زعماء الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث: السيد عبد الرحمن الكواكبي
١
من بيت في «حلب» يعتز بنسبه وحسبه وعلمه وجاهه وماله؛ فأسرة الكواكبي كانت فيها نقابة الأشراف في حلب، ولها مدرسة تسمى المدرسة الكواكبية، وأبوه أحد المدرسين في الجامع الأموي بحلب والمدرسة الكواكبية فيها.
تعاون على تربيته بيتُه وما في تقاليده من عزة وإباء وشمم وأنفة من الصغائر، وخالة له تعهدته بعد وفاة والدته وهو صغير، وكانت من نوادر النساء في الشرق، عُرِفَت بالأدب والكياسة وكبر العقل. وقبل ذلك، فطرته التي فُطِرَ عليها من ميل إلى الحق، وحب الخير والاستجابة للتربية الصالحة.
كل هذا جعل منه رجلًا يستعصي على ناقد الأخلاق نقده. مؤدَّب اللسان حتى لا تؤخذ عليه هفوة، يزن الكلمة قبل أن ينطق بها وزنًا دقيقًا، حتى لو ألقي عليه السلام لفكر في الإجابة؟ متزن في حديثه، إذا قاطعه أحد سكت وانتظر حتى يتم حديثه، ثم يصل ما انقطع من كلامه، فيؤدب بذلك محدثه، نزيه النفس لا يخدعها مطمع ولا يغريها منصب، شجاع فيما يقول ويفعل، مهما جرَّت عليه شجاعته من سجن وضياع مال وتشريد، وهو — مع أنفته وعزته وصلفه على الكبراء — متواضع للبائسين والفقراء، يقف دائمًا بجانب الضعفاء، يشع على من يجالسه الاتزان والتفكير الهادئ، وحب الحق ونصرة المبدأ، والتضحية للفضيلة.
تعلَّم كما كان يتعلَّم ناشئة زمانه الدينيون، لغة عربية ودين في مدرسة أسرته بحلب — «المدرسة الكواكبية» — وكانت مدرسة تسير على الطريقة الأزهرية فيما يُقرأ من كتب، وما يتبع من منهج، ولكنه أكمل نفسه بقراءته بعض العلوم الرياضية والطبيعية، وأحضر له والده مَنْ عَلَّمَهُ الفارسية والتركية، وطالع بنفسه كثيرًا من الكتب التاريخية، وعُني بدراسة قوانين الدولة العثمانية.
فلما أتم دراسته انغمس في الحياة العملية، وتنوَّعت أعماله، وتباينت اتجاهاته: فمن محرر لجرية رسمية، إلى رئيس كتاب المحكمة الشرعية، إلى قاضٍ شرعي في بلدة من البلاد السورية، إلى رئيس البلدية. ثم هو بين الحين والحين يعتزل الوظائف الحكومية فينشئ لنفسه جريدة في «حلب» اسمها الشهباء، أو يشتغل بالأعمال التجارية، أو يقوم بمشروعات عمرانية، ومن كل ذلك يستفيد خبرة وتجربة بالحياة. وفي كل الأعمال الحكومية والحرة يصطدم بنظام الدولة، وباستبداد الحكام وفساد رجال الإدارة، فينازلهم وينازلونه، ويحاربهم ويحاربونه، وينتصر عليهم حينًا، وينتصرون عليه حينًا، وسلاحه دائمًا النزاهة والعدل والاستقامة، وسلاحهم دائمًا الدسائس والاتهام بخروجه على النظام، ودعوته للشغب، وما شاكل ذلك مما هو من عادة الظالمين. وكانت البلاد التي يعيش فيها موبوءة بحكم «عبد الحميد» لا يستطيع أن يعيش فيها حر صريح، ولا ينجح فيها تاجر نزيه، ولا موظف جريء مستقيم، وهذا النوع من الحكم عدو كلِّ كفاية، وقاتل كل نبوغ!!
ارتفع شأنه في بلده، فكان يقصده أصحاب الحاجات لقضائها، والمشاكل لحلها، ورجال الحكومة أنفسهم يستشيرونه فيما غمض عليهم ويعتمدون على رأيه، وهو في كل هذا جريء فيما يقول؛ لا يُقِرُّ ظالمًا على ظلمه، ولا يسالم جائرًا لمنصبه أو جاهه. من أجل هذا غاضَب «عارف باشا» والي «حلب»، وأخذ يعدد عليه سيئاته وينقم عليه تصرفاته، ويحرِّض الناس على رفع صوتهم معه بالشكوى منه لرؤسائه في الأستانة. فانتقم «عارف باشا» لنفسه، فزوَّر على «الكواكبي» أوراقًا، واتهمه بأنه يسعى لتسليم «حلب» لدولة أجنبية، وحبسه وطلب محاكمته؛ فبذل الكواكبي ورجاله جهدًا كبيرًا ليحاكَم في ولاية غير ولاية «حلب»؛ وحوكم في بيروت فحُكم ببراءته، وظهرت خيانة الوالي ومكايده فعُزل.
وكان من أعداء «الكواكبي» أيضًا «أبو الهدى الصيادي»، الذي سبق وصفه في ترجمة «عبد الله نديم»، لأن «الكواكبي» أبى الاعتراف بصحة نسبه، ولاعتداء «أبي الهدى» على بيتهم بأخذ نقابة الأشراف لنفسه منهم، فكان «أبو الهدى» أيضًا يدس له، ويغري ولاة الأمر به.
فكان من نتيجة محاكمته على التهمة التي اتهمه بها «عارف باشا»، ومن معاكسة «أبي الهدى» وأعوانه له حتى في تجارته، أن خسر ألوف الجنيهات من ماله، فاحتمل ذلك بنفس قوية لا تجزع ولا تتحول.
وأنصع صفحة في تاريخ حياته قوة شعوره بفساد حال المسلمين، وتخصيص جزء كبير من حياته في تعرف أحوالهم في جميع أقطار الأرض، وتشخيص أمراضهم وتلمُّس العلاج لهم، فعكف على مطالعة تاريخهم في ماضيهم وحاضرهم، وما كتبه الكتَّاب المحدَثون في ذلك في الكتب والمجلات والجرائد، ودرس أحوال المسلمين في المملكة العثمانية. ثم رحل إلى كثير من بلاد المسلمين، فساح في سواحل إفريقية الشرقية، وسواحل آسيا الغربية، ودخل بلاد العرب وجال فيها، واجتمع برؤساء قبائلها، ونزل بالهند وعرف حالها. وفي كل بلد ينزلها يدرس حالتها الاجتماعية والاقتصادية، وحالتها الزراعية، ونوع تربتها وما فيها من معادن ونحو ذلك، دراسة دقيقة عميقة. ونزل مصر وأقام بها، وكان في نيته رحلة أخرى إلى بلاد المغرب يتم فيها دراسته، ولكنه عاجلته منيته.
أخرج نتيجة دراسته في مقالات كُتبت في المجلات والجرائد، ثم جُمعت في كتابين: اسم أحدهما «طبائع الاستبداد»، والآخر «أم القرى»: الأول في نقد الحكومات الإسلامية، والثاني في نقد الشعوب الإسلامية غالبًا.
لقد كان الحديث في مثل هذه الموضوعات التي مسها «الكواكبي» في «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» من الموضوعات المحرمة، لأنها تمس نظام الحكم من قريب، وتُفهم الشعوب حقوقهم وواجباتهم، وتقفهم على مناحي الظلم والعدل، وتهيئهم للمطالبة بالحقوق إذا سُلبت، والقيام بالواجبات إذا أُهملت، وهذا أبغض شيء لدى الحاكم المستبد. لذلك رأينا الشرق من بعد ابن خلدون أغلق هذا الباب، ولم يفتحه أي باحث بعده، وصار كتاب ابن خلدون مقدمة بلا نتيجة. والعلوم التي حوفظ عليها واستمرت دراستها، هي علم النحو والصرف واللغة والفقه؛ لأنها لا تمس الحاكم من قريب ولا بعيد، ولا تُفهم الناس أين هم من حاكمهم وأين حاكمهم منهم. والأدب مدَّاح للملوك والحكام، يجعل ظلمهم عدلًا وفسادهم صلاحًا، فإذا أعطاهم الحاكم قليلًا مما سلبه منهم هلَّلوا وكبروا، وعجبوا من هذا الكرم الحاتمي، والسخاء الذي لا نظير له، وإذا تبسم بسمة أشرقت الشمس، وإذا عبس عبسة اكفَهَرَّ الجو! وهكذا. كان الحاكم هو كل شيء في الأمة، حتى المؤرخون لا يؤرخون إلا شخصه في حياته وأعماله وحروبه وزوجاته وأولاده. أما الشعب فلا شيء، إلا أن يكون مزرعة للحكام، وأحب علم إلى الحكام وأدعاهم لنصرته هو ما لا يتصل بالحكم ونظامه، ورجال الدين المقربون هم الذين يستطيعون أن يولِّدوا المعاني من مثل «السلطان ظِل الله في أرضه» و«من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصاه فقد عصاني». أما علم الاجتماع فلم يعرفه الشرق بعد ابن خلدون بتاتًا.
