الحظُّ …!
من قديمٍ والناس يتجادلون: هل في الدنيا شيء اسمه الحظ؟ أو هو مجرد وهم وخرافة؟ وقد كنت قرأت قصة لطيفة في ذلك، وهي أن ملكًا ووزيرًا تجادلا مرة في هذا:
فأما الملك فقال: ليس في الدنيا حظ إنما هو سببٌ ومسببٌ وعملٌ ونتيجة.
فالتاجر إذا نجح فبجده وبمعرفته قوانين الاقتصاد، وإذا خاب فبكسله أو إسرافه أو جهله بأصول التجارة. والفلاح إذا نجح؛ فلأنه جرى على أصول الزراعة، حرث الأرض جيدًا وبذر فيها بذورًا نقيةً وسقاها في مواعيدها ونقاها مما يعلَق بها، وجارُه إذا خابت زراعته؛ فلأنه لم يتبع هذه القوانين.
قال الوزير: ولكن قد نرى تاجرين أحدهما متعلم على آخر نمط وصل إليه العلم الحديث؛ درس الجغرافيا وعلم محاصيل البلاد ومنتجاتها، ودرس علم الاقتصاد وعرف قانون العرض والطلب، ومتى يرتفع السعر ومتى ينخفض، ومع ذلك نراه تاجرًا خائبًا، وزميله الذي لم يتعلم ويكاد يكون أميًّا تاجرٌ ناجحٌ قد ربى ثروة كبيرة. وعندنا في مملكتنا أمثلة كثيرة لآباء جهلة كانوا ناجحين في تجارتهم، وخلفوا أبناء علَّموهم على آخر طراز، فلما تولوا تجارة آبائهم خابوا وأضاعوا ثروتهم.
أليس هذا أيها الملك الجليل هو الحظ؟
وما زال الوزير يعترض والملك يجيب حتى تضايق الملك فقال: إن لم تأتني بدليل قاطع على وجود الحظ عزلتُك.
وساعد الحظ الوزير، فلما أظلم الليل أمر أن يُقبض على أول اثنين يسيران في الشارع، فأُتي بالرجلين فحبسهما الوزير في حجرة مظلمة. فأما أحدهما فكان نشيطًا شجاعًا، وأما الآخر فكان كسولًا جبانًا، قعد الكسول في ركن من أركان الحجرة يبكي مما أصابه، وأخذ النشيط الشجاع يتحسس الحجرة لعله يجد فيها ما يأكله، فوقعت يده على كيس أدخل فيه يده فوجده حبًّا ذاقه فوجده حمصًا، فأخذ يأكل، ومن حين لآخر تصطدم أضراسه بحصاة يُخرجها فيرمي بها صاحبَه اللابدَ في الركن استهزاءً به واستخفافًا، فلما أصبح الصباح وأشرق النور تبين أن الحجارة التي في حِجر الكسلان الجبان قطع من أفخر الماس، وتكشفت الحال عن نشيطٍ شجاعٍ أكل حمصًا، وكسلان جبان نال ماسًّا.
فذهب الوزير إلى الملك يقص عليه أكبر برهان على وجود الحظ في الدنيا.
فقال الملك: آمنت أن في الدنيا حظًّا بمقدار ما يوجد الماس في حمص.
وفي الحق أن الدنيا حظًّا، وأنه أكثر قدرًا من الماس في حمص، فهذه تُرزق الجمال، وهذه ترزق القبح، وهذا يرزق الذكاء، وهذا يرزق الغباء.
وأجلس في «المترو» في المقعد الضيق فأُرزق بالرجل السمين الذي يحتاج إلى «مترو» وحده، ويركب الناس القطارات فتوزع الأرزاق أشكالًا وألوانًا، هذا محظوظٌ في مكانه وهذا منحوس في جيرانه.
ويشتري مائة ألفٍ أوراق يانصيب، فيربح أقل الناس استحقاقًا، ويخسر أكثرهم استحقاقًا.
ويسلم شخص على آخر فيسلمه ميكروبًا ينغص عليه حياته أيامًا، ويتحدث شخصٌ إلى آخر، فينجلي الحديث عن شيء يكون سببًا لسعادته في الحياة.
والطائرة تطير حتى إذا وصلت إلى مكانٍ ما تعطَّل محركها فسقطت على فلاح يجر جاموسته فقتلته وقتلت جاموسته، وفي الأرض ملايين الفلاحين يسحبون ملايين الجواميس، ولكن هذا الفلاح بالذات وهذه الجاموسة بالذات هما اللذان يدركهما سوء الحظ، وقد تكون الطائرة في الأصل غير مصوَّبة إلى رأس الفلاح ولكنه يجري ليتقيها فيقع تحتها.
وهكذا كل يومٍ آلاف وآلاف من الحوادث تجري ليس لها تعليل إلا الحظ.
أنا مع الوزير ومع الملك في وجهة نظرهما؛ مع الوزير في أن في الدنيا حظًّا وفي الدنيا أمورًا لا يفسرها قانون السببية، ومع الملك في أن الحظ لا يصلح أن يُعتمد عليه في الحياة، فلا يصح للفلاح أن يعتمد في زراعته على الحظ، وكذلك التاجر في تجارته، والطالب في دراسته، والصانع في صناعته، والأمة في مصيرها أو في تسيير شؤونها.
لكل إنسان دائرتان في الحياة: دائرة العمل وهذه ينبغي أن يَعتمد فيها على قانون السبب والمسبب، والارتكان فيها على الحظ أو البخت أو القدَر أو نحو ذلك من الأسماء خطأ أي خطأ، فإذا بذل الإنسان أقصى جهده في عمله، فهناك الدائرة الأخرى التي ليست في يدنا، وإنما هي في يد القدر أو الحظ، ولتكن ما تكون بعد أن يكون الإنسان قد أرضى ضميره ببذل ما في وسعه.