أغنى الناس …
أما في نظر مصلحة الضرائب وعند الصرافين، وفي حساب البنوك فأغنى الناس أكبرهم رصيدًا، وأكثرهم دخلًا وأعظمهم «وِرْدَ مال».
ومن أجل هذا يُعد أثرياءُ الحرب من أغنى الناس؛ فهذا مورِّد بضائع للمراكب كسبَ مئات الآلاف، وهذا متعهد أنفارٍ أصبحت ثروته تُعد بالأرقامٍ الأربعة أو الخمسة، وهذا يقدِّم للجيش بعض المؤن وأنواع الأغذية قفز دفعة واحدة من فقرٍ مدقع إلى ثراء واسع.
فهؤلاء جميعًا وأمثالهم يعدون من أغنياء الناس في نظر الإحصاء، وفي نظر علماء الاقتصاد وفي نظر من يعوِّلون على الدفاتر والسجلات.
ولكن بجانب هؤلاء العدَّادين قوم آخرون يُسمون الأخلاقيين أو الفلاسفة، لا يقدرون المال بعدده ولكن بقيمته، ولا يقدِّرونه بالقدرة على الشراء ولكن بقدرته على الإسعاد، ولا يقدِّرونه بالرصيد ولكن بمقدار الانتفاع به، فقد تكون ألف جنيه في يد رجل مصدر شقائه، وعشرة جنيهات في يد رجل آخر مصدر سعادته، فهم يَعدُّون الثاني ذا العشرة أغنى من الأول ذي الألف.
وقد يعد بعض الناس هؤلاء الأخلاقيين أو الفلاسفة طائفة من الخيالين أو المغفلين، ولكن — مع الأسف — نظرتهم هي الصادقة، على الأقل في نظري.
فكم من ثري حربٍ تدفق المال على يديه من غير حساب، وضعف عقله من غير حساب أيضًا، فكان المال في يده ليس إلا وسيلةً لأن يلهو من غير قيد ولا شرط، ويسرف في الخمر والنساء والقمار؟ فيفقد أسرته وأولاده ونفسه وصحته، ويكسب شهوةً وقتيةً سريعة الزوال، وهذا هو كل نتيجة الثروة، أو أن يشيد قصرًا فخمًا ويزينه بالأثاث الفاخر والخدم والحشم، ويتزوج زوجة جديدة مناسبة للقصر الجديد، ويقيم الولائم تزخر بالمأكول والمشروب، ولكن كل هذا طلاء ظاهر، ولا ذوق يتذوق جمال القصر وأثاثه، ولا عقل يستمتع بهذا النعيم، وإنما هو مظهرٌ ورياءٌ ونعيم كنعيم البهيم، ولذة كنار الهشيم، تشتعل سريعًا وتنطفئ سريعًا؛ وآخر من أثرياء الحرب رأى المالَ يتكاثر عليه فجنَّ به جنونه، ونما عنده الحرص والطمع إلى درجة الشره، وانقلب المال في نظره مِن وسيلة للسعادة إلى مقصد يُطلب لذاته. فأصبحت حياته كلها موجهة إلى جمع المال وادخاره وكنزه، فعاش في الواقع هو وأهله أفقر مما كانوا قبل أن يغتني، ولم يزد عليه إلا أعباء المال الثقيلة والتفكير العنيف في كيفية استغلاله والمحافظة عليه. وغير هؤلاء أشكال وألوان كلهم في الشقاء سواء.
