قصة محتال
قرأت منذ أيام عن رجل من الأعيان استغفله دجال وأوهمه أن في بيته كنزًا لا يُفتح إلا على وجه ابنته، ثم غافله وأخذ بنته وماله وهرب بهما. والاستغفال داء قديم عُرف في كل العصور وعند كل الأمم، ولكن قلَّ اليوم بانتشار العلم وتعلم الناس، وكلما كانت الأمة أجهل كانت مرتعًا خصبًا للمغفلين والمستغفلين، وكلما زادت ثقافةُ الشعوب آمنت بأن المسببات لا بد لها من أسبابها، وأن الدنيا قائمة على قوانين طبيعية لا تتخلف، فلم يستسلموا للدجالين والمحتالين.
وللدجالين فراسة قوية مهروا فيها كل المهارة، فهم ينظرون إلى الشخص فيعرفون مقدار ذكائه أو غفلته، وهل هو ممن يُضحَك عليه أولًا، ومن أي ناحية هو مغفل، ثم ينصبون شباكهم حسبما أدتهم فراستهم.
ولهؤلاء الدجالين طرق مختلفة لا عداد لها. فضربٌ بالرمل، والكنوز المخبوءة في البيوت التي تحرسها العفاريت ولا تُفتح إلا بالبخور والعزائم، والمشايخ الذين يأكلون النار والحيات، والذين يقرءون الكف وينبئون بالمستقبل، والذين يزعمون أنهم يؤاخون الجن والعفاريت فيُفضون إليهم بالأسرار، والذين يقرءون «الكوتشينة»، ونحو ذلك من ضروبٍ لا تُحصى.
والمغفلون أنواع والمستغفَلون أنواع، فهناك من يسهل استغفالهم لسذاجتهم وضعف عقلهم، ومنهم من يصعب استغفاله لقوة عقله، ولكنه يُرزق بمن هو أقوى منه عقلًا وأوسع حيلة فلا يزال به حتى يستغفله.
وكان من أهم طرق الاستغفال في العصر الماضي، ولا يزال دعوى القدرة على قلب الرصاص والحديد والنحاس وجميع المعادن ذهبًا بطريق الكيمياء، وقد شغلت هذه المسألة عقول الناس زمنًا طويلًا وجرى فيها الجدل الطويل: هل هذا ممكن أو ليس بممكن؟ وكم أضاع كثير من الناس أموالهم وأعمارهم في سبيل التجارب التي يجربونها؛ ليحصلوا من الرصاص أو نحوه على ذهب، وكم في دار الكتب من كتب في هذا الموضوع لا يزال بعض الناس يطلبها ليقرأها، وقصتنا هذه تدور حول هذا الموضوع، وخلاصتها:
أن السلطان الملك العادل نور الدين زنكي — ذلك الملك العظيم الذي ربَّى صلاح الدين وفتح به مصر، والذي مد سلطانه على مملكة واسعة، فملك الموصل وديار الجزيرة والشام ومصر واليمن وخُطب له بالحرمين، والذي دوخ الصليبيين وعلَّم صلاح الدين أن يُتم في حروبهم ما بدأ هو به، والذي له المآثر الحميدة في العدل وحسن السيرة. هذا السلطان مع كبر عقله وقوة نفسه استطاع محتال أن يضحك عليه، وينصب له شبكته حتى يقع فيها — كما يحكون.
ذلك أن رجلًا عجميًّا أتى إلى دمشق حيث يقيم نور الدين وكان معه ألف دينار، فبردَها وجعلها ناعمة كالتراب، ثم خلطها ببعض العقاقير وعجن الجميع بغراء السمك، ثم قطعها حبوبًا كالحمصة وجففها، ثم لبس لبس الصوفية وتزيَّى بزي الصالحين، ووضع هذه الحبوب في مخلاةٍ وأتى إلى دكان من دكاكين العطارين وقال له: أتشتري مني هذا؟
قال العطار: فما هو؟
قال الصوفي: إنه نوع من الدواء يسمى «طبرمك» ينفع من السموم، ويشفي كثيرًا من العلل ويدخل في جميع الأدوية التي تعدل المزاج وله نفع عظيم، ولولا أني شديد الحاجة إلى المال ما بعته، ولو كان أحد يعرف قدره لدفع فيه وزنه ذهبًا.