كان هذا في الشرق، على حين أن الغربيين بدءوا بعد ابن خلدون يبحثون في المجتمعات بحثًا واسعًا، يتعرفون علل الجماعات وأمراضها، وأنواع الحكومات ومزايا كل شكل وعيوبه، ويتحررون من القيود، ولا يعبئون بالتضحيات في سبيل الحريات، ويبني لاحقهم على ما وصل إليه سابقهم.
وبلغ الضيق في الشرق منتهاه في عهد السلطان عبد الحميد، ولكن شدة الضغط تولِّد الانفجار، والقسوة تعلِّم الحيلة، وتوالي الاضطهاد يولِّد البغضاء، فكثرت في هذا العهد الجمعيات السرية تعمل لتحرير البلاد العثمانية من الظلم، وتعمل لوضع نظام ديمقراطي لا يكون فيه السلطان الحاكم بأمره، وفرَّ كثير من العثمانيين إلى أوربا يدرسون نظام الحكم الأوربي وما وصلت إليه أوربا من البحوث الاجتماعية، وأخذوا يكتبون في ذلك في جرائدهم ومجلاتهم التي يحررونها خارج الحدود العثمانية، ومنها تتسرب إلى البلاد نفسها. وأخذت مصر بعد انفصالها من حكم العثمانيين تؤوي الأحرار، وتؤيد القول في نقد نظام الحكم، وظهرت في الجرائد والمجلات مقالات بالعربية في تشريح أحوال الجماعات وأصول الحكومات وتُرجم إلى العربية «أصول النواميس والشرائع» لمونتسكيو. وبدأت موجات البحث الاجتماعي في أوربا تصل إلى الشرق عن طريق الترجمة وطريق المثقفين في أوربا.
في هذا الوسط طلع الكواكبي، وكان ظهوره بكتابيه جرأة كبيرة. لقد استفاد مما نُقل عن الغرب، ولم يكن يعرف لغةً أوربية، إنما يعرف العربية والتركية والفارسية؛ فاستفاد مما نُقل إليها، ومما كان يُترجم له في هذا الباب خاصة. وقد ظهر أثر هذا الاقتباس في كتابه «طبائع الاستبداد». أما كتابه «أم القرى» فبحثٌ مبتكر، وهو يدل على كبر عقله وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي.
أما كتاب «طبائع الاستبداد»، فقد نشره — أولًا — مقالاتٍ في بعض الصحف عندما كان في مصر سنة (١٣١٨ﻫ)، ثم جمعها في كتاب وقال في أوله: «إني نشرتُ في بعض الصحف أبحاثًا علمية سياسية في طبائع الاستبداد ومَصارع الاستعباد، منها ما درسته، ومنها ما اقتبسته غير قاصدٍ بها ظالمًا بعينه، ولا حكومة مخصَّصة، إنما أردت بذلك تنبيه الغافلين لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الشرقيون أنهم المتسببون لما هم فيه، فلا يعتبون على الأغيار، ولا على الأقدار … ثم أضفت إليها بعض زيادات، وحولتها إلى هيئة الكتاب».
٢
وكتاب «طبائع الاستبداد» يدور حول تعريف الاستبداد بأنه «صفة للحكومة المطلَقة العنان، التي تتصرف في شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب». ويأتي هذا من كون الحكومة مطلقة التصرف لا يقيدها قانون ولا إرادة أمة، أو أنها مقيدة بنوع مِن ذلك، ولكنها تملك بنفوذها إبطال هذه القيود والسير على ما تهوى. والحكومات ميالة بطبعها إلى الاستبداد، لا يصدها عنه إلا وضعها تحت المراقبة الشديدة ومحاسبتها محاسبةً لا تَسامُحَ فيها، وإلا قوة الرأي وعظمة سلطانه.
والمستبد يتحكم في شئون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلَمُ من نفسه أنه الغاصب المعتدي، فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس، يسدها عن النطق بالحق ومطالبتها به.
والمستبدُّ عدوُّ الحق، وعدو الحرية وقاتلها.
والمستبد يود أن تكون رعيته بقرًا تُحلب، وكلابًا تتذلل وتتملق، وعلى الرعية أن تدرك ذلك فتعرف مقامها منه: هل خُلقت خادمة له، أو هي جاءت به ليخدمها فاستخدمها؟ والرعية العاقلة مستعدة لأن تقف في وجه الظالم المستبد، تقول له: لا أريد الشر، ثم هي مستعدة لأن تُتبع القول بالعمل؛ فإن الظالم إذا رأى المظلوم يحمل سيفًا لم يجرؤ على ظلمه.
وقد بحث بحثًا مستفيضًا في علاقة الاستبداد بالدين، ونقل عن الفرنج رأيهم في أن الاستبداد في السياسة متولَّد من الاستبداد في الدين أو مساير له. فكثير من الأديان تبث في نفوس الناس الخشية من قوة عظيمة لا تدرك كنهها العقول، وتهددهم بالعذاب بعد الممات تهديدًا ترتعد منه الفرائص، ثم تفتح بابًا للخلاص والنجاة بالالتجاء إلى الأحبار والقسس والمشايخ، بالذلة لهم، والاعتراف أمامهم، وطلب الغفران منهم. والمستبدون السياسيون يتبعون هذه الطريقة، فيسترهبون الناس بالتعالي والتعاظم، ويذلونهم بالقهر والقوة وسلب الأموال، حتى لا يجدوا ملجأ إلا التزلف لهم وتملقهم! وعوام الناس يختلط عليهم في أذهانهم الإله المعبود والمستبدون من الحكام، فيتشابه عندهم استحقاق التعظيم، وتنزههم عن سؤالهم عما يفعلون، ولا يرون لهم حقًّا في مراقبتهم على أعمالهم، كما أنه ليس لهم حق في مراقبة الله فيما يفعل!! ولهذا خلعوا على المستبد صفات الله كوليِّ النعم، والعظيم الشأن، والجليل القدر، وما إلى ذلك! وما من مستبدٍّ سياسيٍّ إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك فيها الله أو تربطه برباط مع الله ولا أقل من أن يتخذ بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس باسم الله!!
ولقد رأى «الكواكبي» أن الإسلام في جوهره الأصلي لا ينطبق عليه هذا القول، فهو مبني على قواعد الحرية السياسية متوسطة بين الديمقراطية والأرستقراطية، فهو مؤسَّس على أصول ديمقراطية (أي: المراعاة التامة للمصلحة العامة)، وعلى شورى أرستقراطية، أي: شورى الخواص، وهم أهل الحل والعقد.
فالقرآن مملوء بتعاليم تقضي بإماتة الاستبداد، والتمسك بالعدل، والخضوع لنظام الشورى مِن مثل:وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ حتى في القصص مِن مثل: مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ. ومظهر هذا كان في أيام النبي ﷺ والخلفاء الراشدين. ثم لا يَعرف الإسلامُ سلطة دينية، ولا اعترافًا، ولا بيع غفران، ولا منزلةً خاصة لرجال الدين، ولكن دخل عليه من الفساد ما دخل على كل دين، فتفرقت كلمة المسلمين وانقسموا شيعًا، وتحوَّل الحكم من نظام شوريٍّ إلى استبدادي، فصغرت نفوس الناس وخَفَتَ صوتهم، وأضاعوا مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو المبدأ الذي به يراقَب أولو الأمر في الأمة، فصار أمر المسلمين إلى ما نرى.
ولم يتعرض «المؤلف» للرد على الشطر الأول، وهو ما يوحيه تصوير الله بالقوة والعظمة والسيطرة من خضوع النفوس للمستبد، وعندي أن الإسلام بجعله «لا إله إلا الله» محور الدين، تتكرر في كل أذان وفي كل مناسبة، كان كفيلًا أن يذكِّر النفوس دائمًا بأن العزة لله وحده، وأن النفوس لا يصح أن تخضع لأحدٍ سواه، وأن هذه الكلمة توحي بالضعف أمام الله والقوة أمام من سواه كائنًا من كان. ولكن بتوالي القرون، ودخول الدخيل من العقائد، أصبحت «لا إله إلا الله» عند أكثر المسلمين كلمةً جوفاء لا روحَ فيها، تبعث الضعف ولا تبعث القوة، وتبيح أن يشرك مع الله الحاكم المستبد والرئيس المستبد، بل والمال والجاه والمنصب، فكل هذه وأمثالها أصبحت آلهة مع الله، وفقد المدلول الحق ﻟ «لا إله إلا الله»!!