مِن أجل هذا جاء هؤلاء الأخلاقيون والفلاسفة (المغفلون!) وقوَّموا المال تقويمًا آخر بمعناه لا بعدده، وبكيفيته لا بكميته، وهؤلاء إذا سألتهم عن أغنى الناس أجابوا إجابة أخرى تختلف عن الإجابة الأولى كل الاختلاف. قالوا: أغنى الناس من مُنح الصحة في جسمه وعقله ونفسه — واستطاع أن يكوِّن حوله أسرة يسعد بها وتسعد به، ويعرف كيف يسعد في أسرته إذا نال الضروري من المال أو تدفق عليه المال، عنده من المرونة ما يستطيع بها أن يُكيف نفسه حسب ظروفه المحيطة به، لا يُغرقه الحزنُ فيختنق منه، ولا يطغيه السرور فينسى ما يجب عليه، ذو عقل مثقف يجد اللذة في المعاني كما يجد اللذة في المادة، يرى من ضرورات الحياة أن يكون في بيته مكتبةٌ لغذاء عقله وعقل أسرته كما في بيته «مطبخ» لتغذية معدته وعدة أسرته، فإن حُرم الكتاب كان كمن حُرم الطعام، له وجبة عقلية كما له وجبة غذائية؛ لذلك لا يستوحش من الوحدة إذا كانت؛ لأن بين يديه عقولًا كثيرة تحدِّثه، ولا يسأم من الجمعية إذا كانت؛ لأن عقله يجد فيها مادةً لتفكيره وغذائه. عقله الواسع ونفسُه الواسعة يوسعان عليه دنياه فلا يشعر بضيق كالذي يشعر به مَن قصر نفسه على اللذائذ المادية؛ لأن اللذائذ المادية قصيرة الوقت داعية السأم والملل؛ لقلة تنوعها وزهادة للنفس منها إذا أفرط فيها كما تُزهَد الحلوى إذا كثر سكَّرُها.
قد مُنح — إلى عقله الراقي — ذوقًا راقيًا يدرك الجمال ويُسر به وتتفتح نفسه له، يعشق الورد الجميل والبحر الجميل والمنظر الطبيعي الجميل وكل شيء جميل، ويرى أن حاسة الجمال حاسة سادسة مَن فقدها كان كمن فقد بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، فكان هذا مصدر متعةٍ كبيرة في حياته.
ينظر إلى الدنيا نظرة اطمئنان، لا جازعًا على ما فات، ولا شديد التطلع لما هو آت، ولا مزهوًّا بما كان في يده، يعمل ما استطاع لتحسين حالته، وللخير الذي ينشده، وللرقيِّ الذي يصبو إليه، ولكن إذا بذل كل جهده في اطمئنان، فلا عليه بعد ذلك أن تكون النتيجة ما تكون.
وهو فوق سعة عقله ورقة ذوقه وطمأنينة نفسه قد مُنح شيئًا أهم من ذلك هو سعةُ قلبه. وسعة القلب معناها قلبٌ يشع بالحب على كل شيء، ويشع كل شيء عليه حبًّا، فهو كما وصفه ابن المعتز:
يحب الجار والصديق والطفل والحيوان، والجنس غير جنسه، والأمة غير أمته، فهو كما يقول الصوفية: «أحبوا الله فأحَبوا ما خلق»، حتى الأعداء فهمهم فرحمهم فأحبهم.
في هذا القلب الواسع مكانٌ لكل رأي ولو خالف رأيه، ولكل نظرةٍ ولو خالفت نظرته، وفيه مكانٌ للغد كما فيه مكان لليوم، ولكن ليس فيه مكان للخوف؛ فهو مميت كالسم، وليس فيه مكان للشك فهو مظلم كالليل.
ضيق القلب يستوجب الحربَ، وسعةُ القلب تستوجب السلم.
ضيقُ القلب يستنزف الدموع وسعة القلب تجففها.
إن ثِريَّ الحرب وأمثاله من الأثرياء ممن مُنحوا مالًا ولم يُمنحوا عقلًا ولا ذوقًا ولا قلبًا، يعيشون في أكواخ من أنفسهم ولو سكنوا في أفخم القصور، ويعيشون في ظلمة من قلوبهم ولو أضيئت مساكنهم بأقوى الأضواء.
فقيراطٌ من رقي عقلٍ ورقة ذوقٍ وسعة قلب، خير من فدانٍ مِن ثراء الحرب.