قال العطار: فبكم تبيعه؟
قال الصوفي: بعشرة دراهم.
وما زالا يتماسكان حتى باعه له بخمسة دراهم.
إلى هنا منظر غريب، رجل يبيع في الحقيقة ألف جنيه بعشرة قروش، فما غرضه من ذلك؟ هذا أول فصل في الرواية.
ثم خلع لبس الصوفية ولبس لبسَ الوجهاء واستأجر دارًا فخمة، وكان إذا سار يتبعه مملوك وجيه، وتصرف تصرف الوجهاء حتى لفت إليه الأنظار، وتعرف ببعض العظماء ودعاهم إلى بيته يقيم لهم الولائم ويُسمعهم الغناء وينفق عن سعة، فتساءلوا عن سر غناه، فقال لهم: إنه علم سر الكيمياء، واستطاع أن يحول المعادن إلى ذهب؛ ولذلك هو ينفق عن سعة، فدعوه إلى أن يعمل لهم شيئًا من هذا القبيل فأبى، وقال: أنا لست محتاجًا إلى أحد بفضل ما وهبني الله من العلم، وأنا قد حلفت بالله ألَّا أعمل هذا العمل إلا لملك، على شرط أن ينفق الذهب الذي أعمله في سبيل الله ومحاربة الصليبيين.
وانتقل الخبر حتى وصل إلى الوزير، فاستدعاه وطلب منه أن يعمل له ذهبًا فأعاد عليه قوله. ففكر الوزير وقال: والله هذه فكرة جميلة وفي عمله سعادة للمسلمين، فالصليبيون يغزوننا، ونحن أحوج ما نكون إلى المال نُعد به العدة للقتال، ونجهز به الجند، ومَن ملك المال والجند كانت له الغلبة، فلم لا ننتفع بعلمه ونحضر له المعادن، فيحولها إلى ذهب فنكون أغنى دولة وأقدرها على القتال؟
فسأله هل يخبر السلطان بذلك؟ قال: نعم.
وبلَّغ الوزير الخبر للسلطان، فاستدعاه وسأله، فأعاد عليه ما قال. قال السلطان: ولكن كم سمعتُ من مثل هذه الأقوال ثم ظهر أنها كلها دجل، كم أضاع الناس أموالهم وأعمارهم في هذه السبيل من غير طائل، وما أكثر الدجالين والمحتالين في هذا الباب!
قال الرجل: نعم أيها الملك ما أكثر المحتالين ولكني لست أحدهم، ولو كنتُ محتالًا ما احتلت على مثلك في عقله وسلطانه، ولاحتلت على غيرك من عامة الناس، ولما اشترطت أن ما أخرجه لا يُنفق إلا في سبيل الله، ومع هذا فإني أعاهدك ألَّا أمسَّ شيئًا بيدي ولا أدع أحدًا يمسه غيرك. وإنما أصف لك الأدوات تأمر بإحضارها وأقول لك: اصنع كذا واصنع كذا فتعمله بيدك حتى تثق من أن الأمر ليس دجلًا وإنما هو الحقيقة.
قال السلطان: نتوكل على بركة الله.
فكتب الرجل قائمة بأسماء الأشياء التي يأمر السلطان بإحضارها، وكان منها «الطبرمك»، فدفع السلطان القائمة للأستاذ الدار وقال له: أحضر هذه الأشياء، فأحضرها جميعًا إلا الطبرمك فلم يجده عند العطارين.