•••
ثم أبان الحاكم المستبد يخشى العلم؛ لأن العلم نور، وهو يريد أن تعيش الرعية في الظلام؛ لأن الجهل يمكِّنه من بسط سلطانه، وأعرف أن حاكمًا مستبدًا شرقيًّا كان له مربٍّ سويسري، فقال له يومًا بعد أن تأمَّر: ليتك تُعنى بتربية الشعب وتعليمه! فقال الأمير: «كلا! إني إن علَّمتُه صعب عليَّ حكمه»!
والحاكم المستبد لا يخشى علوم اللغة والأدب، ولا علوم الدين المتعلقة بالمعاد، بل هو يستخدم العلماء من هذا القبيل لتأييده في استبداده، بسدِّ أفواههم بلُقيمات من فتات مائدته، إنما ترتعد فرائصه من الفلسفة العقلية، ودراسة حقوق الأمم، وعلوم السياسة والاجتماع، والتاريخ المفصَّل، والقدرة على الخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تنير الدنيا وتثير النفوس على الظالم، وتُعرِّف الإنسان ما هو الإنسان، وما هي حقوقه، وكيف يطلبها، وكيف ينالها، وكيف يحفظها؛ فإن المستبد سارقٌ، والعلماء من هذا القبيل يكشفون السرقة.
ولذلك يكون الحاكم المستبد وهؤلاء العلماء في صراع دائم، العلماء يحاولون الإنارة، والمستبدُّ يحاول إطفاءها، وكلاهما يحاول كسب عامة الشعب، فالمستبد يخيفهم ليستسلموا، وهؤلاء العلماء يثيرونهم ليقولوا ويفعلوا.
والحاكم المستبد تسرُّه غفلة الشعب لأنه يتمكن بغفلتهم من الصولة عليهم؛ يغضب أموالهم فيحمدونه على إبقاء حياتهم، ويضرب بعضَهم ببعض فيصفونه بحسن السياسة والكياسة، ويُسرف في إنفاق أموالهم فيقولون: إنه كريم، ويقتلهم ولا يمثِّل بهم فيقولون: إنه رحيم، وإن نقم عليه بعض الأباة، قاتلهم كأنهم بغاة!!
والحاكم المستبد يخاف رعيته، كما تخافه رعيته، بل خوفه منهم أشد؛ لأنه يخافهم عن علمٍ، وهم يخافونه عن جهل. وقد اعتاد المؤرخون المحققون قياس درجة استبداد الحاكم بمقدار حذره، ودرجةِ عدله بمقدار طمأنينته، كما يستدلون على عراقة الاستبداد في الأمة بفخفخة الحكام، وإمعانهم في الترف، وكثرة الحجَّاب، ودقة نظام المقابلات. ومن دلائل تغلغل الاستبداد في الأمة استكناهُ لغتها، فإن كثرت فيها ألفاظ التعظيم وعبارات الخضوع، كاللغة الفارسية، دلت على تاريخها القديم في الاستبداد، وإن قلَّت كالعربية قبل امتزاجها بغيرها دلَّت على الحرية.
وعلى الجملة فأخوف ما يخافه المستبد من العلمِ العلمُ الذي يعلم أن الحرية أفضل من الحياة، والشرف أعز من المنصب والمال، والحقوق وكيف تُحفظ، والظلم وكيف يُرفع، والإنسانية وقيمتها، والعبودية وضررها.
وقد كان «الكواكبي» في كل هذا يقرأ نتاج القرائح التي كَتبت في الاستبداد، وينظر إلى الدولة العثمانية في عهده ويستملي منها آراءه وأحكامه.
•••
ثم عَرض للاستبداد والمجد، ويعني بالمجد رغبة الإنسان أن تكون له منزلة حب واحترامٍ في قلوب الناس، وهو مَطلب طبيعي شريف، ويبلغ عند بعض الأفراد درجة تجعلهم يتساءلون أيهما أقوى: الحرص على المجد أم الحرص على الحياة؟ و«الكواكبي» مِن قبيل من يرى الحرص على المجد أقوى وأوجب من الحرص على الحياة؛ ولذلك عاب على ابن خلدون رأيه في تقديم الحرص على الحياة، عندما نقد (ابن خلدون) الإمام الحسين بن علي وأمثاله، وقال: إنهم يعرِّضون أنفسهم للموت بخروجهم في فئة قليلة على الخليفة ذي السلطان والعَدَد والعُدَد، فيُلْقُون بأنفسهم في التهلكة. فقال «الكواكبي»: إنهم معذورون؛ لأنهم يفضلون الموت كرامًا على حياة الذل التي كان يحياها ابن خلدون، وهم في ذلك ككرام سباع الطير والوحوش التي تأبى التناسل في أقفاص الأسْر، وتحاول الانتحار تخلصًا من قيود الذل — وغضبة الكواكبي على ابن خلدون سببها عصبيته لأهل البيت؛ إذ كان من الأشراف، وفيه نزعة لحب المجد ولو كان فيه فقد الحياة؛ فابن خلدون يتحدث بالعقل، والكواكبي يتحدث بالعاطفة.
والمجد أنواع: «مجد الكرم» وهو بذلُ المال في سبيل المصلحة العامة، وهو أضعف أنواع المجد، و«مجد العلم» وهو نشر العلم النافع رغم عوائق السلطات، و«مجد النبالة» وهو بذل النفس بالتعرض للمشاقِّ والأخطار في سبيل نصرة الحق، وهذا أعلى المجد. ويقابل المجدَ التمجُّد، أي: المجد الكاذب، وهو أن يكون الإنسان مستبدًّا صغيرًا في كنف المستبد الأعظم، وهذا يزدهر في الحكومات المستبدة؛ لأن الحكومات الحرة تحافظ على التساوي بين الأفراد ولا تخالف ذلك، ولا تميز بعض الأفراد إلا بخدمةٍ عامة للأمة أو عملٍ عظيم يوفق إليه. أما في الحكومات المستبدة فالمتمجدون أعداء للعدل أنصار للظلم، ينتخبهم المستبدُّ الأعظم ليقوِّي بهم سلطانه، ويختارهم من ضعاف النفوس ويستغويهم بالمناصب والمراتب، وأكثر ما يعتمد على العريقين في التمجد، الوارثين من آبائهم وأجدادهم مرض الاستبداد؛ ومن هنا ظهرت في الأمم نغمة التمجد بالأصالة والأنساب. والحكومة المستبدة يظهر استبدادها في كل فروعها، مِن المستبد الأعظم إلى الشرطي، إلى الفَرَّاش، إلى كنَّاس الشارع، ولا يكون كل صنف من هؤلاء إلا من أسفل طبقته؛ لأنه لا يهمهم المجد باستجلاب محبة الناس، إنما يهمهم التمجد باكتساب ثقة رئيسهم المستبد. والوزير في الحكومة الاستبدادية وزير المستبد الأعظم لا وزير الأمة، وكذلك مَن تحته من أعوانه، فالهيئة كلها تتمجَّد ولا تَمْجُد، وكلهم شركاء في جريمة الضغط على الأمة وظلمها. والاستبداد يقتل المجد ويحيي التمجد!
وهذا حقٌّ، فالحكومة المستبدة تقتل في النفوس العزة الحقيقية بالمفاخرة بالأعمال النافعة، وتخلق نوعًا من السيادة الكاذبة، وتجعل أولي الأمر سلسلةً تبدأ من المستبد الأعظم إلى الشرطي في الشارع، كلٌّ يخنع لمن فوقه ويستبد بمن تحته، وعلى العكس من ذلك الحكومة الديمقراطية ديمقراطية صحيحة، فهي تُشعر كلَّ شخص في الدولة بالعزة التي يحميها العدل، وبأن له نصيبًا في حكم بلاده، وصوتًا مسموعًا فيما يجب أن يُعمَل وما يجب أن يُترك، وأن حكومته ليست قائمةً إلا برأيه ورأي أمثاله، إن شعروا يومًا بجورها أسقطوها؛ سلطة الرأي العام فيها فوق سلطان الحكومة والبرلمان وكل سلطان.
