العدالة الاجتماعية
العدالة والعدل بمعنى واحد — وقد كان الناس يفهمون العدل على أنه بين فردٍ وفرد، وقالوا: إنه هو إعطاء كل ذي حق حقه، فالغاضب والسارق ظالم؛ لأن كليهما يأخذ مال الغير ويمنعه حقه، والبائع الذي يكيل للمشتري أو يزن أقل مما اتفقا عليه ظالمًا؛ لأنه لم يعطه حقه.
ومن أجل هذا أقامت الدولة القضاء لمنع الظلم بين الأفراد وتحقيق العدل. وأحاطت القضاء بقوة التنفيذ حتى ينال كلُّ ذي حق حقه، وأمرت القضاة ألا يتحيزوا بل يعطوا الحق لصاحب الحق من غير تفرقة بين غني وفقير ووجيه وغير وجيه وأبيض وأسود؛ ولذلك كان الرومان يمثلون آلهة العدل بامرأة معصوبة العينين ممسكة ميزانًا ذا كفتين بإحدى يديها وباليد الأخرى سيفًا. وعَصْبُ العينين رمز إلى أن القاضي يجب أن يعمى عن الاعتبارات التي تجعله يتحيز من غير حقٍّ كالغنى والجاه ونحو ذلك، ورمزوا بالميزان إلى أن القاضي يجب أن يزن لكل إنسان حقه بالدقة والضبط، وبالسيف إلى أنه يجب أن ينفذ العدل بالقوة إذا احتيج إليها.
ولما تقدم الناس في المدنية والشؤون الاجتماعية، أضافوا معنى جديدًا إلى معنى العدالة وهو العدالة الاجتماعية، ويعنون بها واجب الدولة نحو أفراد الأمة؛ فكما أن الفرد قد يكون عادلًا وقد يكون ظالمًا، فكذلك الدولة قد تكون عادلة وقد تكون ظالمة. فما هي الدولة أو الحكومة العادلة؟
الحكومة العادلة عدلًا تامًّا هي التي يكون لها من النظم والقوانين والأعمال ما يُمكِّن كل فرد من أفراد الأمة أن يُرقي نفسه على قدر استعداده في دائرة عمله. فمثلًا في الأمة طائفة من التجار يحتاجون في تجارتهم إلى تلغراف وبريد وسكك حديدية وأدوات نقل، وقدر كبير من الحرية في التعامل. فواجب الحكومة العادلة أن تحقق لهم ذلك. وفي الأمة طائفة من الفلاحين لا يمكن أن يُرقوا أنفسهم إلا إذا حصلوا على وسائل العيش الضرورية، وأسست لهم النقابات لتمدهم وتقيهم من جشع التجار ونحو ذلك، وهكذا.
وفوق هذا وذاك لا يمكن لأية طائفة في الأمة سواء كانوا فلاحين أو تجارًا أو صناعًا أن يُرقوا أنفسهم، إلا إذا حصلوا على حقوقهم الضرورية في الحياة، ومن أهم ذلك الوسائل الصحية، فلكل إنسان الحق على الدولة أن يشرب ماءً نظيفًا ويسكن مسكنًا صحيًّا، ويجد الغذاء الصحي الضروري، إذا مرض أمكنه أن يعالَج، فإن كان غنيًّا فبماله، وإن كان فقيرًا فبمال الدولة؛ بما تنشئه من مستشفيات مجانية تسع كل المرضى الفقراء، وهكذا. فإن فعلت الدولة هذا فدولة عادلة، وإلا فظالمة.
وكذلك الشأن في التعليم. فمن حق كل فرد في الأمة أن يتعلم على قدر استعداده؛ لأنه لا يمكنه أن يُرقي نفسه إلا إذا تعلم، ولا يمكن أن يحمي نفسه من جشع المرابين وظلم التجار والحكام إلا إذا تعلَّم، ولا يمكنه أن يفهم حقوقه ويطالب بها إلا إذا تعلم. فالدولة التي تنشر هذا التعليم إلى أقصى درجة ممكنة دولة عادلة، وإلا فظالمة — فإذا كان الفلاح لا يجد ما يأكل أكلًا يقوم بحاجته، ومن أراد أن يتعلم لا يجد وسيلة لتعلمه فهذا ظلم اجتماعي، وإذا وجدا كل ذلك فهذه عدالة اجتماعية.
وقد نظر أفلاطون — وهو من فلاسفة اليونان الأقدمين — نظرة راقية جدًّا إلى العدالة الاجتماعية فقال: «إن خير دولة أو خير حكومة هي التي تضع كل فرد من أفراد الأمة في خير مكان يليق به حسب استعداده، ويستطيع أن يُظهر فيه مواهبه، ثم تمده الدولة بجميع ما يحتاج إليه لأداء ما عُهد إليه به». وهو مطلب عسير لم تستطع أية دولة — مهما رقيت — الوصول إليه إلى الآن. ولكن وصل كثير من الأمم الحية إلى بعض هذا؛ كضمان وسائل الصحة لكل الأفراد، وإفساح الطريق لذوي الكفايات أن يُظهروا استعدادهم وكفايتهم بقطع النظر عن حَسبهم ونسبهم.
