المدنية تحطم الأعصاب
١
ما أصدق اللغة الحية في تسجيل الأفكار الجديدة! فكما أن اللغة تضع الاسمَ لما يُخترع من الآلات والأدوات بمجرد اختراعه، كذلك الشأن في المعاني المستحدَثة.
والسبب في هذا الشعور بتهدم الأعصاب كثرةُ تكاليف الحياة وزيادة أعبائها وتعدد مطالبها، وانتقالُ كثير من الكماليات إلى ضروريات مما لم يكن له نظير عند آبائنا وأجدادنا، تعقدت المدنية وتركبتْ وكثرتْ فيها المطالب، وشعر الإنسان بأنه لا بد أن يوفِّي هذه المطالب كلها، وطاقته محدودة وماليته محدودة، فينوء تحت هذه الأعباء ويشعر بتهدم أعصابه.
كان أكثر آبائنا إذا علَّموا أبناءهم فكَّ الخط فهذا يكفي للحياة ولشغل الوظائف. أما الآن فالأب يحمل أعباء تربية أبنائه وبناته تعليمًا ابتدائيًّا وثانويًّا وعاليًا، وماليتُه قد تكون محدودة فيُرهق نفسه، وفي كل دور من أدوار التعليم مشاكل لا حد لها؛ هذا رسبَ في الامتحان، وهذا له ملحق، وهذا شبَّ فلا يخضع لحكم آبائه، وهذا كان متأخرًا في الترتيب فلا تقبله المدارس العالية أو الجامعة. والأسرة كلها من مشاكل من هذا القبيل لا تنتهي.
هذا بابٌ واحد من أبواب الحياة.
وهذه ميزانية البيت معقدة مركَّبة، يحصل عليها النزاع في أول كل شهر وآخر كل شهر، الرزق محدودٌ والمطالب غير محدودة. أقساط المدارس وغلاء المأكل وحاجة السيدة والأولاد إلى الملابس وحاجة الأب إلى مصاريف خاصة من أجرة انتقال وشرب دخان والماهية لا تكفي لكل ذلك، فينفق ما يستطيع من ماهيته والباقي ينفقه من أعصابه.
ويذهب الموظف إلى ديوانه فلا يزال يسمعُ من أخبار الدرجات والعلاوات ما يثير نفسَه ويُهيج مطامعِه، والويل لأعصابه إذا لم تتحقق أمانيه، ونظام كل شيء في الحياة مركب معقد، الزواج سلسلة متاعب في الخِطبْة والمهر والجهاز والعقد والحفلات — والتعليم سلسلة مشاكل، وإدارة الأموال سلسة مشاكل.
حتى الغني الذي عنده أكثر مما يكفيه متعب مهدَّم الأعصاب من إدارة أمواله؛ هذا سرقه وهذا أكل ماله، والقضايا تُرفع في المحاكم، والقضية الواحدة تطول ويتفرع عن القضية عشر قضايا والمطالب عليه تتكاثر، مشاكل إدارة الأطيان والفلاحين وناظر الزراعة والآلات، ثم مشاكل بيته من السيارات والخدم، وواجبات حياته الاجتماعية من استقبالات وزيارات وحفلات ومصايف ومشاتٍ ومرضٍ وعلاج، وما إلى ذلك مما لو رآه الفقير لحمدَ الله على الفقر.
كان أجدادنا أبسط عيشًا وحياتُهم أهدأ مِن آبائنا، وآباؤنا أبسط عيشًا وأهدأ بالًا منا، ونحن أحسن حالًا من أبنائنا. حياتنا كلها زائطة متعبة، في المنزل من هذه المشاكل، وفي الشارع من السيارات والعربات وسرعة الحركة وكثرة الناس، في كل محل ضوضاء، فأين تهدأ الأعصاب؟
ولهذا كان تهدُّم الأعصاب في سكان المدن أكثر منه في سكان الريف، وبين من يحملون الأعباء الكثيرة والمسئوليات المتنوعة أكثر من ذوي المسئوليات القليلة، وهكذا.
