الشرف
في الحرب الروسية اليابانية الماضية أُخذ بعض الضباط أسرى ووُضعوا في مكان وأُخذ منهم كلمة ألا يهربوا، ولم يوضع عليهم حراس اكتفاء بوعدهم وكلمتهم. فما الذي منعهم أن يفروا أو يهربوا؟ كلمة الشرف.
ومن حكايات العرب المشهورة أن حصن بن زرارة لما ضاقت المعيشة به وبقومه رحل إلى كسرى، فشكا إليه ما أصابهم من الجهد في أموالهم وفي نفوسهم، وطلب إليه أن يأذن له ولقومه أن ينزلوا في البلاد المتاخمة لفارس لخصبها، فقال كسرى: إن العرب فيهم غدر فإذا أذنتُ لهم عاثوا في الأرض وأغاروا. فقال: أنا ضامن لهم، قال كسرى: فمن لي أن تفي أنت؟ قال: أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك مَن حول الملك لتفاهة القوس وحقارتها. ولكن كسرى كان عارفًا بالرجل وبعادات العرب، فقبل منهم القوسَ رهنًا. فما الذي حمله على قبول قوسه الحقير؟ لأنه انضم إلى رهن القوس ذمة الرجل ووعدُه وكلمته، وقد برَّ بوعده، وهذا هو الشرف.
فالشرف في أبسط أشكاله أن يحافظ الطفل والشابُّ والرجلُ والمرأة على الكلمة تصدر منهم كأنها «عقد»، سواء في ذلك اللسان أو التوقيع بالقلم، والفرق بينهما أن التوقيع على العقد يُلزم به القانون، والنطق بالكلمة يلزم به الشرف.
وهناك مظاهر للشرف في كل عمل يعمله الإنسان. فالأطفال في أعمالهم قد يغشُّون فلا يكون لهم شرف، وقد يكونون أمناء فلهم الشرف. والبائع قد يغش في الكيل والميزان فلا شرف له، وقد يكون أمينًا فهو شريف. ورئيس الوزارة قد يحترم كلمته ويحافظ على بلاده، ويحفظ سمعتها فيكون شريفًا، وقد لا يقوم بذلك فلا يكون شريفًا، وهكذا.
وهناك نوع آخر من الشرف وهو حماية الضعفاء. فالدنيا مملوءة بالضعفاء؛ كالفلاح المسكين الذي لا يجد ما يأكل، والصانع الذي حدثت له إصابة منعته من العمل، والمريض الذي لا يجد ما يتداوى به، والأسرة التي مات ربها ولا عائل لها، والتلميذ النابغة لا يجد وسيلة لتعليمه، وهكذا وكل هؤلاء ضعفاء، وكل هؤلاء يحتاجون إلى المعونة لسد حاجتهم. فمساعدتهم وسد عوزهم والأخذ بيدهم ضرب من ضروب الشرف، فشريف من ينزل عن بعض ماله لمساعدة هؤلاء المنكوبين، وشرفاء من يؤسسون جمعياتٍ ينفقون عليها مِن مالهم وعقولهم ونشاطهم لرفع البؤس عن البائسين.
وهناك أنواع أخرى صغيرة من أنواع الشرف، إذا كان أمامك خطاب لآخر تستطيع أن تقرأه، ولكن رأيت من الواجب ألَّا تقرأه؛ لأنك لا تملكه فهذا شرف. وإذا اؤتمنت على سر فلم تَبُحْ به فهذا شرف، وإذا ضغطت عليك الحوادث لتسير سيرًا معوجًّا لا يتناسب والخلق السامي، فأبيت إلا أداء الواجب مهما ضحيت في سبيله فهذا شرف، وإذا كانت كلمة الحق تهددك في منصبك أو مالك فقلتها ولم تبالِ بالعواقب فهذا شرف.
إذًا فيجمع الشرفَ كلمة واحدة هي أن تحافظ عل الكلمة تصدر منك، وعلى واجبك تؤديه على الرغم من كل شيء.
وللشريف مكافأتان؛ مكافأة يكافئه بها الناس، ومكافأة يكافئ بها نفسه. فمكافأة الناس كالأوسمة والرتب وبعض المناصب والمكافآت المالية، والدرجات الجامعية وإقامة الخطب والهتافات إذا مُنحت كل هذه لرجل شريف لأداء عمل شريف.
وهناك مكافأة أهم من هذه وهي مكافأة الشريف نفسه برضا ضميره لأداء واجبه، هي راحة نفسه وسرورها باحتمال المشقة لعملٍ ما كان ينبغي أن يُعمل، ولذة هذا الشعور تفوق كل لذة.