•••
ثم عرض للاستبداد والمال، ويعني بذلك الحكومة الاستبدادية، وأثرها في الثروة أو الحالة الاقتصادية في البلاد. وهو في هذا الموضوع يرى الخير في نوعٍ معتدل من الاشتراكية، نعم لا ينبغي أن يتساوى العالِم الذي أنفق زهرة حياته في تحصيل العلم النافع، أو الصانع الماهر في صنعة مفيدة، وذلك الجاهل الخامل النائم في ظل الحائط، ولكن العدالة تقضي أن يأخذ الراقي بيد السافل فيقرِّبه من منزلته، ويقاربه في معيشته. وقد مالَ الإسلام إلى هذا النوع ففرض ٢٫٥٪ من رءوس الأموال تعطى للفقراء وذوي الحاجة، وحرم الربا؛ لأنه وإن أجازه الاقتصاديون لأسبابٍ معقولة اقتصاديًّا — للقيام بالأعمال الكبيرة؛ ولأن الأموال المتداولة في السوق لا تكفي للتداول، فكيف إذا أمسك المكتنزون قسمًا منها، ولأن كثيرًا من القادرين على العمل لا يجدون رءوس المال — فإن الدين ورجال الأخلاق ينظرون إليه من حيث ضرره الأخلاقي؛ لأنه متى انتشر قسَّم الناس إلى عبيد وأسياد، وكان سببًا في ضياع استقلال الأمم الضعيفة.
والحكومة الاستبدادية سببٌ في اختلال نظام الثروة، فهي تجعل رجال السياسة والدين ومَن يلحق بهم يتمتعون بحظٍّ عظيم من مال الدولة، مع أن عددهم لا يتجاوز الواحد في المائة، وهي تخصص المال الكثير لترف المستبد وسرفه؛ وتغدق على صنائعها ومن يُستخدم لتحصيل شهواتها ومن يعينها على طغيانها، وسائر أفراد الشعب في شقاء وفقر وبؤس!
والحكومات العادلة تعمل على تقريب المسافات بين أفراد الشعب، فلا غنى مفرط ولا فقرٍ مفرط. وهذه حكومة الصين المعدودة غير متمدنة لا تجيز للشخص الواحد أن يملك أكثر من خمسة أفدنة، وروسيا وضعت لبعض ولاياتها قانونًا أشبه بهذا، ومنعت سماع دعوى دَين غير مسجل على فلاح، ولم تأذن لفلاح أن يستدين أكثر من خمسمائة فرنك. وحكومات الشرق إذا لم تعالج الفروقَ الكبيرة بين سادتها وعبيدها ساء مصيرها.
ثم الحكومات المستبدة تُيسِّر للسفلة طرق الغنى بالسرقة والتعدي على الحقوق العامة، ويكفي أحدهم أن يتصل بباب أحد المستبدين ويتقرب من أعتابه، ويتوسل إلى ذلك بالتملق وشهادة الزور وخدمة الشهوات والتجسس؛ ليسهل له الحصول على الثروة الطائلة من دم الشعب.
هذه صورة سينمائية لكتاب «طبائع الاستبداد». ولو أنسئ في عمر «الكواكبي» حتى يرى النظريات الاقتصادية الحديثة، وتطور النظم السياسية، والدولة الشيوعية، وحركات العمال أمام استبداد رءوس الأموال، وعلاقة الغرب بالشرق، وما اخترع الدكتاتوريون في أوربا من نظريات أرغموا العلم إرغامًا على أن يؤيدها، ونحو ذلك من أوضاع، لكان له من كل ذلك مادة خصبة يُبدع فيها فوق ما أبدع.
٣
عرض «الكواكبي» بعد ذلك لأثر الاستبداد في فساد الأخلاق؛ فالاستبداد يتصرف في أكثر الميول الطبيعية والأخلاق الفاضلة فيضعفها أو يفسدها؛ فهو يُفقد الإنسان عاطفة الحب، فهو لا يحب قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، ولا يحب وطنه لأنه يشقى فيه، وهو ضعيف الحب لأسرته لأنه ليس سعيدًا فيها، وهو لا يركن إلى صديقه لأنه قد يأتي عليه يوم يكون فيه عونًا على الاستبداد ومصدر شرٍّ له.
الإنسان في ظل الاستبداد لا ينعم بلذة العزة والشمم والرجولة، فلا يذوق إلا اللذة البهيمية لأنه لا يعرف غيرها.
والاستبداد يلعب بالأخلاق، فيجعل من الفضائل رذائل، ومن الرذائل فضائل: فيسمِّي النصح فضولًا، والشهامة تجبرًا، والحمية طيشًا، والإنسانية حمقًا، والرحمة مرضًا، كما يسمِّي النفاق سياسة، والتحايل كياسة، والدناءة لطفًا، والنذالة دماثةً وظرفًا.
والاستبداد أفسد عقول المؤرخين، فسموا الجبابرة الفاتحين عظماء أجلاء، مع أنه لم يصدر عنهم إلا الإسراف في القتل والتخريب، ثم شادوا بذكر السلف تملقًا للخلف.
والاستبداد يُفقد الثبات في الخلق، فقد يكون الرجل شجاعًا كريمًا فيصبح بعوامل الاستبداد جبانًا بخيلًا. ولا أخلاق ما لم تكن ثابتة مطردة!
وأقل ما يؤثر الاستبداد في أخلاق الناس أنه يرغم الأخيار منهم على ألفة الرياء والنفاق، ويعين الأشرار على فجورهم آمنين حتى من الانتقاد والفضيحة؛ لأن أكثر أعمالهم تظلُّ مستورة لا يجرؤ الناس على قول الحق أمامهم خوف العقبى.
وأقوى ضابط للأخلاق النهي عن المنكر بالنصيحة والتوبيخ وما إلى ذلك، وهو في عهد الاستبداد غير مقدور لغير ذوي المنعة، وقليل ما هم، ويصبح الوعظ والإرشاد ملقًا ورياء.
في الحكومات التي نجت من الاستبداد أُطلقت حرية الخطابة والتأليف والمطبوعات، ورأت أن الفوضى في ذلك خير من تحديد الحرية؛ لأنه متى وُضعت القيود نفذ منها الحكَّام، وتوسعوا فيها حتى خلقوا منها سلسلة من حديدٍ يخنقون بها الحرية.
والاستبداد يفقد الناس ثقةَ بعضهم ببعض، ويُحل الخوف محل الثقة، فيقل التعاون بين الأفراد، والتعاون حياة الأمم.
والأنبياء سلكوا في تكوين الأخلاق مسلكًا خاصًّا، فبدءوا بفك العقول من تعظيم غير الله، وذلك بتقوية الإيمان المفطور عليه الإنسان، ثم جهدوا في تنوير العقول بمبادئ الحكمة، وتعريف الإنسان كيف يملك إرادته وحريته في أفكاره، وبذلك هدموا حصون الاستبداد. ثم أبانوا أنه مكلَّف بقانون الإنسانية واتباع المبادئ التي تُرقيه وتُرقي جنسه — وكذلك فعل السياسيون الأقدمون من الحكماء.
أما الغربيون المحدثون، فوضعوا الأخلاق غير مرتكزة على الدين، ولكن على ما أُودع في فطرة الإنسان من ضمير وحب للنظام، ساعدهم على ذلك انتشار العلم عندهم والرغبة في التقدم، واستعانوا على ذلك بالوطنية.
ثم وازن بين أثر التربيتين فقال: إن الغربي مادي الحياة، قوي النفس، مضبوط المعاملة، حريص على الاستئثار، حريص على الانتقام. والشرقي غير مادي، يغلب عليه ضعف القلب وسلطان الحب والإصغاء للوجدان، والرحمة ولو في غير موضعها. وقد نجح الغربيون المحدَثون في محاربة الاستبداد، واستباحوا التدابير القاسية لمحو الظلم والاعتساف، فنالوا ما أرادوا من تحرير الأفكار وتهذيب الأخلاق وجعل الإنسان إنسانًا، وما أحوج الشرقيين إلى حكماء لا يبالون بغوغاء العلماء الأغبياء والرؤساء القساة، يجددون النظر في الدين فيعيدون إليه النواقص المعطَّلة، ويهذبونه من الزوائد الباطلة، فيملكون الإنسان إرادته وحريته وإنسانيته.
•••
ثم عرض للاستبداد يفسد التربية — والتربية تنمية الاستعداد جسمًا ونفسًا وعقلًا، وهي قادرة أن تبلغ بالإنسان أعلى حد من الرقيِّ لو صلحت.
والحكومات العادلة تعنى بتربية الأمة من وقت تكوُّن الجنين، بل قبله، بسن قوانين للزواج الصالح، ثم بالعناية بالقابلات الأطباء، ثم بفتح بيوت اللقطاء، ثم بإنشاء المكاتب والمدارس وتنظيم خططها متدرجة إلى أعلى مرتبة، ثم تسهيل الاجتماعات، والإشراف على المراسح، ثم تشجيع النوادي وإنشاء المكتبات، وإعلام شأن النوابغ بإقامة النصُب ونحوها، ثم بتنمية المشاعر القوية بشتى أنواعها، وتيسير الأعمال وغير ذلك.