ما هي أعراض تهدم الأعصاب؟
هي بيننا كثيرة وأشكالها متعددة: ضيقٌ بالحياة وانقباض صدرٍ منها، وشعور بأن الدنيا كلها سوداء في عينيه ليس فيها ما يسر، والمبالغة في تقدير ما يحزن، والمبالغة في تقليل قيمة ما يسُرُّ، فإذا أتاه في يوم واحد عشرة أخبار تسعةٌ منها سارة وواحد منها محزن، لم يلتفت إلى التسعة السارة وعلق كل أهمية على الخبر المحزن، وبالغ فيه كأن أعصابه أوتار عود لا يوقَّع عليها إلا النغمات المحزنة، ثم ينتج عن ذلك غضبٌ لأتفه الأشياء؛ فالكلمة التي كان يسمعها فيبتسم منا أو لا يعيرها أي التفات تصبح كلمة لها أهميتها، يثور منها ويقيم الدنيا من أجلها ولا يقعدها، حتى ليكاد يغضب ممن قال له: السلام عليكم أو نهارك سعيد!! ليس عنده شيء يُتساهل فيه، يدقق في كل صغيرة، ويخلق سببًا للنزاع والخصام، والأشياء التي كان يراها كل يوم ويضحك منها أو يسكت عليها تنقلب فجأةً أشياء خطيرة لا يصح السكوت عليها ولا يصح أن تمر من غير نزاع وخصام، ثم الشك المؤلم في قيمة الحياة، فلا هو يؤمن بقيمة ماله إن كان غنيًّا ولا بقيمة وظيفته إن كان في وظيفة كبيرة، ولا بقيمة أولاده مهما كانوا ناجحين في حياتهم أو مدارسهم، بل ولا يؤمن بقيمة نفسه، ثم يُلحُّ به هذا الشك في الأشياء وقيمها إلى أن يُصاب بالتردد فلا يبت ولا يقرر؛ لأنه شاكٌّ في نتيجة هذا ونتيجة ذاك، غير مؤمن بالشيء ولا بضده، وهذا الشك وهذا التردد وهذه الحيرة تضاعف من انقباض صدره وحدَّة غضبه وتبرمه بالدنيا، ثم يحيط به الخوف من كل جانب، فهو خائف على ثروته أن تضيع، وعلى أولاده أن يصابوا بأذى، وعلى زوجته أن تخونه أو على زوجها أن يخونها، وعلى سيارته أن تحدث لها حادثة وعلى الترام يركبه أن يصطدم، وقد يبلغ به هذا الخوف إلى درجة من السخافة بمكان حتى قد يخلق من خياله أشخاصًا يتصور أنهم يدبرون له المكايد ويحيكون له الدسائس؛ ففلانٌ إنما يسارُّ فلانًا في أمره، وفلانًا قابل فلانًا لتدبير مؤامرة له، وهكذا من أنواع السخافات التي لا تنتهي، حتى ليبلغ به الأمر أن يفسر حركات الناس وتصرفاتهم تفسيرًا غريبًا يتعلق بشخصه والحط منه والكيد له، وغير ذلك من الأشكال والألوان، كحب العزلة والابتعاد عن الناس، والانفراد في حجرة حتى في بيته بين أسرته وقلة الرغبة في الكلام، ونحو ذلك، وكما أن الجنون فنون، فكذلك الأعراض تهدُّم الأعصاب فنون.
ومن مصائب هذا المرض أن صاحبه غالبًا لا يؤمن بأنه مريض، عكس الأمراض الجسمية؛ فمَن مرض بمعدته يتألم منها، وإذا لم يهضم أدرك أن العيب في معدته لا في الأكل الذي أكله. أما متهدم الأعصاب فيرى أن الدنيا سوداء كما يراها ولا يؤمن بأن العيب عيبه هو، بل في كثير من الأحيان لا يذهب لطبيب أعصاب يداويه؛ لأنه مؤمن أنه ليس بمريض، وإذا أُجبر على الذهاب إليه اعتقد أن المريض هو الطبيب.
