الرأي العام
الرأي العام رأي الأمة، رأي الشعب، رأي الجمهور، فإذا كان أغلب الناس يرى الدخول في الحرب أو عدمه قلنا: إن هذا هو الرأي العام للأمة، وإذا كان الناس يرون أن نظام التموين في البلاد صالح أو غير صالحٍ قلنا: إن هذا هو الرأي العام للأمة، وإذا كان الناس يمجدون شخصًا سياسيًّا أو يحتقرونه قلنا: إن الرأي العام يمجده أو يحتقره. وللرأي العام هذا سلطان كبير وخاصة في الحكومات الديمقراطية، فكل حكومة تعتمد على الرأي العام الممثَّل في البرلمان في بقائها في كراسي الحكم، وكل رجل يقوم بعمل عام كمدير السكة الحديدية أو التلغرافات أو مدير بنك أو نحو ذلك يعتمد على الرأي العام والثقة به، وإلا ما بقي في مركزه. فلو غضب جمهور الناس على مدير بنك أو مدير مصلحة أو أي قائم بعمل عام كان من الصعب أن يستمر في عمله في الحكومات الديمقراطية، بل كثير من الأعمال الحرة أيضًا محتاج لرضا الرأي العام عنه كالصحافة وكالأدباء وأصحاب الشركات وغيرهم، لا بد لنجاحهم في الحياة من رضا الرأي العام عنهم.
والسبب في هذا أن للرأي العام سلطانًا كبيرًا، يستطيع أن يرفع وأن ينخفض، وأن يولي وأن يعزل، ذلك لأن الناس في طبعهم رغبتهم في رضا مَن حولهم عنهم، وخوفهم من سخط الناس عليهم؛ فنحن في كل حياتنا اليومية نراعي رغبات الناس كما نراعي رغباتنا، نلبس ما يعجب الناس ونخشى أن نخرج من البيت من غير طربوش، ومن غير رباط رقبة خوفًا من نقد الناس، ونقيم الأفراح والمآتم إرضاءً للناس، ونجتهد في كل أعمالنا أن نرعى خواطر الناس، ونتجنب الأعمال التي تجعلهم يسيئون الرأي فينا. وما الملق والرياء والنفاق إلا وسائل مصطنعة للتحبب إلى الناس، وكسب رضاهم عن طريق الخداع. والرأي العام يتسلط على الناس ويوجههم ويخيفهم أكثر مما يفعل القانون.
وهذا الرأي العام شأنه شأنُ رأي الفرد؛ قد يكون قويًّا وقد يكون ضعيفًا، وقد يكون راقيًا وقد يكون منحطًّا، وقد يكون جاهلًا وقد يكون مثقفًا.
هناك رأي عام ضعيف مريض جاهل لا يمقت الكذب ولا الكاذب، ولا يكره الظلم ولا الظالم، وحينئذ ينتشر الكذب والظلم في الأمة؛ لأن الكاذب أو الظالم لا يردعه الاحتقار من الرأي العام. الأمة التي تحترم الظالم ولا تُسمعه كلمة سوء ولا تزدريه ولا تشعره بكراهيتها له، رأيها العام ضعيف مريض، وهي تستحق ما يجري عليها من ظلم، والأمة التي تكره الظلم وتعبر عن كراهيتها باحتقار الظالم وإهانته، أمة ذات رأي عام قوي لا يمكن أن يستقر فيها الظلم.
تصوروا قرية عددها خمسة آلاف نفس — مثلًا — إن كانوا يخضعون لظلم العمدة، ولا يقولون له كلمة تدل على كرههم لظلمه ولشخصه، ويَرَونه يرتشي ثم يسكتون عنه، ويَرَونه يسلب الضعيف حقه ثم هو يسمع كلمات المدح والثناء؛ فهذا رأيٌ عام ضُربت عليه الذلة والمسكنة. وأيُّ شيء يردع العمدة عن استمراره في ظلمه ورشوته؟ وتصوروا هذه القرية لا تقر ظلم العمدة، وإذا ظلمَ قالوا له: أنت ظلمت، واحتقروه لظلمه وسمع منهم كلمة الذم والكراهية، إنه سوف يعدل عن ظلمه، وإذا استمر لا يمكن أن يبقى عمدة مع كراهية أهل البلدة له إذا كانت هذه الكراهة مصحوبة بصراحةٍ.
وكذلك شأن العمد مع المأمورين، والمأمورين مع المديرين، والناس مع الحكومة، لا يبقى الظلم مع قوة الرأي العام، وهذا معنى الحديث: «كما تكونوا يُولَّى عليكم».
الرأي العام إذا كان مغفلًا جاهلًا استطاع المهرجون أن يضحكوا من عقله، والمزيفون أن يخدعوه بألاعيبهم وحيلهم كما يخدع «الحاوي» المتفرجين، وكما يخدع الماكر الأطفال. ولكن إذا كان الرأي العام متنورًا قاسَ الأشياء بالمنطق السليم، ووزن الرجالَ بأعمالهم النافعة لا بأقوالهم المهرجة.
الرأي العام الجاهل يُخدع بكثرة الكلام، وكثرة الوعود، وبالملق، والرأي العام المتنور، إنما يقوِّم الساسة والقادة بعملهم ونفعهم وجدهم لا هزلهم.