أما الحياة في الحكومات المستبدة فمجرد نماءٍ يشبه نماء الأشجار الطبيعية في الغابات والأحراش، يسطو عليها الغرق والحرق، وتحطمها العواصف، والأيدي القواصف.
في الحكومة العادلة يعيش الإنسان حرًّا نشيطًا، يسرُّه النجاح ولا تقبضه الخيبة؛ وفي الحكومة المستبدة يعيش خاملًا خامدًا، ضائع القصد حائرًا.
الأسير المعذَّب يسلِّي نفسه بالسعادة الأخروية، ويبعد عن فكره أن الدنيا عنوان الآخرة، وقد جنى على المسلمين علماؤهم، فأفهموهم أن الدنيا سجن المؤمن، وأن المؤمن مصاب، وإذا أحب الله عبدًا ابتلاه، وهكذا مما ابتدعوه؛ ويتغافلون عن حديث: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا»، وحديثٌ معناه: «إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم غرسة فليغرسها!»، وكل هذه المثبطات تحول الأذهان عن معرفة أسباب الشقاء إلى إلقائها على عاتق القضاء والقدر.
وقد أحكموا هذه المكيدة باختراع الأحاديث التي تجعل الخضوع للحاكم دينًا. وعلى الجملة فالتربية الصحيحة لا تُمكن في ظل الاستبداد!
•••
ثم الاستبداد — على الإجمال — يمنع التَّرقي. والترقي الحيوي الذي يسعى إليه الإنسان هو — أولًا — الترقي في الجسم صحةً وتلذذًا، ثم الترقي في الاجتماع بالعائلة والعشيرة، ثم الترقي في القوة بالعلم والمال، ثم الترقي في الملكات بالخصال والمفاخر. وهناك نوع آخر هو الترقي الروحي، وهو الاعتقاد بأن وراء هذه الحياة حياَةً أخرى تترقى إليها على سلم الرحمة والإحسان — والاستبداد بالأمة عدو ذلك كله؛ بل هو يحوِّل الميل الطبيعي فيها إلى طلب التسفل، حتى لو دُفعت إلى الرفعة لأبت وتألمت كما يتألم الأجهر من النور! وعندئذ يكون الاستبداد كالعَلَق، يمتص دمَ الأمة فلا ينفك عنها حتى تموت ويموت هو بموتها. والاستبداد يجعل الأمة منحطة في الإحساس، منحطة في الإدراك، منحطة في الأخلاق. وهو يضغط عليها فتكون كدود تحت صخرة؛ والمشفقون عليها يجب أن يسعوا في رفع الصخرة ولو حتًّا بالأظافر ذرة بعد ذرة!!
وهنا ضرب مثلًا يصح أن يخطب به الخطباء في الناس ليستيقظوا؛ فوضع خطبةً نموذجية لتنبيه المشاعر. وقال: إن الرقي الذي ينشده في ظل العدل هو أن يكون الشخص أمينًا على جسمه وحياته بحراسة الحكومة التي لا تغفل عن المحافظة عليه، أمينًا على ملذاته الجسمية والفكرية باعتناء الحكومة بإيجاد أسبابها، أمينًا على حريته فلا يُعتدى عليها، أمينًا على نفوذه كأنه سلطان عزيز، فلا يمانع في تنفيذ مقاصده النافعة، أمينًا على ماله وشرفه، وما منحته الطبيعية من مزايا، فما لم تتحقق هذه فالحكومة مستبدة ليست صالحةً لترقي شعبها.
وأخيرًا: ما وسائل التخلص من الاستبداد؟ هو يرى أن الاستبداد لا يقاوَم بالقوة، إنما يقاوَم باللين وبالتدريج؛ ببث الشعور بالظلم، وهذا يكون بالتعليم والتحمس؛ ذلك لأن الاستبداد محفوف بأنواع القوَّات: كقوة الجند، وقوة المال، وقوة رجال الدين، وقوة الأغنياء، فإذا قوبل بالقوة كانت فتنةً تحصد الناس! وإنما الواجب المقاومة بالحكمة في توجيه الأفكار نحو تأسيس العدالة. والاستبداد — مع اعتماده على هذه القوات كلها — يضعف أمام الوسائل المتحكمة في قلبه، كما قيل: كم مِن جبار عنيد جَنْدله مظلومٌ صغير!!
ويجب قبل مقاومة الاستبداد تهيئةُ ما يحل محله، ومعرفة الغاية معرفةً دقيقة واضحة. ومتى وضحت الغاية المرسومة يجب السعي في إقناع الناس بها، واستجلاب رضاهم عنها وحملهم على النداء بها، ويجب أن يُنشر ذلك في كل الطبقات حتى يُصبح عقيدة، فيتلهفون جميعًا على نيل الحرية وتحقيق المثل الذي ينشدونه؛ عندئذ لا يسع المستبد إلا الإجابة طوعًا أو كرهًا.
وقد حدَّد في ثنايا كتابه ماذا يقصد بالحكومة المستبدة، فقال: إنها تشمل حكومة الحاكم الفرد المطلق، كما تشمل حكومة الجمع ولو منتخبًا إذا استبدَّ، بل قد يكون هذا الحكم أضر من استبداد الفرد. ويدخل في أنواع الاستبداد أنواع الاستعمار، فالمستعمر تاجرٌ لا يرى إلا مصلحته. ولا عبرة بأسماء أنواع الحكومات، إنما العبرة بحقيقتها، وكل أمة فيها لون من ألوان الاستبداد، ولكنها تختلف فيه كميةً وكيفيةً، فبعضها يمسَّه الاستبداد مسًّا خفيفًا، وبعضها تغرق فيه مِن قدمها إلى مفرق رأسها. والغرب سبق إلى تقدير معنى الحرية والعدالة، ولكنه لا يأخذ بيَد الشرق، بل يستغله لمصلحته. وواجب الغرب أن يرعى للشرق سابق فضه، فيأخذ بيده ليُخرجه إلى أرض الحياة، ويعامله معاملة الأخ لأخيه لا السيد لعبده؛ ليتعاونا بعدُ على السير بالإنسانية.
وبهذا ينتهي الكتاب، وهو فيه قوي مخلص، مملوءٌ غيرةً وأسفًا، وتلهفًا على رفع نير الاستبداد عن الشرق، وهو إن استمد الفكرة من الغرب، فهو يبسطها ويعدِّلها ويعنى بتطبيقها. وقد يؤخذ عليه حصر نفسه قي دائرة النظريات. وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد، وما رأى وسمع من أحداث، وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدةً وأعم نفعًا، ولكن يظهر أن قد منعه من ذلك أنه أراد أن يستتر فأخفى اسمه ولم يضعه على الكتاب. وقال في مقدمة الكتاب: إنه لم يقصد ظالمًا بعينه ولا حكومةً مخصوصة، وهو لو أتى بالشواهد لدل على الحكومة التي يقصدها. وما كان في ذلك من ضرر، بل كان فيه كل النفع، ولكن الأمور تُقدَّر بأوقاتها وظروفها، وهو فيما اكتنفه من ظروف كان في عرضه النظريات فقط شجاعًا جريئًا.
٤
أما كتابه الثاني «أمُّ القرى» فأدلُّ على الابتكار وأوضح في إظهار الشخصية. يقف فيه من المسلمين موقف الطبيب من المريض، يفحص داءه ويتعرف أسبابه، ويصف علاجه في أسلوب قصصيٍّ جذاب. تحدث فيه عن جمعية من المسلمين عُقدت في مكة حضرها ممثل أو أكثر لكل قطر إسلامي؛ فعضوٌ شاميٌّ، وعضو إسكندري، ومصري ومقدسي ويمني وبصري ونجدي ومدني ومكي وتونسي وفاسي وإنجليزي ورومي وكردي وتبريزي وتتري وقازاني وتركي وأفغاني وهندي وسندي وصيني. وأُسندت رياسة الجمعية للعضو المكي، والسكرتارية للسيد الفراتي — ويعني به الكواكبي نفسه — واجتمعوا كلهم قبيل الحج في مكان متطرف في مكة يتداولون في حال المسلمين. وكان أول اجتماع لهم في ١٥ ذي القعدة سنة (١٣١٦ﻫ).
فهل كانت هذه الجمعية حقيقية أو من نسج خياله؟ يقول هو: إن لها أصلًا من الحقيقة، وإن الخيال تممها، فهل هذا صحيح، أو هو من قبيل تأييد الخيال كما يفعل كثير من الروائيين؟ أرجِّح الرأي الثاني.