أكثر ما يُحدث هذا التهدم العصبي عند فشل الإنسان في الحياة فشلًا فظيعًا لسبب من الأسباب، أو تحميل الإنسان نفسه فوق طاقتها من تكاليف وأعباء، وعدم إعطائها حظها من الراحة والهدوء. ولو حللنا أكثر الأسباب التي تدعو إلى هذا التهدم وجدناها ترجع إلى سببين أساسيين: الجهل والخوف.
أما الجهل وعلاقته بتهديم الأعصاب فيتجلى في عدم فهم الإنسان مقدرته ومركزه وكفايته أمام المطالب الاجتماعية، كأن يضع نفسه فوق ما يستحق، فهو يريد أن يُسخر المجتمع لخدمته، يريد أن يتزوج ويَشغل أكبر وظيفة، وتريد هي أن تتزوج خير رجل وتلعب بالمال لعبًا، ويريد هو أن يطفر في المناصب أو في الغنى طفرًا. ويريد أن يكون له الجاه العريض والنجاح السريع، والدنيا لا تسير على هواه وحده، والمجتمع إنما يسير بقيود وشروط، فإذا هو لم يحقق مطامحه البعيدة عدَّ نفسه فاشلًا، فصدمه ذلك صدمة هدمت أعصابه. وأسعدُ الناس وأهدؤهم بالًا من وزنوا أنفسهم وزنًا صحيحًا وعرفوا الدنيا التي حولهم معرفة صحيحة. عرفوا أنفسهم بعيوبها ومزاياها، وعرفوا الدنيا بعيوبها ومزاياها، وطلبوا من الدنيا فقط ما يتفق وطبيعة نفوسهم وما يتفق وطبيعة المجتمع الذي يعيشون فيه — ومما لا شك فيه أن العيب ليس كله راجعًا إلى الشخص نفسه، فكثيرًا ما تكون العيوبُ الكثيرة التي تهدم الأعصاب في المجتمع نفسه، كما إذا اختلَّ فيه العدل الاجتماعي واختل فيه تقدير الكفايات، وكانت الرذائل تنجح فيه حيث تفشل الفضيلة، كذلك إذا كان المجتمع يرهق أربابَ الأسر ولا يساعدهم في تخفيف الحياة عنهم بتسهيل وسائل التعليم ووسائل العيش؛ ولذلك كان المجتمع الفاسدُ الذي تسود فيه الفوضى والاضطراب محتاجًا لكثير من المستشفيات لمتهدمي الأعصاب. إن جهلَ الأفراد بوزن نفوسهم وجهل أولي الأمر في تنظيم مجتمعهم هو أكبر سبب في تهديم أعصابهم. فتهدُّم الأعصاب ليس إلا نتيجة ارتباك في الحياة الخاصة أو الحياة العامة. وكثير من الناس يرون أنهم إما أن ينجحوا في الحياة مائة في المائة أو الخيبة المطلقة، على مبدأ الشاعر الذي يقول: «لنا الصدرُ دون العالمين أو القبر». ولكن طبيعة الحياة تأبى هذا، فليس في الدنيا ناجح مائة في المائة في كل شؤونها؛ فالمطالبة بهذا القدر وتنغيص النفس إذا لم يحدث ، والاتكاء على الأعصاب من أجل هذا المطلب المستحيل جهلٌ بقوانين الطبيعة، ويكفي الإنسان طمأنينةً وراحة بال أن ينجح بعض النجاح.
