في الهواء الطلق
كان برنامجنا هذه المرة أن نتقابل صباحًا في مصر الجديدة، ففعلنا، وسرنا في صحرائها
الجميلة نَنْعَم بالشمس الساطعة ودفئها، والهواء النقي ولطافته، والسكون الهادئ المريح
للأعصاب. وما خلَّفنا المدينة وضوضاءها والناس وبلاياهم ومفاسدهم حتى تفتحت عندنا شهية
الكلام.
قال أحدنا: لست أدري عِلَّةً لهذه الظاهرة الغريبة عندي — كلما رأيت منظرًا جميلًا
للطبيعة كغروب الشمس في البحر، أو جبل فخم ضخم، أو شمس ساطعة أو قمر منير، أحسست نوعًا
من
الحزن، حزنًا ليس كالحزن عند فَقْدِ عزيز أو نزول كارثة، ولكنه حزنٌ غير أليم، حزن ممزوج
بلذة، فأراني مطمئنًا لحزني لا أرضى به بديلًا سرورًا خالصًا ولا ضحكًا صارخًا.
أ
:
سبب ذلك — على ما يظهر لي — أن هذه المناظر جمعت بين الجلال والجمال، والجلال
يبعث في النفس شعورًا بالضعة؛ إذ يقيس الإنسان نفسه بالطبيعة فيراه ضئيلًا بجانب
عظمتها، حقيرًا بجانب فخامتها. والشعور بالضعة أليم؛ لأنه يُشعر النفس بالذلة،
وعزيز عليها أن تُذلَّ. وإلى جانب هذا شعور بجمال المنظر، والشعور بالجمال لذيذ؛ إذ
يفتح النفس ويؤنسها، فتكون حركة النفس لهذه العوامل المختلفة حركة انقباض وانبساط،
أو كما سميتها أنت لذةً وألمًا.
ب
:
ولكن أخبروني، أليس عجيبًا أن المصريين والشرقيين على العموم أميل إلى الحزن
والانقباض؟ وأن شعورهم بالألم وأسبابه أرقَّ من شعورهم بالفرح وأسبابه؟ حتى صاحبنا
هذا يأتي إلى المناظر الطبيعية الجميلة الباعثة على السرور والانشراح فيسوِّدها بما
عرض علينا من مشاعر وأفكار! لقد عشت في فرنسا عهدًا طويلًا — كما تعلمون — وكنت من
أكثر زملائي المصريين فرحًا وسرورًا ونشاطًا، ومع هذا وصفتني أكثر من سيدة بأني
حزين متشائم منقبض، فإذا كنت أنا كذلك فكيف لو رأين غيري؟ إذًا لوصفنه بأنه بكَّاء
يذوب أسى وحسرة.
لقد فكرت في هذا الأمر كثيرًا بعد أن تجلت لي هذه الحقيقة بالمقارنة الدقيقة بين
الشبان المصريين في فرنسا والفرنسيين أنفسهم، وكذلك عندما أقمت في إنجلترا أشهرًا
وألمانيا أشهرًا، ورأيت المصريين وغيرهم من هذه الأمم؛ وبحثت الأسباب فلم أهتدِ إلى
علَّة جازمة.
ج
:
ربما كان السبب الجوَّ؛ فالشرقيون يعيشون غالبًا في جو حارٍّ أو أقرب إلى
الحرارة، والغربيون يعيشون في جو بارد أو أقرب إلى البرودة، والحر يُسبب الكرب
وانقباض الصدر، والبرد يدعو إلى الحركة، والحركة تُجري الدم وتبعث على النشاط
وتُذهب السأم. أضف إلى ذلك أن الجو البارد عندهم يدعو إلى اجتماع الأسرة والأصدقاء
في البيت رجالًا ونساء، وإشعال النار في المدافئ والاجتماع حولها، وفي سكونهم إلى
النار ومعهم المرأة بلطفها وبهجتها مبعثٌ للأنس والسرور، وغذاءٌ للنفوس تتغذى به
طول اليوم حتى يتجدد المنظر.
ب
:
فكَّرتُ في هذا كما فكرتَ، ولكن لم أجده سببًا صالحًا؛ ففي البلاد الشرقية ما
يعتدل جوُّه وقد يكون أميل إلى البرودة في أكثر أيام السنة كسوريا ولبنان، ومع ذلك
فالطبيعة الشرقية واحدة! ثم إنك نسبت الفرح إلى المدافئ والشرق فيه المدافئ
الطبيعية الكافية، والحر يُجري الدمَ والبرد يُجمده، ألم تقرأ كلمة ابن خلدون في أن
الإنسان إذا دخل الحمَّام كان أميل إلى الغناء؛ لأن حرارة الحمام تنشط دمه وتبسط
نفسه؟! فهب أن الحر اشتدَّ في جوِّنا حتى كان كله حمامًا، أليس في هذا ما يدعو إلى
جريان الدم وانبساط النفس؟ ثم لو كان ما تقوله صحيحًا لكان «الترمومتر» مقياسًا
للفرح والحزن، كما أنه مقياس للحرارة والبرودة، وهذا ظاهر البطلان! قد يكون في بعض
ما دل عليه كلامك — ولو لم توضحه كل الإيضاح — شيءٌ من الصحة، وهو موقف المرأة في
الغرب والشرق؛ فالمرأة في الغرب مبعث السرور والنشاط في المجتمعات وفي الحياة
العامة، وفي باب الحب وفي باب العمل، وهي بلسم الهموم في الغرب وليست كذلك في
الشرق؛ ولكن حتى هذا لا أراه كافيًا.