كان الجنرال «غوردون» قائد حملةٍ في الصين فلما انتهت مهمته كتب يقول: «إني أعلم أني سوف أترك الصين فقيرة كما دخلتُها، ولكن ضميري مرتاح؛ لأني استطعت أن أنجي نحو مائة ألف نفس من الموت، وهذا كل عزائي». ولما مُنح ألقاب الشرف على عمله قال: إن هذه الألقاب والنعوت كلها لا تساوي عندي «بنسين»، ولما منحه إمبراطور الصين ميدالية ذهبية صهرها، وباعها وتصدق بثمنها على فقراء الصين.
الطفل الشريف يأبى أن يعمل عملًا يسيء سمعته أو فصله أو مدرسته أو حزبه في مدرسته. والرجل الشريف يأبى أن يعمل عملًا يضر بأسرته أو حزبه أو أمته، والمرأة الشريفة تأبى أن تأتي عملًا يضر بأسرتها أو أمتها. بل أكثر من ذلك أن الرجل الشريف أو المرأة الشريفة عنده شعور قوي يدفعه للإعجاب بمن يأتي بعمل يشرف أسرته أو أمته. ويتجلى هذا الشعور بالقول وبالتبرع وبالتكريم، كما أن هذا الشعور القوي يدفعه إلى السخط الشديد على من يرتكب عملًا نذلًا يحط من شأن أسرته أو أمته، ويترجم هذا الشعور بالقول والعمل.
وكما أن هناك جنيهًا صحيحًا وجنيهًا مزيفًا، وعقد بيع صحيحًا وعقدًا مزيفًا، كذلك هناك شريف صحيح وشريف مزيف، فكل الأنواع التي ذكرتها من المحافظة على الكلمة ومساعدة الضعفاء وقول الحق في صراحة، وأداء الواجب في أمانة ودفع السوء عن الأسرة والوطن، وجلب الخير لهما، كل هذه أنواع من الشرف الصحيح. أما الشرف المزيف فأنواع كذلك، كالشرف بالغنى الذي لا ينفع الغني به أمته وقومه، فاحترم الناس للغني لأن عنده ألف فدان وأقل أو أكثر احترام خاطئ، وتعاظم الغني لأن عنده هذه الأطيان شرف مزيف. إنما يكون شريفًا صحيحًا يوم يفخر أنه استخدم غناه في مصلحة قومه فساهم في أعمال الخير، وتبرع لرفع البؤس عمن كانوا سبب غناه، وخفف بماله بؤس البائسين وعوز المحتاجين.
كذلك من الشرف المزيف الفخر بالمنصب كأن يكون وزيرًا أو مديرًا أو في الدرجة الأولى أو الثانية، فهذا الفخر إن لم يقترن بالعمل النافع شرف مزيف. وواجب الأمة العاقلة أن تزن الأمور بميزان صحيح، فلا تبذل من الاحترام والتوقير والإجلال لغنيٍّ أو وزير أو مدير إلا بمقدار ما يُسدي للأمة بماله ومنصبه من خير. ولو عقل الناس لاحترموا كناسًا في الشارع يؤدي واجبه أكثر مما يحترمون وزيرا لم يؤدِّ واجبه بل أضاع واجبه.
كذلك من ضروب لشرف المزيف الفخر بالحسب والنسب، فهو من أسرة فلان ومن بيت فلان ونسيب فلان وابن فلان وحفيد فلان، فكل هذا لا قيمة له في الشرف ما لم يُدعم بالعمل النافع. ورجلٌ عصامي نشأ من بيت فقير وكان أبوه نجارًا أو حدادًا، ثم أتى بعملٍ جليل خيرٌ من الحسيب النسيب لا يأتي عملًا أو يأتي ما يشين.
ومثلُ هذا من الشرف المزيف: الأمة تفتخر بماضيها ولا تعمل لحاضرها ومستقبلها. والشاعر العربي يقول:
فالذي يشرف بماله أو بمنصبه أو نسبه أو تاريخه شريف مزيَّف ما لم يأتِ بأعمال شريفة من نفسه.
الشريف يحترم نفسه فلا يعمل الدنيء من الأعمال، ولو أمن أن يطلع عليه أحد، ويخاف من ضميره أكثر مما يخاف من غيره، ويترفع عن الصغائر ويحرم نفسه من بعض المباح لأنه يرى نفسه أرفع من أن تأتي بمواضع الشُّبه. والشريف يسمو إلى الغرض النبيل، ولا يهدأ ضميره حتى يناله أو يقرب منه.
لقد أخذت اللغة الإنجليزية من اللغة العربية كلمة «شريف»، واستعملتها في بعض المناصب الرفيعة، وسمَّت بعض المحاكم «محكمة الشرفاء»، فهل يعتز العرب بهذه الكلمة، ويتخذونها أساسًا لأفعالهم كما تأصلت في لغتهم؟ أرجو ذلك.