أما السبب الخطير الثاني في تهدم الأعصاب فهو الخوف وهو أشكال وأنواع: الخوف من الفشل، والخوف من الفقر، والخوف من الموت، والخوف من كلام الناس … إلخ، وليس أدل على تهديم الخوف للأعصاب مما يحصل للناس في أثناء الحرب، فالخوف على أشكاله يهدم أعصاب الناس. وليس هناك أهدأ بالًا وأصح أعصابًا ممن استهان بالمخاوف وتشجع لمواجهة الصعاب ولتكن النتيجة ما تكون. ومن الحمق أن يجمع الإنسان على نفسه ألم الخوف من الشر قبل وقوعه وألم الشر عند وقوعه. فإذا كان لا بد من ألمٍ فلكيف ألم الشر إذا وقع لا قبل أن يقع. وإذا كان أهم سبب لتهدم الأعصاب الجهل والخوف، فأهم علاج له العلم والشجاعة.
٢
إن متاعب الحياة وتعقيد المدنية وإرهاق الناس بالمطالب سبب تحطيم أعصاب كثير من الناس، وربما كان ذلك في الشرق أكثر منه في الغرب. وذلك لأسباب عدة: منها فشوُّ الفقر في الشرق، والمسافات البعيدة بين الطبقات وفشوُّ الأمية. فالجهل كثيرًا ما يكون السبب في تهدم الأعصاب، ثم عدم تنظيم الحياة الاجتماعية تنظيمًا مريحًا، فأكثر البيوت لا راحة فيها من كثرة النزاع على توافه الأشياء، وضياع كثير من زمن الرجال في القهوات فرارًا من البيت، وهي أمكنة مملوءة بالضوضاء، فاسدة الهواء، فاسدة المناظر، لا تسرِّي حزنًا ولا تفرج كربًا. وليس هناك مجال للرجل المثقف ولا المرأة المثقفة ينعم فيه بالسعادة الهنيئة البريئة. فمَحالُّ اللهو لا تناسبهم، والاجتماعات العامة تضايقهم، ثم النظامات الاجتماعية لم تخفف عن الفقير فقره ولا المريض مرضه ولا ربِّ الأسرة عبئه، ولا الفلاح ولا الصانع والعامل متاعبه، إلى كثير من أمثال ذلك.
لهذا كانت ضحايا تحطيم الأعصاب كثيرة العدد، وهو يتخذ أشكالًا عديدة: منها غلبة الحزن على الشخص أو السوداء، تختلف الأسماء والمسمَّى واحد. ومصداق ذلك أن أكثر أغانينا حزينة؛ لأن نغماتها تنسجم مع النفس الحزينة، وأكثر كلامنا في عيوبنا لا مزايانا لأن ذلك يتفق وآلامنا، وأكثر احتفالاتنا في مظاهر الحزن لا في مظاهر السرور. فالمآتم والقرافة وذكرى الأربعين وذكرى الوفاة للعام الأول والثاني إلى غير ذلك، كلها تناسب النفوس الحزينة الضعيفة الأعصاب التي إن لم تجد محزَنة خلقت محزنة، بل إن لم تجد سببًا للحزن حزنت لتوقعها الحزن.
ومن مظاهر تحطيم الأعصاب أيضًا هذا الغضب السريع الجامح والانفعال الشديد للشيء السخيف، وتحوُّل الإنسان شعلة نار من الغضب ثم تحوُّله بعد ذلك سريعًا إلى لوح من ثلج بارد، وسرعة التنقل من بكاء إلى ضحك، ومن سبٍّ إلى استعطاف، ومن زمجرة إلى ندم، ومن أسد إلى قط، ومن ماء إلى حجر، كل هذه أشكال من تحطم الأعصاب.
وقد يتخذ شكلًا آخر هو شكل الخوف، خوفٌ مبنيٌّ على غير أساس، يخاف الفقر وعنده ما يكفيه، ويخاف المرض وصحته جيدة، ويخاف فساد الأولاد وهم صالحون، وسقوطهم في المدرسة وهم ناجحون، ويخاف من رؤسائه وهم عنه راضون أو من شياطين الإنس والجن أو من الترام أو من القطار، أو من خيالاتٍ لا وجود لها يخلقها هو ثم يخاف منها — هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب.