أ
:
عندي أن السبب في انتشار الحزن والتشاؤم يرجع إلى الحياة الاجتماعية ونظمها
وتاريخها؛ فالشرق منذ مئات السنين رازح تحت أثقال ظلم الحكام، سلبٌ ونهب واستئثار
بطيبات العيش، وإسراف في الترف يقابله إغراق في فقر الشعب، وسطوةٌ تقتل النفس
وتحملها على المذلة والملق، ومناظر مخزية من ضياع عدلٍ بالرشوة والمحاباة وتقديم
غير الكفء وإهمال الكفء، وتسلُّط على الفلاحين والطبقات العاملة، وأخذ كسبهم لتزيين
قصور أغنيائهم، وتركهم في بؤسهم لا يكادون يجدون ما يأكلون.
كل هذا ملأ النفوس أسًى وأسفًا، وتراكم عليها ذلك حتى أثقل كاهلها، وغضن جبينها
وحيَّر نظرتها، فإن ضحكت فمن فمها لا من قلبها، وإن تشاءمت فلِما رأت من تتابع خيبة
أملها. وكيف يفرح مَن في بيته مأتم، أو كيف يضحك من يشيع جنازة؟ — ليس العجب من
حزنه وتشاؤمه، بل العجب من بقائه حيًّا إلى اليوم مع كثرة ما لاقى — إني لأعجب من
ضحكاته القليلة، وأعجب من قوة احتماله لأثقاله!!
ودليلي على ما أقول أنه لما بدأت تتحسن حالة الشرق الاجتماعية قليلًا بدأ يضحك
قليلًا قليلًا، فإذا تمَّ ما أمَّلَ انفجرت ضحكتُه عالية.
واكفهرَّ الجوُّ واحتجبت عينُ الشمس وأخذ السحاب ينذر بالمطر الغزير، فجددنا
السير لنرى ملجأ نحتمي فيه، فلم نجد إلا «مخفر البوليس»، فاستضفناهم، فضيَّفونا،
وانسجم الجو والمطر والرعد والبرق مع الموضوع — وأخرج كل منا ما يحمله من طعام
بسيط، وبدأنا الأكل، ولكن كانت شهيتنا لإتمام الموضوع فوق شهيتنا للأكل.
قال الأول — وهو مَن بدأ الحديث —: ربما كان السبب عندي يرجع إلى الدين، وأرجو ألَّا
يؤاخذني صديقي «أ» فقد عرفته دائمًا يتحمس للدين ويغضب للدين، ويُرجع للدين في ماضيه
وحاضره
كل فضيلة، ولعدم التمسك به كل رذيلة، وأرجو أن يكتم غضبه حتى أتمم حديثي فقد يقتنع.
أرى أن الإسلام في أصله كان يعتمد على ركنين: الترغيب والترهيب، وكانا متوازيين متعادلين؛
الجنة تقابلها النار، والنعيم يقابله الجحيم، والتهديد بالعقوبة يقابله عدم التيئيس من
رحمة
الله، وهكذا؛ ولكن بعد القرن الأول علت نغمةُ التخويف وضؤلت بجانبها نغمة الأمل، وكان
على
رأس هؤلاء الحسن البصري، فملأوا أدب الدين بالنار والرعب منها، والخوف من الآخرة وشدتها،
وما زالوا يُفرِطون في ذلك حتى انخلعت قلوب الناس وتولاها الهلع والجزع، فصاروا إذا ضحكوا
استغفروا، وإذا استمتعوا ندموا. وكلما أتى جيل من العلماء زاد هذه النغمةَ علوًّا، فزادت
القلوب يأسًا، وساد الجوَّ وجومٌ وشمله الخوف، وبدل أن يعمل العلماء بالحديث «بشِّروا
ولا
تنفروا»، عملوا بعكسه فنفَّروا ولم يُبشروا — فلا عجب بعد هذا كله أن يحزن الناس ويتشاءموا
وتعلوهم الكآبة. وكانت هذه النتيجة بعينها في الغرب في القرون الوسطى لما سادت سلطة رجال
الدين، وكانت نغمتهم نغمةَ رجال الدين من المسلمين، فلما زالت العلة وأتت النهضة كانت
الدعوة إلى تقدير الحياة الدنيا والاستمتاع بها، فكانت البهجة والسرور.