كل فرد في الأمة له الحق على الدولة أن يجد ما يحفظ صحته من غذاءٍ، ومن ماءٍ صحي ومن مسكن صحي، وله الحق أن يتعلم حسب استعداده، وأن يُرقي نفسه حسب استعداده، وعلى الدولة أن تحقق للأفراد كل ذلك وأن ترقيهم جسميًّا وعقليًّا وخلقيًّا إلى أقصى حد ممكن، فإن فعلت ذلك حققت العدالة الاجتماعية وإلا لا.
ولما ارتقت عقول الناس، وشعروا بضرورة العدالة الاجتماعية كان أول ما صدمهم أن رأوا أن أكبر عقبة في سبيل تحقيق العدالة هي توزيع الثروة في الأمة؛ إذ رأوا أنه توزيع غريب، فشخص يمتلك الملايين والألوف، وشخص لا يجد ما يأكل، مع أن الأول في كثير من الأحيان لا يعمل، والثاني يكدُّ في العمل بنفسه وبزوجته وأولاده، ثم لا يحصل قُوتَه وقُوتَهم. فمثل المجتمع والحالة هذه كمثل شخص مع ألف رغيف، وأراد أن يوزعها فأعطى رجلًا أعزب لا أسرة له ٩٩٩ رغيفًا، وأعطى أسرة مكونة من أب وأم وثمانية أولاد رغيفًا واحدًا. أو كالمثل الذي ضربه القرآن الكريم في الخصوم الذين دخلوا على داود فقالوا: خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ (أي: صاحب التسع والتسعين لصاحب الواحدة) أَكْفِلْنِيهَا (أي: ملِّكْنِيهَا) وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ أي: غلبني في الحجة) * قَالَ (داود) لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ.
فالمجتمعات الحاضرة كصاحبي النعاج؛ رجل يملك تسعًا وتسعين نعجة، ورجل يملك نعجة واحدة، ومع ذلك لا يريد صاحب التسع والتسعين أن يترك النعجة لصاحبها، بل يريد أن يستولى عليها — سيدة تملك مئات الفساتين وتحتفظ بأثمن الجواهر، وامرأة لا تملك ثوبًا واحدًا صالحًا، ورجل يملك آلاف الأفدنة ثم يظلم الأجير التي لا تكاد تسدُّ رمقه، وامرأة غنية تُطعم كلبها وتنفق عليه في مأكله وملبسه واستحمامه ما يكفي لعائلة مكوَّنة من عشرة أشخاص لا يجدون ما يأكلون، وهكذا من آلاف الأمثلة.
نظر الناس في الأمم المختلفة هذه النظرة، ثم رأوا أنهم كانوا يعتقدون أن الثروة وتوزيعها شيء جرى به القضاء والقدر، لا يمكن تغييره، كالجو لا يمكن التحكم فيه بجعل اليوم البارد حارًّا والحار باردًا، وأن الغني كُتب له الغنى فهو غني لا محالة، والفقير كُتب عليه الفقر فهو فقير لا محالة، ولكن رُؤِيَ أن هذه الفكرة خاطئة؛ فالثروة خاضعة لإرادة الدولة وإرادة الأمة وإرادة الرأي العام، فالدولة تستطيع بما تسن من قوانين أن تأخذ من جيب الغني لتعطي الفقير، وأن تحد من غنى الغني وترفع من مستوى عيشة الفقير، وهذا يحدث بين أعيننا كل يوم، عندنا وعند جميع الأمم. فالثروة وتوزيعها ليست كالجو في خروجه عن إرادتنا، ولكن ككل شيء تحت إرادتنا، فنستطيع أن نتحكم في الثروة وتوزيعها توزيعًا عادلًا أو قريبًا من العدالة.
ثم نظروا فرأوا أن الفقير لا يمكنه أن ينال حظه من العدالة الاجتماعية، إلا إذا نال قسطًا من المال الكافي لغذائه وغذاء أسرته وتمريضهم إذا مرضوا، وتعليمهم إذا جهلوا. وأن الغني المفرط في الغنى يستطيع أن يحقق مطالبه وحقوقه بقسط من ماله، ويبقى بعد ذلك عنده مال كثير زائد عن مطالبه ومعطل لمطالب الآخرين، فيجب التدخل في هذا وتنظيم التوزيع تنظيمًا يحقق لأكبر عدد ممكن تحقيق العدالة الاجتماعية. هذه هي المسألة الكبرى التي شغلت الأذهان في كل أمة عندما فكَّروا في العدالة الاجتماعية، سواء في ذلك الأمم الاشتراكية والأمم الديمقراطية، وإن كانوا قد عالجوا هذه المشكلة بعلاجات مختلفة بعضها متطرف وبعضها معتدل.
فالأمم المعتدلة فرضت الضرائب التصاعدية على الأغنياء حتى كادت تجعل للغني حدًّا لا يتجاوزه، فإن زاد عن ذلك أخذته الدول وأنفقت منه على إصلاح حال الفقراء حتى يصلوا إلى مستوى لائق بالإنسانية، فأنفقت منه على التعليم المجاني وعلى خفض مستوى الأسعار وعلى بناء المساكن الصحية للعمال، وأعطتهم من المال المدخر أيام بطالتهم التي لا دخل لهم فيها. وهكذا رفعت مستوى الفقير وجعلت له حدًّا لا ينزل عنه، وحددت مِن غنى الغني وجعلت له حدًّا لا يتجاوزه، كل هذا طلبًا لتحقيق العدالة الاجتماعية بالتدريج في الحدود المعقولة.