فقال الرجل: أفي دمشق كلها لا يوجد «الطبرمك»؟! هذا عجيب ولا يمكن أن يكون! قال السلطان: أما هناك شيء يقوم مقامه؟ قال الرجل: لا والله، ولكن ربما كان العطارون في دمشق يسمُّونه باسم آخر، فإذا شاء السلطان أمر المحتسب أن يذهب معي، ويفتش دكاكين العطارين ومعنا شهود عدول يشهدون على ما نعمل. ففعل السلطان ذلك.
وذهب المحتسب والشهود والرجل إلى دكاكين العطارين يفتشونها دكانًا دكانًا. وأخيرًا ذهبوا إلى دكان العطار الذي كان قد اشترى من الدجال الحبوب، وأخذ الدجال يفتح علبة فعلبة حتى عثر على العلبة التي فيها الحبوب، فقال: هذا هو الطبرمك وتهلل وجهه فرحًا، وقال: إن هذا السلطان سعيد وله حظ جميل وذلك من صالح المسلمين. وقال للمحتسب والشهود: اختموا عليه واذهبوا به إلى القلعة حيث يقيم السلطان، وسألوا العطار: بكم اشتريتها؟ قال: بخمسة دراهم. قال الدجال: هذه عشرة، ولا تضيع وقتك وتطلع إلى القلعة لقبض الثمن.
ورجعوا إلى السلطان فرحين ومعهم كل ما كُتب في القائمة، ثم قعد السلطان وخادم له أمين في ناحية وجلس الرجل في ناحية أمامهما يقول: يزن مولانا من العقار الفلاني كذا ومن العقار الفلاني كذا، ثم قال: ومن الطبرمك مائة مثقال. ووُضعت كلها في بوتقة وأحميت تحتها النار، ثم قال: اقلب البوتقة فنزلت سبيكة من الذهب الخالص لا شيء أحسن منه.
فلما نظر السلطان ذلك دُهش أشد الدهش، وبعثَّ بالسبيكة إلى الصاغة، فشهدوا جميعًا بأنها ذهب خالص وأنهم مستعدون أن يشتروه بسعر الذهب.
ثم كُررت هذه العملية عشر مرات، وفي كلها تنجح نجاحًا باهرًا، وبعد ذلك فرغ الطبرمك، فطلبوه في دكاكين العطارين فلم يجدوه.
قال السلطان: ماذا نعمل لإحضار الطبرمك؟
قال الرجل: إنه معدن موجود في مغارة في خراسان، فإذا أراد مولانا السلطان بعث من يُحضر ما يشاء من هذه المغارة ولو كان ألف حِمل جمل، وأنا عندي في بيتي بخراسان مقدار قنطار.
قال السلطان: ما لهذا الأمر غيرك، فتذهب أنت وتحضر منه مقدارًا، فإذا منع مانع فأحضِر القنطار الذي عندك.
قال: إن رأى السلطان أن يبعث غيري وأنا أبقى هنا كان أحسن؛ فإني قد طابت نفسي في دمشق.
قال السلطان: لا أحد لهذا الأمر غيرك، فأنت الذي تعرف المكان وتعرف الطبرمك.
فأطاع الرجل، وزوَّده السلطان بزادٍ ومالٍ يساوي آلاف الدنانير، وكتب له كتبًا إلى سائر البلاد ليرعوه ويُجيبوا مطالبه.
ثم انتظر السلطان طويلًا عودته.
وحدث حادثة طريفة أن رجلًا في دمشق كان يؤلف كتابًا في هذه الأيام يذكر فيه أسماء المغفلين، فوضع اسم السلطان نور الدين في أول القائمة، وبلغ ذلك السلطان، فاستدعاه وسأله: ماذا رأيت مِن غفلتي؟ قال: حكاية العجمي.
قال السلطان: إنه ذهب ليحضر الطبرمك، وماذا في هذا؟
قال المؤلف: إذا أحضر الطبرمك محوت اسمك من هذا الكتاب.
ولم يجئ الطبرمك، ولم يُمح الاسم إلى الآن.
فهل يعتبر المعتبرون فلا يُستغفلون؟ أو أن الناس هم الناس ولكل زمانٍ مغفلوه …