محمد والتوحيد
إن أردنا أن نلخص الإسلام في كلمة قلنا: «التوحيد»؟
وإن أردنا أن نوجز عمل النبي ﷺ مِن بدء مبعثه إلى يوم وفاته، قلنا: «العمل على التوحيد».
وإن أردنا وصفَ الناس عند دعوته، ووصفَهم عندما أسلم روحه لخالقها، قلنا: إنه تعددٌ وتفرق لا حدَّ له، أخذ يزول شيئًا فشيئًا، ويتجمع شيئًا فشيئًا، حتى حل التوحيد محل التعدد.
هذه هي العرب في جزيرتها يوم تسلَّمها محمد، قبائل متعددة لا تربطها رابطة، لكل قبيلة لغتها، ولكل قبيلة صنمها، ولكل قبيلة مكانها ومرعاها، وشيخها وتقاليدها؛ إن عرفت قبيلةٌ قبيلةً أخرى، فإنما تعرفها يوم تغير عليها، ثم يكون الحرب والقتال والأخذ بالثأر، وكفُّ المغلوب على مضض، وكفُّ الغالب حتى يستعد للوثبة، وهكذا. غرض الفرد في الحياة أن يأكل ما يجد، وينهب إذا لم يجد، ويقاتل مع أفراد القبيلة إذا قاتلت؛ وغرض شيخ القبيلة أن ينعم بطيبات المغانم ويرأسها في القتال، وغرض القبيلة أن تستعد للوثبة يوم تغير، وللدفاع يوم يغار عليها!! وهذا ملخص حياتها.
فماذا فعل الإسلام لتوحيد الكلمة، وماذا فعل محمد؟
أسس الإسلام عقيدةً عامة يجب أن يعتنقها كل مسلم، فليس الإله إله قبيلة، ولكنه رب العالمين؛ وليس الفخر بالقبيلة ولا بالأنساب ولا بالمال والبنين، ولكن بالعمل الصالح، والعمل الصالح هو ما يُحسِّن العلاقة بين الإنسان وربه، والإنسان والإنسان، وكل إنسان مسئول عن عمله: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ. الغني والفقير سواء والقرشي والباهلي سواء، وبنتُ محمدٍ وبنت غيره سواء، والرجل والمرأة سواء، لا يعبأ الله بقبيلة ولا يعبأ بنسب — لا لاتَ ولا عزَّى، ولا قرابين ولا أوثان؛ ولكن لا إله إلا الله، هو الخالق وهو المحاسب، وهو الغرض: فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ. إذًا فالفروق بين القبائل لا معنى لها متى اتحد الغرض واستوت الأفراد، والأصنام التي تميز بين القبائل لا معنى لها لأنها آلهة باطلة، والاعتزاز بالحسب والنسب والقبيلة لا معنى له لأنه لا يدخل في ميزان الأعمال.
وطبيعي أن تُحدث مثل هذه الدعوة اختلافًا بيِّنًا بين مؤمن بالتعاليم الجديدة وكافر بها، ولكن مهما كان فقد نشأ تطور جديد حتى في الخلاف، فبعد أن كان الخلاف بين قبيلة وقبيلة أصبح الخلاف بين معتقدين في الدين الجيد، ومحافظين على الدين القديم، وهذه طائفة مهما تعددت قبائلها، وتلك طائفة مهما تعددت قبائلها. وأعلن رسول الله أن المؤمنين إخوة، وأن الكفر ملَّةٌ واحدة، وكان لهذا الخلاف فضلٌ، إذ جعل جزيرة العرب معسكرين اثنين بعد أن كانت المعسكرات بعدد القبائل.
وجدت في الدعوة الإسلامية نقطة ارتكاز، قوامها الرسول وطائفةٌ معه قليلٌ. عددها، قويٌّ إيمانها، تدعو دعوتها في سلام، وكل وسائل إقناعها الحجة والبرهان. ماذا تغني اللاتُ والعزَّى، وما يغني التكاثر بالمال والبنين، وما الفخر بالنسب إلى نحو ذلك؟!
ولكن القوم خرجوا من مقارعة الحجة بالحجة إلى مقارعة الحجة بالسيف، فالرسول يُضطهد، والمؤمن يُعذَّب، والدعوة تُكبت.