وشكل آخر هو حالاتٌ عقلية غريبة؛ كضعف الثقة بنفسه، فيعتقد أنه لا يصلح لعملٍ وأنه إذا عمل عملًا فهو لا يستحق شيئًا، أو يخشى الناس ويخشى الاجتماع، أو يشك في الناس ويعتقد أنهم كلهم أنجاس لا يُرجى منهم خير، أو هو لا يكترث بشأن من شئون الحياة، ولو انطبقت السماءُ على الأرض، لا تهمُّه أسرة ولا تهمُّه وظيفة ولا تهمه أمة، هذا كذلك شكل من تحطم الأعصاب، وما أكثر الأشكال والألوان! وألوف وألوف من الناس فقدوا سعادتهم، وفي كثير من الأحيان سلبوا سعادةَ من يتصل بهم لا لسببٍ إلا ضعف أعصابهم، وما نشأ عن ذلك من سوء تصرفاتهم.
وتحطم الأعصاب ليس ضرره مقصورًا على المريض وأسرته، بل هو عظيم الضرر للأمة كلها؛ فكيف يؤدي الشخص عمله في وظيفته أو متجره أو مصنعه إذا تحطمت نفسُه من تحطم أعصابه؟ كيف يركز قوته في عمله، كيف يفكر تفكيرًا صحيحًا سليمًا، كيف يؤدي عمله إذا لم ينَم النوم الكافي لضعف أعصابه؟ — كلٌّ محطَّمِ الأعصاب كارثة على نفسه وعلى أسرته وعلى أمته.
قد تكون الحالات العصبية وهمًا من الأوهام يتخيله المريض وليس به مرض، فهو يخلق المرض ولا يزال يلح في اعتقاد أنه مريض حتى ينمو المرض في نفسه، ولهذا اعتدنا من قديم أن نعالج الوهم بالوهم، كالزار والبخور والرقى وطب الركَّة ونحو ذلك؛ وقد تنجح هذه الأمور ولكن سبب نجاحها أنها أوهام تعالج أوهامًا، كالذي قرأتُ مرةُ أن طبيبًا عربيًّا — لا أذكر اسمه الآن — عُرض عليه مريض يتوهم دائمًا أنه يحمل على رأسه جرة، فإذا دخل بابًا انحنى حتى لا يعوق الباب الجرة، وقد حار فيه الأطباء، فاتفق هذا الطبيب الماهر مع خادمه أن يحضر جرة، فإذا جاء هذا المريض غافله ووقف وراءه بالجرة من غير أن يراه ثم كسر الجرة، وأوهم المريض أنها هي الجرة التي كانت على رأسه، ففعل ذلك وشفي المريض، وهكذا عالج الوهم بالوهم. ولكن في بعض الأحيان يكون تحطم الأعصاب مرضًا حقيقيًّا سببه مرضٌ في الجسم، أو مرضٌ في النفس. وكثيرٌ منا في حياته اليومية يرهق أعصابَه فتكون النتيجة ما ذكرنا.
فمثلًا قسطٌ من الراحة لا بد منه للإنسان، وإن لبدنك عليك حقًّا، فإذا أنت أنهكته بالسهر أو بالعمل ولم تعطه حظه من الراحة كان من نتيجة ذلك تحطم الأعصاب، وانشغال البال بمطالب الحياة المادية والاجتماعية، والإفراط في ذلك ضررٌ يصيب الجسم لا محالة تظهر آثاره على مدى الزمان فتضعف الأعصاب.
وتحميل النفس أعباءَ كثيرة وهمومًا ثقيلة ومداومة التفكير فيها، كثيرًا ما يُنتج هذه النتيجة، وهكذا.
