما بال هذا الملاحظ يضرِب هذا الكناس؟!
إن العظيم ليس الحاكم بأمره، ولا المترفع عن شعبه، ولا الذي هو فوق القانون وفوق العقوبة، ولا الذي يأمر فأمره حكم وطاعته غنم، ولكن هو الذي يعرف الجماهير، ويعرف نفوسَهم ومشاكلهم وأسباب انحطاطهم ووسائل رقيِّهم ثم يعرف كيف يخدمهم.
وليس العظيم مَن يميت إرادة الأمة بقوة إرادته، وتفكيرها بإملاء تفكيره عليها، ومشاعرها بفرض مشاعره.
إنما العظيم من يحيي إرادة الأمة بجانب إرادته، وعقلها بجانب عقله، ومشاعرها بجانب مشاعره، ثم يتفاعل معها خادمًا ومخدومًا وآخذًا ومعطيًا ومفيدًا ومستفيدًا.
ولخيرٌ للأمة أن تفعل ما تريد — ولو أخطأت — مع احتفاظها بعقلها وإرادتها من أن تفعل الصواب إذا سُلبت حريتها وإرادتها.
إن الدرس الصحيح الذي يجب أن يتعلمه كل فرد في الأمة - من الطفل في المدرسة إلى الموظف في المصلحة، إلى الفلاح في الحقل، إلى العامل، في المصنع إلى الوزير في الوزارة، إلى رئيس الوزراء في الدولة — هو أن يكون الإنسان نافعًا للحياة، خادمًا بما يستطيع للأمة، محترِمًا لأخيه الإنسان. فلا وضيع ولا شريف، ولا رفيع ولا حقير، وأن يعتقد ويعمل على أن كل الناس سواء في حقوق الإنسانية.
فما بال هذا الملاحظ يضرب هذا الكناس؟!
لن تفلح أمةٌ حتى يتغلغل في أعماق نفسها أن هذا الكناس وأكبر رئيسٍ سواء في الحقوق والواجبات.