فلا بد — إذًا — من مقابلة القوة بالقوة، والسيف بالسيف، والحرب بالحرب فاتسعت الدائرة، وأصبحت العقيدة الجديدة تحميها القوة المادية بجانب القوة الروحية، ويتمثل جيشها في المهاجرين والأنصار، كما احتمت العقيدة القديمة بالقوة، وتمثلَ جيشها في صناديد قريش. ووُجد مركزان للقوتين: «المدينة» للمسلمين، و«مكة» للكافرين.
إذًا لا بد من الدعوة، ولا بد من القوة تحمي الدعوة.
وظلت القوتان تتقاتلان نحو عشر سنوات انجلت عن نصرة الإسلام، وتوحُّد جزيرة العرب تحت لوائه، تدين كلها بدين واحد، وتؤمن بعقيدة واحدة، وتخضع لنظام واحد، ويدوِّي في أرجائها كلها: لا إله إلا الله.
لم يكن السيف وحده هو القوة الفعالة؛ فقد كان سيف أعدائه أقوى من سيفه، ولا كانت القوة المادية وحدها هي العاملة في هذا التوحيد، وإنما كانت هناك خطة توضع بعيدة الغرض صحيحة القصد، تُعين على الوصول إلى هذه النتيجة، فما هي؟
أولُ كل ذلك تعاليم الدين نفسه؛ فاتحاد الغرض، وهو إعلاء كلمة الله الذي يتمثل في اتحاد القبلة وتوجُّه المسلمين كلِّهم جهة واحدة، جعلهم قلبًا واحدًا، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم، ثم ضَمُّ الآخرة إلى الدنيا في الحساب جعل الحياة رخيصةً في سبيل المبدأ؛ فهو يجاهد بكل قلبه وبكل قوته، فإن عاش عاش سعيدًا، وإن مات فهو أسعد.
فالتضحية العظيمة في النفس والمال اتحدت مع الأنانية في سعادة باذلها، فإذا دَمِيتْ الإصبع قال قائلهم:
وإذا ذهب المال قال صاحبه: «إن المال عرض زائل».
وإذا أشرف على الموت في الجهاد تمثل بقول الشاعر:
ثم قيادة حكيمة، حازمة رحيمة؛ لا تضحِّي جندَها لخيرها، ولكن تضحي نفسها وجندها لعقيدتها؛ ولا تسخِّر جيوشها لتجلس على أكداس غنائمها، وإنما غنائمُ الجيش له وللمسلمين، وقائدهم أحدُهم؛ ثم قوةٌ في القيادة عظيمة، علَّمت عظمتها الجنود كيف يطيعون ولا يختلفون؛ فلكلٍّ مركزه كما رسمه القائد الأعلى، ولو كان عمر في جيش أسامة وكلٌّ يؤدي واجبه ولو أُمِّر عليه عبدٌ حبشي كأنَّ رأسه زبيبة.
فاتحاد الغرض وَحَّدَ القلوب، ووَحَّد بين الرئيس والمرءوس، ووحَّد في التضحية بين القائد والجندي، فأصبحت جزيرة العرب وِحدة واحدة؛ لأن كل شيء في إدارتها كان يرمي إلى التوحيد؛ الفرص متكافئة لكل رجل ولو كان من أوضع قبيلة؛ ليتفوَّق بحسن عمله. ومَن بلال، ومَن صهيب، ومَن سلمان الفارسي، لولا تعاليم الإسلام بإهدار الدم والجنس والقبيلة، والمناداة بأن أكرمكم عند الله أتقاكم؟!
ليس هناك نظام للطبقات تؤسَّس على الغِنى والفقر، ولا طبقات تؤسس على الفروق بين الحاكم والمحكوم، ولا طبقات تؤسس على الدم والحسب والنسب؛ بل كلٌّ يقوَّم بعمله و«رُبَّ أشعث أغير ذي طِمرين تنبو عنه أعين الناس لو أقسم على الله لأبرَّه».
وراء المادة روح، ووراء العمل قلب، ووراء الأعمال الظاهرة بواعث نفسية، وأمام كل مسلم غرض هو إعلاء الحق وكلمة الحق وتطهير النفس؛ وهذا الغرض الواحد أمام الجميع يُوَحِّد الأعمال وإن اختلفت مظاهرها.