على كل حال انعقدت الجمعية — فيما يقول — ووضع الرئيس منهج البحث، وهو الكتمان؛ لأنه أدعى إلى إفضاء كلٍّ بما في نفسه في صراحة، وتناسي الاختلاف في المذاهب، فلا سُني وشيعي، ولا شافعي وحنفي، فالكل مسلم. ثم التحرر من اليأس في الإصلاح، فهذه أمم كثيرة كالرومان واليونان واليابان، استرجعت مجدَها بعد تمام ضعفها، خصوصًا وأن الظواهر كلها تدل على أن الزمان قد استدار، وبدأت تظهر أعراض الصحة على المسلمين، ومِن أعظم الظواهر انعقاد مثل هذه الجمعية. ووضعُ برنامج المؤتمر، وهو يتلخص في بحث موضع الداء في المسلمين وأعراضه وجراثيمه ودوائه وكيفية استعماله … إلخ.
قال الرئيس: إن أوضح عَرَض من أعراض مرض المسلمين فتورُهم، وهو فتور عامٌّ شامل لجميع المسلمين في جميع أقطار الأرض، لا يسلم منه إلا أفراد شواذ، حتى لا يكاد يوجد إقليمان متجاوران، أو ناحيتان في إقليم، أو قريتان في ناحية، أو بيتان في قرية، أهل أحدهما مسلمون والآخر غير مسلمين، إلا والمسلمون أقل من جيرانهم نشاطًا وانتظامًا، وأقل إتقانًا من نظرائهم في كل فن وصنعة، مع أن المسلمين في جميع الحواضر متميزون عن غيرهم مِن جيرانهم في المزايا الأخلاقية، مثل الأمانة والشجاعة والسخاء، حتى توهَّم كثير من الحكماء أن الإسلام والنظام لا يجتمعان! فما هو السبب؟
وقد لفت نظره العضو الهندي في أنه مع تسليمه بما قال الرئيس، يود أن يستثني بعض حالاتٍ فيها المسلمون خيرٌ من جيرانهم، كبعض الوثنيين في الهند، والصابئة في العراق، فوافقه الرئيس وشكره على دقة ملاحظته.
ثم أخذوا — بعد التسليم بوجود العَرَض — يبحثون في الأسباب. وذهبوا في ذلك كل مذهب؛ فالشامي رأى أن سبب الفتور يرجع إلى ما أصاب المسلمين من عقيدة جبرية، فهذه العقيدة في القضاء والقدر على هذا النحو آلت إلى الزهد في الدنيا، والقناعة باليسير والكفاف من الرزق، وإماتة المطالب النفسية كحب المجد والرياسة والإقدام على عظائم الأمور، فأصبح المسلم كميتٍ قبل أن يموت. والعقيدة بهذا الشكل مثبطة معطلة لا يرضاها عقل، ولم يأتِ بها شرع.
والمقدسي رأى أن السبب تحول نوع السياسة الإسلامية مِن ديمقراطية إلى استبدادية، فأفسدت العقول وأماتت الأخلاق.
ورأى التونسي أن بعض الأمم الأوربية محكومةٌ بحكومة استبدادية ولم يمنع ذلك من تقدمها، وإنما السبب في نظرة الأمراء المترفون الذين لم يرعوا للأمة حقوقها.
وقال الرومي: إن تحميل الأمراء التبعةَ كلها غير سديد، فما هم إلا نفر قليل من الأمة. والسبب الحقيقي في نظره فقدان المسلمين الحرية. بجميع أنواعها؛ من حرية تعليم، وحرية خطابة، وحرية البحث العلمي؛ فبفقد الحرية تُفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتختل القوانين، وتسأم الأمة حياتها فيستولى عليه الفتور.
ورأى التبريزي أن السبب تركُ المسلمين أصلَ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاسترسل الأمراء في أهوائهم، وعدمت المراقبة عليهم.
وقال الفاسي: إن السبب هو إهمال الناس الاهتمام بالدين، حتى لم يبقَ له أثر إلا على رءوس الألسن، وأمراؤهم مثلهم لا يتراءون بالدين إلا بقصد تمكين سلطانهم على البسطاء من الأمة، هذا إلى ظلمهم وجورهم. وقد كان المسلمون أعزاء يوم توثقت بينهم الرابطة الدينية، فلما انحلَّت ضاعت الأخلاق ففتروا وخمدوا.
أجاب المدنيُّ بأن فقد الرابطة الدينية والوحدة الخلقية لا يكفيان سببًا لهذا الفتور العام. وعنده إن السبب تدليسُ رجال الدين وغلاة المتصوفين الذين لوَّنوا الدين بلون سيئ فأضاعوه وأضاعوا أهله؛ وذلك أن العلماء العاملين أهلٌ لكل تجلَّة واحترام، فلما حسدهم من لا يستحق هذه المنزلة سلكوا مسلك الزاهدين. ومن العادة أن يلجأ ضعيف المقدرة إلى التصوف كما يلجأ فاقدُ المجد إلى الكِبر، وقليل المال إلى التظاهر بزينة اللباس والأثاث، فأفسدَ هؤلاء الدين بما أدخلوا فيه مما ليس منه، كالعلم اللدنِّي، وترتيب المقامات، ووراثة السر، والرهبنة، والتظاهر بالعفة، والتبرك بالآثار، والكرامة على الله، والتصرف في القدَر، فسحروا عقول الجهلاء، واختلبوا قلوب الضعفاء كالنساء، والنساء بذرن هذه البذور الضارة في أبنائهن فماتت النفوس وخرفت العقول. وهؤلاء المدلِّسون وُجدوا في بغداد ومصر والشام وتلمسان وغمروا السوق في الأستانة، وسرَى من هذه العواصم إلى جميع الآفاق فأصبح المرض عامًّا.
وانضم «الرومي» إلى هذا الرأي وزاده إيضاحًا، فقال: إنَّ داءنا الدفين دخول ديننا تحت ولاية العلماء الرسميين والجهَّال المتعمِّمين؛ وبلغ أمرُهم في البلاد العثمانية أن صارت الألقاب العلمية منحةً رسمية تعطى للجهَّال حتى للأميين والأطفال (كمشيخة الطرق عندنا) فقد يكون طفلًا ويُمنح بالوراثة لقب «أعلم العلماء المحققين»، ثم «أفضل الفضلاء المدققين» ثم وثم حتى يوصف بأنه «أعلم العلماء المتبحرين، وأفضل الفضلاء المتورِّعين، وينبوع الفضل واليقين»، وأكثرهم لا يُحسنون حتى قراءة ألقابهم. وطبيعي أن هؤلاء يقابلون السلطان بالمثل؛ فهو صاحب العظمة والإجلال، المنزه عن النظير والمثال، مهبط الإلهامات، ومصدر الكرامات، سلطان السلاطين، ومالك رقاب العالمين. وأصبح التدريس والإرشاد والوعظ والخطابة والإمامة وسائر الخِدَمُ الدينية سلعًا تُباع وتُشترى، وتوهَب وتورَث. وتَسلَّط هؤلاء المتعممون على المجالس والإدارات، واتخذ الأمراء من ذلك وسيلةً يعتذرون بها عند الدول الأجنبية بان الرأي العام — وعلى رأسه المعمَّمون — لا يقبلون الإصلاح المدني.
أجاب الكردي بأن هذا الداءَ خاصٌّ ببعض الولايات، ولكن عَرَض َالفتور عامٌّ في الولايات الإسلامية التي فيها هذا الشأن وغيره، فلا بد أن يكون السبب شيئًا أعم من ذلك. وعندي أن السبب هو أن المسلمين أُصيبوا باقتصارهم على العلوم الدينية، وإهمالهم العلوم الدنيوية كالرياضة والطبيعة والكيمياء، على حين أن هذه العلوم نمت في الغرب وترقت وظهر لها ثمرات عظيمة في كافة الشؤون المادية والأدبية، حتى صارت عندهم كالشمس لا حياة لهم إلا بنورها، وأصبح المسلمون في أشد الحاجة إليها في جميع أمورهم؛ مِن تربية الطفل إلى سياسة الدولة، ومن عمل الإبرة إلى عمل المدافع والبوارج، ومن استخدام اليد إلى استخدام الأسلاك والبخار — فابتعاد المسلمين إلى الآن عن هذه العلوم النافعة الحيوية، جعلهم أحط من غيرهم من الأمم، وكلما تمادت الأيام بعدت النسبة بينهم وبين جيرانهم.
أجاب الإسكندري: إن هذا يصلح سببًا، ولكن ليس كل السبب؛ لأن فقد العلوم لا يصلح سببًا لفقد الإحساس الشريف والأخلاق العالية. وإنما السبب نومنا ويأسنا.