الرأي العام الجاهل فاسد التقويم يقوِّم الرجل بملابسه وبغناه وبمظهره، ويقوِّم الأشياء بظواهرها. والرأي العام المتنور يُحسن تقويم الرجال والأشياء فيقومها بحقيقتها. والرأي العام الجاهل يتنازع على المسائل الحزبية والمسائل التافهة حتى في أحرج الأوقات. والرأي العام المستنير يعرف كيف يدفن خصوماته، وينسى أحقاده عندما يجدُّ الجد مراعاةً للمصلحة العامة. هذا الرأي العام شأنه شأن الفرد، فرأي الفرد قد يكون ضعيفًا فيقوى، وقد يكون جاهلًا فيستنير، وقد يكون مريضًا فيصح. هذا هو الطفل آراؤه سطحية فإذا تعلم وجرب ارتقى عقله وصح حكمه على الأشياء.
كذلك الرأي العام الجاهل يمكن ترقيته وإنارته. ووسائل ترقيته أمور: أهمها تعليمه وتثقيفه ومكافحة الأمية عنده؛ لأن الرأي العام هو مجموع رأي الأفراد في الأمة. ومِن غير شك رأيُ الجهلاء أقل شأنًا من رأي المتعلمين، ولا شيء أضر على الرأي العام من الجهل. فإذا كان في الأمة نحو ثمانين في المائة لا يقرءون ولا يكتبون كان الرأي العام فيها ضعيفًا غير مستنير، يعيش في أفق ضيق ويَفهم الأمور فهمًا سقيمًا، ولا يستطيع أن يُبدي رأيًا صالحًا في حياته الخاصة فضلًا عن الحياة العامة، ولا يتجلى فيه الشعور بالقوة والكرامة؛ لأن العلم هو مبعثهما. الأمي لا يستطيع أن يستنير بكتاب ولا بصحافة ولا يتصل بالأمة وشؤونها إلا من طريقٍ ضيق فاسد كالإشاعات والروايات الكاذبة؛ ولذلك كان من السهل أن يضلل وأن يُستهوى وأن يغرر به؛ فإذا أردنا تنوير الرأي العام فلا بد أولًا من مكافحة أميته، وليست مكافحة الأمية معناها تعليمه القراءة والكتابة فقط، بل تثقيفه أيضًا بالقدر الضروري من الثقافة في الشؤون العامة الصحية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وكلما قل الأميون والجاهلون في أمة، صلح الرأي العام.
كذلك من أهم وسائل إصلاح الرأي العام الصحافة من جرائد ومجلات مصورة وغير مصورة، سياسية وغير سياسية، ففي يد الصحافة سلطةٌ كبيرة على الرأي العام وتوجيهه، فهي تستطيع أن تمدَّه بالمبادئ المستقيمة والمعلومات القيمة، وتحسين الحَسن وتقبيح القبيح، وتشجيع الخير وتثبيط الشر، كما أنها إذا ساءت أفسدت الرأي العام بما تنشر من مهاترات شخصية أو توسيع الخلافات الحزبية أو تشجيع الظلم أو استغلال الغرائز الجنسية للمصلحة التجارية أو نحو ذلك — فالصحافة السليمة ترقي الرأي العام، والصحافة المنحطة تفسده — ولكن مع الأسف حتى الصحافة الصالحة تصطدم بالأمية؛ لأن الأمية لا تستطيع أن تستفيد من الصحافة؛ ولذلك كان تأثير الصحافة عظيمًا جدًّا في الأمم القارئة ضعيفًا في الأمم الأمية.
ومن وسائل ترقية الرأي العام الإذاعة؛ ففي يدها إذا صلحت أن تذيع آراء المحاضرين القيمة بلغة سهلة يشترك في فهمها كل الناس، وفي الموضوعات المناسبة للجمهور في الأخلاق والصحافة وكافة شئون الحياة — وهي أقدر على ذلك من الصحافة؛ لأن لكل إنسان أذنًا تسمع، ولكن ليس لكل إنسان عين تقرأ. بل هي كذلك ترقي الذوق العام بموسيقاها وأغانيها، ولكن إذا نزلت الإذاعة إلى مجرد ما يعجب الجمهور من غير أن تأخذه بيده وترقى به، أو فُهمت رسالتها على أنها شركة تجارية أو هيئة للدعاية أو نحو ذلك لم تحقق الغرض منها. فإن رسالتها الحقة التي يجب أن تكون هي تنوير الرأي العام، وترقية الذوق العام والقيام بما تقوم به مدرسة شعبية لتثقيف أكبر عدد ممكن من الشعب.
كذلك يَقوى الرأي العام أو يضعف بكل ما يحيط به من بيئة اجتماعية. فالخطب في المساجد وأقوال الوُّعاظ والمرشدين تُصلح الرأي العام إذا صلحت، وتُفسده إذا فسدت. والإدارة التي تحيط بالناس من عمدة ومأمور ومدير وبوليس وقضاء وأداة حكومية، كلها تُصلح الرأي العام بمقدار ما تنشره من عدالة، فإذا فسدت أفسدته — كذلك البيئة الاقتصادية، فانتشار الفقر يُمرض الرأي العام ويضعفه، والفروق الكبيرة بين الطبقات تجعل سواد الناس متخلِّقين بأخلاق العبيد. ولا شيء يُفسد الرأي العام كوقوعه في أسر الفقر وأسر الرق والذل والعبودية.
إن الرأي العام أكبر سلطان في الأمة، ولا يتم إصلاح حقيقي بدونه، وكل إصلاح من غير اعتماد عليه موقوت وعُرضة للزوال. وكل نظام وكل تشريع مهما كان صالحًا لا ضمان له ما لم يُدعم بالرأي العام.