ثم هذا هو الإسلام، وهذا هو محمد ينادي بالأخوَّة في العقيدة، ويعمل عليها وينشرها في جو الجزيرة العربية؛ ليستنشقها كل مسلم «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم — المسلم أخو المسلم — المسلمون إخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى — المؤمن يألَف ويُؤلَف ولا خير فيمن لا يألَف ولا يُؤلَف، وخير الناس أنفعهم للناس — المؤمن أخو المؤمن يكفُّ عليه ضيعته ويحوطه مِن ورائه». وهكذا. ومنذ أن ظهر الإسلام ومحمد يؤاخي بين الصحابة ويراعي في ذلك مزاج المتآخين، وهدم الفروق المالية والقبيلة. فهذا مكَّن لهم — في تعاطفهم وتوحدهم — أخوَّة بين الفرد والفرد، وبين القبيلة والقبيلة. وبين الفرد والحاكم، وبين الرجل والمرأة، حتى كادت الأخوَّة تكون شعار الدين.
ثم القرآن وحَّد اللغة كما وحَّد الدين، فضعفت اللهجات الأخرى غير لهجة قريش، وماجت الجزيرة العربية بأهلها في الحرب وفي السلم، وكثرَ تقابلهم وتحادثهم وامتزاجهم، وكثرت تلاوتهم للقرآن والحديث، فإذا اللغة متحدة أو متقاربة كالدين.
لقد تسلَّم «محمد» جزيرة العرب وهي «أقطاع» تقتطع كل قبيلة منها قطعة تستقل بها، وخلَّفها أمةً واحدة في دينها وفي لغتها وفي غرضها، تخضع لنظام واحد وتشريع واحد، وليس هذا بالأمر اليسير؛ فتوحيد بلاد الفرس في أمة أو بلاد الرومان في أمة، أيسرُ ألف مرة من توحيد سكان جزيرة العرب في أمة؛ لبعد ما كان بين بعضهم وبعض في الأرض وفي النفس؛ ولأنهم لم يخضعوا لنظام سابق، ولم يمرنوا على الخضوع لحاكم ولا لإطاعة أحد غير شيخ القبيلة، وكل واحد منهم ملكٌ في نفسه معتزٌّ بدمه وعصبيته ولغته وإلهه؛ فتوحيد أشتاتٍ كهؤلاء وجعلهم أمةً فيها كل خصائص الأمة معجزة المعجزات. وصدق الله إذ يقول: وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا.
فالتوحيد أول كلمة في الإسلام وآخرها، وأول عمل من أعمال الرسول وآخره.
•••
لقد رمى الإسلام أن يوحِّد العالم بعد أن وحد جزيرة العرب، وما الذي يمنع من ذلك؟ إن رب العرب رب العالمين، ورب السماء والأرض ورب الطبيعة كلها، فلو عبد الناس كلهم ربَّهم الحق لتوحدوا في العقيدة، وأصبح العالم وحدةً، وما يمنع الناس أن يؤمنوا بهذه العقيدة إلا دينٌ انحرف عن القصد، وربَّانيون تجار، وملوك يحتفظون بملكهم فيجارون شعورَ شعبهم وسلطة ربَّانييهم؟!
إن الإسلام مرتبط بالطبيعة أشد ارتباط، ويذكِّرنا دائمًا بالنظر إليها والعبرة بها والاستدلال منها على خالقها؛ فيدعو إلى التفكير في السماء كيف رُفعت، وإلى الجبال كيف نُصبت، والأرض كيف سُطحت، والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض، والشمس والقمر يتعاقبان، والبحار والأنهار تجري بأمره، فماذا يحول بين الناس وبين خالقهم في كل بقعة من بقاع الأرض أن يفكروا، فيعبدوا الله وحده خالق هذا الكون ومبدعه! اقرءوا إن شئتم: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا .
ثم هذا الإسلام يؤمن بكل ما أتى به الأنبياء من قبل، من آدم إلى عيسى، ويُعظمهم ويمجدهم، ويرى أنهم كمحمد، وأن الله الذي أرسله أرسلهم، وأن دعوته ودعوتهم واحدة، عمادها التوحيد وعدم الشرك، ومن آمن بدعوتهم صحيحة كان كمن آمن بدعوة محمد: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَىٰ نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ.
فالأساس واحد كما أن إله الجميع واحد، وما فرَّق بين الناس إلا الأغراض والشهوات، وحب الدنيا وحب الرياسة: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا.