قال التتري: إن هذه شكايةُ حالٍ لا شرح أسبابٍ. إنما السبب عندي فقدان القادة والزعماء، فلا أمير حازم يسوق الأمة طوعًا أو كرهًا إلى الرشاد، ولا زعيم مخلص تنقاد له الأمراء والناس، ولا رأي عام يجمع الناس على غرض نبيل.
والأفغاني يرى أن سبب الفتور الفقر، وهو قائدُ كل شر، ورائد كل فساد؛ فمنه الجهل، ومنه الانحطاط الخلقي، ومنه تشتت الآراء حتى في الدين؛ فليس ينقصنا عن الأمم الحية إلا القوة المالية. ولكن المال لا يأتي إلا بالعلوم والفنون العالية، وهذه لا تُنتشر في الأمة إلا بالمال. وبهذا تحدث مشكلة الدور، ويجب أن نبحث عن حلها.
أجاب المسلم الإنجليزي: إن الفقر في المملكة الإسلامية ليس طبيعيًّا؛ فهي بلاد غنية، لو نفَّذت تعاليم الإسلام من تحصيل الزكاة والكفَّارات وما إلى ذلك، وصُرفت في وجوهها لخفَّت وطأة الفقر. وإنما سبب الفتور في نظره فقدُ الاجتماعات والمفاوضات وتبادل الآراء، فنسي المسلمون حكمةَ تشريع الجمعة والجماعة والحج، وصارت الخطبُ التي تُلقى تافهة لا قيمة لها، وكان الغرض منها التحدث في الأحوال الطارئة. وبلغ من سوء رأيهم أنهم عدُّوا التحدث في الأمور العامة فضولًا، والكلام فيها في المساجد لَغْوًا، فلما انعدم الكلام في المصالح العامة أصبح كل شخص لا يهتم إلا بنفسه ولا اهتمام له بالصالح العام ولا بغير ذلك من الشؤون، حتى لو بلغهم خبر تخريب الكعبة — لا قدر الله — ما زادوا عن أن يقطبوا جبينهم لحظة وينتهي الأمر. والأمم الحية في الوقت الحاضر تهيئ الفرص للاجتماعات ومبادلة الآراء ما أمكن، بكثرة النوادي والمجتمعات، وتنظيم الرحلات والسياحات، وكثرة الخطب والمحاضرات حتى في المتنزهات، وعقد المؤتمرات للمناسبات، وتذكيرهم بتاريخهم وأهم أحداثهم، وبثهم في الأغاني والأناشيد ما يبعث حبَّ البلاد والحرية ويُحمس للخير العام.
ورأى الصيني أن السببَ هو تكبر الأمراء وميلهم للعلماء المتملِّقين المنافقين، الذين يتصاغرون لديهم، ويتذللون لهم، ويُحرِّفون أحكام الدين ليوفقوها على أهوائهم، فماذا يُرجَى من علماء دين يشترون بدينهم دنياهم، ويقبِّلُون يد الأمير لتقبِّل العامة أيديهم، ويُحقرون أنفسهم للعظماء ليتعاظموا على ألوف من الضعفاء، فأفضل الجهاد عند الله الحط من قدر العلماء المنافقين عند العامة، وتحويل وجهتهم لاحترام العلماء العاملين. وعندنا في الصين رجالٌ حكماء نبلاء، لهم نوع من السيادة حتى على العلماء، وهؤلاء هم الذين يسمَّون في الإسلام أهلَ الحلِّ والعقد، وهم خواص الطبقة العليا في الأمة الذين أمر الله نبيه بمشاورتهم. وتاريخ المسلمين يدل على ارتباط القوة والضعف بمنزلة أهل الحل والعقد في الأمة. والخلاصة أن سبب الفتور استحكامُ الاستبداد في الأمراء، وانعدام أهل الحل والعقد من الأمة.
وقال «النجدي»: إن سبب فتور المسلمين الدِّينُ الحاضر نفسه، بدليل التلازم؛ فالدين الحاضر ليس دينَ السلف. إن الدين الحاضر ترك إعداد القوة بالعلم والمال والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقامة الحدود، وإيتاء الزكاة إلى غير ذلك مما بيَّنه إخواننا. قد يقول قائل: إن كلَّ دين دخل عليه التغيير ولم يؤثر في أهله الفتور، بل قال كثيرٌ من رجال الغرب: إنهم ما أخذوا في الترقي إلا بعد فصلهم الدين عن شؤون الحياة الدنيا. والجواب: أن كل أمة لا بد لها من نظامٍ ثابت تسير عليه ويلائم نفسَها وبيئتها وعلاقاتها التجارية والسياسية، والقانون الطبيعي الذي يتفق والطبيعة البشرية هو إذعانه لقوة غالبة هو الله الذي يوحي به الإلهام الفطري. ولهذه الفطرة علاقة عظمى بتنظيم شؤون حياته، وهي أقوى وأفضل وازع — وكل الأديان راجعة إلى أصل صحيح واحد، فإذا تغير أو فسد فسدَ الناس لاختلال هذا الوازع، قال تعالى: ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكًا. و«الأمة كلما قربت من الأصل الصحيح والمبادئ الصحيحة قربت من الكمال».
وهنا أعلن الرئيس أن البحث في أعراض الداء وأسبابه قد نضج أو كاد، فيكتفي فيه بهذا القدر، ويجب نقلُ البحث إلى موضوع آخر. قال: وكلمة أخينا النجدي تُلهمنا الموضوع الآتي الذي نبحثه، وهو: ما هو الإسلام الصحيح؟
٥
بعد هذا انتقل بحث المؤتمر إلى «تحديد الإسلام الصحيح» وما دخل عليه من تغيير. وقد أفاض في ذلك العضو النجدي، فقال: «إن الإيمان بالله أمر فطري في البشر، وحاجتهم إلى الرسل لإرشادهم إلى كيفية الإيمان، ويختلف الناس في تصور الله. والعقول البشرية مهما قويت واتسعت لا تتحمل إدراك صفات الله الأزلية المجردة عن المادة والزمان والمكان، فاحتاجت إلى من يرشدها».
وأساس الإسلام جملتان: «لا إله إلا الله»، و«محمد رسول الله»، وثمرة الإيمان بالأولى عتقُ العقول من الأسر؛ وثمرة الثانية الاهتداء بمحمد في تعاليمه التي تُحول بين المرء ونزوعه إلى الشرك.
ولكن إدراك التوحيد والاحتفاظ به عسير على النفس، فسرعان ما تخرج منه إلى الشرك. والشرك على أنواع ثلاثة: «شركٌ في الذات» وذلك في عقيدة الحلول؛ و«شرك في الملك» كاعتقاد الناس أن في بعض المخلوقات المشاركة في تدبير شؤون الكون؛ و«شركٌ في الصفات» بإسباغ صفات الكمال على بعض المخلوقات.
وقد فشا في المسلمين هذا الشرك؛ كتعظيم القبور، وبناء المساجد والمشاهد عليها، والطواف بها والإسراج لها والتذلل؛ كدعوى أن هناك عِلمًا يسمى علم الباطن خُص به بعض الناس، واتخاذ الدين لهوًا ولعبًا بالتغني والرقص، ولبس الأخضر والأحمر، واستخدام الجنَّة والشياطين، فكل هذه وأمثالها شرك محض أو مظنَّة إشراك.
وعرض الإسلام غير الشرك أمران خطيران، وهما: التشدد في الدين بعد ما كان يسيرًا سهلًا، فكانت كل فرقة تأتي تزيد في هذا التشدد حتى صار عسيرًا صعبًا، والأمر الثاني تشويش الدين بكثرة المذاهب والشيَع وطرق التصوف.
وقد لاحظ الرئيس أن عضوين من الأعضاء لم يتحدثا، فرغب أن يسمع صوتهما، وهما العضو السِّندي والعضو القازاني؛ فأما السندي فقد تكلم في التصوف وما دعا إليه، وما فيه من حق وما فيه من باطل، وأما القازاني فقصَّ عليهم قصة جرت بين مسيحي روسي أسلم ومفتي قازان، وتدور حول دعوة المفتي إلى تقليد السلف والاقتصار على ما قالوا، ودعوة الروسي المسلم إلى ضرورة الاجتهاد وعدم التقليد، وحكى ما جرى بينهما من حجج وأدلة، وأخيرًا انتصر المسلم الروسي المستشرق على المفتي، فاقتنع بأن التقليد ضارٌّ حمل عليه الكسل، وأن الاجتهاد واجب ولكن يحتاج القيام به إلى جد وعناء.