مَثلُ أعصابنا كمَثلِ أسلاك الكهرباء في بيوتنا، فإذا انطفأ النور فابحث عن سببه ثم عالجه بما يصلحه، فافحص حياتك هل تعتاد عاداتٍ سيئة في جسمك فتسهر أكثر مما يلزم، أو تتعب في العمل أكثر مما يلزم، أو ترتاح أكثر ما يلزم، أو تتغذى أقل أو أكثر مما يلزم، أو نحو ذلك، واسأل مثلَ هذه الأسئلة نحو نفسك: هل ترهقها بالفكر أو تحمل الهم، هل تُحمِّلها ما لا تطيق من اجتماعات وحفلات، هل تعرِّضها لكثير من الانفعالات؟ فإذا أنت وُفقت إلى موضع الداء فعالج سلوكك كما تعالَج سلوك الكهرباء، كل شيء بما يناسبه.
فأما الأعصاب المحطمة الناتجة من مرض جسمي، فاطلب علاجها من أطباء الأجسام، وأما الناتجة عن مرض النفس، فمع الأسف لم يلتفت الناس إليها كما التفتوا إلى مرض الجسم؛ ثم كانت النهضة الحديثة في أوربا فتقدم علم النفس كثيرًا، وكان له أطباء وإن كانوا في أول مراحلهم.
غير أن هناك مفتاحًا أستطيع أن أدلَّك عليه كمفتاح البيت يفتح أبواب الحُجَر كلها، هو التنفيس عن نفسك بالتفكير في غيرك. إن الناس ينقسمون — عادةً — إلى قسمين: قسم يُكثر التفكير في نفسه، وقسم يكثر التفكير فيما حوله، وأكثر المصابين في أعصابهم هم من الصنف الأول الذي يكثر التفكير في نفسه — فحوِّل البخار المضغوط في نفسك إلى عمل خارجي؛ ولذلك ترى أن الناس الذين يشغلون وقتهم بعمل للخدمة العامة أو المصلحة العامة أقل الناس تعرضًا لضعف الأعصاب، وأكثر النساء المصابات بهذا المرض نشأ مرضهن كذلك مِن قَصر نظرهن على التفكير في أنفسهن وأولادهن وبيتهن، وعلاج ذلك عندهن تأليف جمعيات لمساعدة المرضى أو الفقراء أو البؤساء أو نحو ذلك مما يصرف ذهنهن عن إطالة التفكير في أنفسهن.
والدليل على ذلك أن المريض بأعصابه يكره المجتمعات، ويكره الصداقة إلا أن يفكر في نفسه؛ فالدواء لا بد أن يكون على عكس الداء كما تعالَج الحرارة بالبرودة والبرودة بالحرارة.
فوسِّع نفسك واشْغَلها بعمل يعود بالخير على الناس، واهتم بأصدقائك وجيرانك واهتم بشيء يناسبك يكون له صلة بالعالم الخارجي، ومن أجل هذا نرى أن المتدينين من أقل الناس تعرضًا لهذه الأمراض العصبية؛ لأنهم يفكرون في ربهم، ولأنهم يطيعونه في أمره بأن نحب الناس كما نحب أنفسنا؛ ولأنهم يأتمرون بأمره في الإحسان إلى الجار وإلى الفقير والإيثار على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة؛ كل هذا فيه خير علاج من المرض العصبي؛ لأنه ينقذ الإنسان من الاستغراق في التفكير في نفسه.
ومن أجل هذا أيضًا كان مِن أشد الناس تعرضًا لهذه الأمراض مَن لا عمل لهم لغناهم أو اعتمادهم على ما يأتيهم مِن معاشٍ أو مِن ميراث، فيصبح الزمن عبئًا ثقيلًا على أنفسهم يحاولون أن يهربوا منه بلعب النرد أو الشطرنج أو نحو ذلك، وباقي الزمن لا يفكرون فيه إلا في أنفسهم، فيستولى عليهم الهمُّ ويعتريهم ضعف الأعصاب. إن ضعف الأعصاب كثيرًا ما يكون سببه نتيجة قوة مكبوتة كالبخار المضغوط، ففرِّج عن نفسك بفتح الصمام له وتوجيهه إلى عمل نافع؛ فالعمل والاهتمام بشأن من شؤون الناس وقلة تفكير الإنسان في نفسه خير دواء لمعالجة الأعصاب والشفاء من أمراضها.