فلِمَ لا يزول هذا الخلاف في العقيدة، وتتَّحد عقيدتهم كما توحَّد خالقهم؟
هذا جانب العقيدة. أما الجانب العملي في الحياة فكذلك؛ أليس من الخير أن يسود الناسَ العدلُ فلا يكون ظلم، ويُعلَى شأن الفرد فلا تكون عبودية، وتكون الحكومة للفرد لا الفرد للحكومة، ويُسوَّى بين الناس فلا يُقوَّم الرجل إلا بعمله؟! فما بال مَن حول جزيرة العرب من فرس وروم وأحباش تسوء حالة رعاياهم؟ فغنًى مفرط بجانب فقرٍ مفرط، وإسرافُ حكَّام في الملاهي والملذات على حساب الشعوب، وطبقاتٌ عالية تستولي على الخيرات ولا تترك للطبقة الدنيا إلا الفتات.
ما بال العالم لا تتوحد قواعده الأساسية في الحكم كما تتوحد في العقيدة، فيكون عدلٌ مطلق، وحرمةٌ للرعية دقيقة، وأمن شامل، ونظامٌ شامل، وأخوةٌ شاملة، وإهدارٌ للجنسية، فلا عرب ولا روم، ولا فرس ولا أحباش، ولكن خلقُ الله يتآخون أفرادًا ويتآخون أممًا، وتحلَّ الإنسانية محل الجنسية، وعبادة الله الحق وحده محل الآلهة المصطنعة المتعددة، فيكون توحيد في العقيدة، وتوحيد في العمل، وتعاونٌ في العالم؟!
على هذا الأساس أرسل محمدٌ ﷺ كُتبه إلى ملوك العصر المجاورين للجزيرة: هرقل عظيم الروم في الشام، والمقوقس في مصر، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة، يدعوهم إلى التوحيد، فإذا توحَّدوا توحَّد العالم.
يقول في هذه الكتب التي أرسلها للنصارى منهم: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ.
ولكن أنَّى يلبِّي هؤلاء الملوك الدعوةَ ومقياسُ الأشياء عندهم المظهر لا المخبر؟ فكيف يجرؤ عربي بدوي في الصحراء ملتفٌّ بإزاره أن يدعو من يُغرق في الترف، وينعم في الحضارة، ويرفل في الدمقس وفي الحرير، ويسير في الجنود والبنود، ويرث الروم في مدينتهم، أو الفرس في عظمتهم وفخفختهم؟!
بل كيف يلبون الدعوة وهي تدعو إلى إزالة الفوارق ومساواة السيد بالعبد، والراعي بالرعية، والحاكم بالمحكوم، وتلغي الطبقات وهي عماد الدولة في نظامها وتشريعها وماليتها وكل شيء فيها؟!
لا! لا! مزَّقوا الدعوة احتقارًا، أو ردوا الرسول محمَّلًا ببعض الهدايا استخفافًا.
وهكذا صدُّوا عن أسمى فكرة وهي التوحيد في العقيدة والعمل، ولصقوا بالتقاليد في العقيدة والعمل.
فلما لقي محمدٌ ربَّه، نفَّذ بعضَ الخطة خلفاؤه.
•••
أما بعد، فلا يصلح آخِرُ الدين إلا بما صلحَ به أوَّلُه، كان التوحيد هو الأساس، ولا يزال هو الإصلاح. كل تعاليم الإسلام باقية ولكن فقدت روحها، واحتفظت بجسمها ولكن ضعفت حرارة قلبها، قد كانت عقيدة «لا إله إلا الله» تعني توحيد المعبود، فأصبحت الآلهة متعددةٌ عملًا، وإن توحَّدَ لفظُ التوحيد لفظًا؛ فالمال معبود، والسلطان معبود، والشهوة معبودة، والدنيا معبودة، فلا بد أن تُكسر هذه الأصنام آخرًا كما كُسرت أولًا. وكان هناك توحيدٌ في العمل، فالقيادة واحدة، والنظام واحد، والرأي — بعد الشورى — واحد، فإذا كل رأسٍ رأسُ قائد، وكل متكلم زعيم، وكل زعيم مستبد، وحب الشهوة يلعب، والأنانية تلعب، والدسائس للتفريق تلعب. وكان في الإسلام أخوَّة تبعث الحب، والحب يوثق الصلة، فإذا العداوة في كل جوٍّ تُرضع مع اللبن، وتُتنفس مع الهواء. ولم تكن هناك طبقات، فتعددت الطبقات من كل جنس، على أساس الدم والمال والمنصب والسياسة. وعلى الجملة، فكل دعوة إلى التوحيد تقابَل بألف مشكلة من أنصار التعديد، وكل تعديدٍ فُرقة، وكل فرقة ضعف، وكل ضعيف عُرضة لأن يلتهم، ولا عظة بالتاريخ، ولا عبرة من أحداث الزمان، فيا لله للمسلمين!!