- (١) أسباب دينية أهمها: عقيدة الجبر، ونشر ما يدعو إلى التزهيد في الدنيا، وترك السعي والعمل، واختلاف المسلمين فِرقًا وشيعًا، وإضاعة سماحة الدين، وتشديد الفقهاء المتأخرين، وإدخالهم في تعاليمه الخرافات والأوهام، وعدم المطابقة بين القول والعمل في الدين، وتهوين غلاة الصوفية شأن الدين وجعله لهوًا ولعبًا، والتوسع في تأويل النصوص، والتحايل على التحرر من الواجبات، وإيهام الدجالين أن في الدين أمورًا سرية، واعتقاد منافاة العلوم الحكمية والعقلية للدين، وتطرُّق الشر إلى عقيدة التوحيد، وتهاون العلماء في تأييدها، والغفلة عن حكمة الجماعة والجمعة والحج.
- (٢) وأسباب سياسية أهمها: السياسة الخالية من المسئولية، وحرمان الأمة من حرية القول والعمل، وفقدانها الأمن والأمل، وفقد العدل والتساوي في الحقوق بين طبقات الأمة، وميلُ الأمراء للعلماء المدلسين، واعتبار العلم صدقة يُحسن بها الأمراء على الخاصة، وإبعادهم للناصحين وتقريبهم المتملقين.
- (٣) وأسباب أخلاقية: من الاستغراق في الجهل والارتياح إليه، واستيلاء اليأس على النفوس، والإخلاد إلى الخمول، وفساد التعليم، وفساد النظام المالي، وإهمال طلب الحقوق العامة جبنًا، وتفضيل الوظائف على الصنائع، والتباعد عن المداولات في الشئون العامة.
وقد زاد السكرتير أشياء على ما سبق، أهمها: الغفلة عن تنظيم شؤون الحياة، وعدم توزيع الأعمال توزيعًا عادلًا، وعدم العناية بتعليم النساء وتهذيبهن، وسقوط الهمة وانتشار داء التواكل.
ولم يرضَ المؤتمر بالاكتفاء بالبحث في الأمراض وعلاجها، بل اقترح إنشاء جمعية دائمة تعنى بإصلاح المسلمين، وتشرف على تنفيذ برنامجها في الإصلاح، وهذه الجمعية تؤلَّف من مائة عضو: عشرة عاملون، وعشرة مستشارون، وثمانون فخريون، ولا عدد للأعضاء المساعدين المحتسَبين، واشترط في الأعضاء العاملين شروطًا دقيقة من العفة والأمانة والإخلاص وسعة العلم والقدرة على التأثير، وإمكان التفرغ للعمل لأغراض المؤتمر، وجعل مركزها في مكة، ولها شُعب في الأستانة ومصر وعدن والشام وطهران وتفليس وكابل وكلكُتَّا وسنغافورة وتونس ومراكش وغيرها، والجمعية لا تكون تابعة لحكومة ما، ولا تتقيد بمذهب ديني خاص، ويكون شعارها: «لا نعبد إلا الله»، ويكون مِن أهم أغراضها تعميم التعليم بين المسلمين، والترغيب في العلوم والفنون النافعة، وإيجاد المدارس العالية يتخصص كل منها للتوسع في فرع من فروع العلم، وتوحيد أصول التعليم، ووضع مناهج للرقي بالأخلاق وتنفيذها، وإنشاء مجلة شهرية للجمعية لتأييد أغراضها … إلخ إلخ.
وقد اتفقوا على أن يكون مركز الجمعية المؤقت هو مصر، لتقدُّمها في العلم والحرية، ولأنها أسبق الأمم الإسلامية في ذلك.
- (١)
المسلمون في حالة فتور عام.
- (٢)
يجب تدارك هذا الفتور.
- (٣)
أسباب الفتور.
- (٤)
جرثومة الداء الجهل.
- (٥)
الدواء تنوير الأفكار بالتعليم، وإيقاظ الشرق للترقي وخصوصًا في الناشئة.
- (٦)
تأسيس الجمعيات التي تقوم بهذا العلاج.
- (٧)
المكلَّفون بذلك كل قادر على عمل، وخاصة نجباء الأمة من السراة والعلماء.
- (٨)
تشكيل الجمعية الكبرى لهذا الغرض، ولتسَمَّ «جمعية تعليم الموحدين».
هذه نظرة الطائر إلى هذه الرواية العظيمة العميقة المفيدة، وهذا تفكير «الكواكبي» مِن نحو نصف قرن يشف عن سعة اطلاع وصدق إخلاص، وسموِّ فكر وبُعد نظر، وشجاعة وصراحة!! فإذا نحن اطلعنا على ما كان يكتب قبله في المجلات والصحف في مثل هذه الموضوعات رأيناها كانت أقرب إلى موضوعات إنشائية جوفاء، فنقلها هو إلى بحوث علمية عملية، يحلل ويذكر العرَض وسبب الداء وعلاجه في صبر وأناة واستقصاء.
كتاب «أم القرى» رواية جدية ليس فيها غرامٌ وغزل، بل فيها غرام بالعالم الإسلامي يعاني في سبيله ما يعاني المحب الهائم، ويود من صميم قلبه أن يصل محبوبه إلى أعلى درجات الكمال، ويضحي من أجله بماله الذي ضيعه عليه الظَّلمة لتمسكه بالحق، ويضحي بوطنه فيهجره؛ لأنه لم يستطع أن يجهر برأيه في حلب فجهر به في مصر، ولا بأس، فكل بلد إسلامي وطنه — كان يحب التخصص، وأن كل قادر يحصر نفسه في فرع من فروع العلم أو الفن حتى يتقنه؛ حتى وضع ذلك في نظام المدارس التي كان يتمنى إنشاءها. فطبق ذلك على نفسه، فلم يوزِّع نفسه بين فقه ولغة، وما إلى ذلك، إنما وهب نفسه لإصلاح المسلمين، فدرس التاريخ الإسلامي في دقة وإمعان يتعرف فيه الأسباب والنتائج، كما تدل عليه كتابته، وساح في البلاد الإسلامية سياحةً فاحصة منقِّبة، درس كل قطر إسلامي ومزاياه وعيوبه، حتى إنه لما وضع روايته «أم القرى» أنطق كل عضو بعقلية قطره: النجدي يشكو من ضياع الدين، والرومي يشكو من ضياع الحرية وسلطة المتعممين، والإسكندري يشكو ضعف الأخلاق، والإنجليزي ينعي على المسلمين عدم المجتمعات وتبادل الرأي بالخطب والمحاضرات ونحو ذلك.
اكتوى السيد جمال الدين الأفغاني من السياسة الأوربية ولعبها بالمسلمين، فصبَّ عليها جام غضبه، واستغرقت حملته على السياسة الإنجليزية أكبر قسم في العروة الوثقى، واكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضوع نقده. نظر الأفغاني إلى البيئة الخارجية للمسلمين فدعاهم إلى أن يناهضوها؛ ونظر الكواكبي إلى نفس المسلمين فدعا إلى إصلاحها، فإنها إن صلحت لم تستطع السياسة الخارجية أن تلعب بهم. ولذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة تأثر، تخرج من فمه الأقوال نارًا حامية، ومعالجة «الكواكبي» معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء، ويكتب الدواء في أناة: الأفغاني غاضب، والكواكبي مشفق، الأفغاني داعٍ إلى السيف، والكواكبي داعٍ إلى المدرسة. ولعل هذا يرجع أيضًا إلى اختلاف المزاج، فالأفغاني حاد الذكاء حاد الطبع، والكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وُضعت أمامهما عقبة تخطاها «الأفغاني» قبل، وتخطاها «الكواكبي» بعد، ولكن مِن خير نقطةٍ تُتخطى؛ فلا عجب أن كان للأفغاني دويُّ المدافع، وكان للكواكبي خرير الماء، يعمل في بطء حتى يُفتت الصخر!
لو مُكن له معرفةُ لغةٍ أجنبية، ووقف على ما وصلت إليه بحوث علم الاجتماع الحديث، لكان له منبع فياض إلى جانب غزارة فكره.
وبينما الناس يعجبون بما ينشره من مقالاتٍ إصلاحية في المجلات والجرائد، ومجلس الفضلاء في مصر عامر بحديثه وجدله ودفاعه المؤدب عن آرائه، إذا بالصحف المصرية تطلع بنبأ موته الفجائي يوم ٦ من ربيع الأول سنة (١٣٢٠)، فأسف عليه كل من كان محبًّا لإصلاح المسلمين، وبكى إخوانه الذين كانوا يرون فيه رجلًا نبيل الخلق، سامي المقصد، عفَّ اللسان، نقيَّ الضمير. فرحمه الله!!