أ
:
هذا قول غير صحيح؛ فالإسلام بشَّر وأنذر، ورجال الدين كما زادوا في وصف النار
زادوا في وصف الجنة، وغرضهم من التخويف بالنار وعقابها ردعُ الناس عن الفجور،
وحسنًا فعلوا، فهل تعجبك أوروبا في مباذلها ومباهجها واستهتارها؟ تبًّا للسرور إذا
أنتج هذه النتائج، ولخيرٌ منه ألف مرة الحزن مع الاستقامة (قال ذلك في شيء من الحدة والغضب).
ومن حين لآخر يسود الصمت فنسمع صوت الرعد وانهمال المطر، فنفكر في وسيلة العود، وما
رأيك
أنت يا سيد (د) إنَّا لم نسمع منك كلمة من بدء الحديث؟
د
:
إني أستمتع بحديثكم وأستزيد علمًا من أقوالكم وجدلكم، وعندي رأي أبديه بين
آرائكم، هو أن سبب الحزن السائد هي الفنون، من شعرٍ وموسيقى وغناء. فالفنون — في
نظري — هي قادة الشعوب وخاصةً في مشاعرها، وقد رأيت الشعر العربي يميل دائمًا إلى
الحزن من حين قال امرؤ القيس: «قفا نبك» إلى أن قالت أم كلثوم: «سكت والدمع تكلم»،
وبينهما ما لا يُحصى من الشعر الحزين والدمع المنسكب. إن الشعراء كانوا كرجال الدين
أُعطوا عودًا ذا أوتار فلم يُغنوا كثيرًا إلا على الوتر الحزين حتى كاد الشعر يغرق
في بحر الدموع. الحب بكاءٌ والرثاء بكاء. والمديح مذلة للنفس وهي بكاء، تبدَّى
الشعراء فبكوا الأطلال، ثم تحضَّروا فبكوا الديار، وأحبوا فبكوا الحبيب، ثم شقوا
فبكوا الشقاء، وتصوَّفوا فبكوا، ونقدوا المجتمع فبكوا، فماذا بعد هذا؟
أ
:
فأين أنت من شعر عنترة وأمثاله الذي يفيض قوة وبطولة؟ وأين أنت من شعر أبى نواس
الذي انغمس في متع الحياة إلى أذنيه؟ وأين أنت من شعر المتنبي الثائر القوي؟ وأين
أنت من شعر البهاء زهير العاشق المرح؟ أمن العدل في الحكم أن تنظر إلى من بكى ولا
تنظر إلى من ضحك، وتنظر إلى شِعر الضعيف ولا تنظر إلى شعر القوي؟
د
:
لم يَغِب عني ما ذكرت، ولكني لا أرى رأيك في أبي نواس؛ فإنه بكى على الخمر كما
بكى غيره على الحبيب، ولا في المتنبي؛ فإن شعره قوي حقًّا ولكنها قوة الذي يضرب
فيوجِع، لا قوة الذي يحمِّس فيفتح الأمل. إن الشعر الذي أتمناه الشعر العربي شعرٌ
قوي فيه الشعور بالقومية وبالعزة وبالحياة وبالحرية، تستند فيه قوة الشاعر على صدق
الشعور وحرارة القلب لا على الإسراف في الخيال ولا على الإمعان في ضروب البديع،
وهذا القدْر في شعر العربية قليلٌ إذا قيس بالشعر الحزين. إن في بعض الشعر الغربيِّ
حزنًا أيضًا ودموعًا هيامًا، ولكن هذا اعتدل واستوى بما كان بجانبه من شعر ضاحك
قويٍّ يفتح النفس ويبعث على الحياة، فكان النوعان ككفَّتَي الميزان استوتا
وتعادلتا. أما عندنا فكفةٌ راجحةٌ جدًّا، وكفة شائلة جدًّا.
والغناء عندنا أسوأ من الشعر؛ إن في الشعر ضروبًا، ولكن الغناء ضربٌ واحد وهو
الدموع المسفوحة، والكبد المجروحة، والقلب الذائب في الوصال والفراق، والقرب والبعد
والرضا والصد، كأن لا حبَّ إلا بدموع كالذي قال:
هل الحبُّ إلا زفرةٌ ثم عبرةٌ
وحرٌّ على الأحشاء ليس له بردُ
وفيضُ دموع تستهلُّ إذا بدا
لنا عَلَمٌ من أرضكم لم يكن يبدُو
والموسيقى صدى للغناء، يبكي المغني فتبكي الموسيقى لبكائه، وأحب أدوار المغني
إليه وإلى الناس ما أحزن، وكذلك الموسيقى، ومرحى لهما إذا أجريا دموع السامعين،
واستخرجا من أعماق القلوب آهات المحبين!!
كلُّ هذا في نظري سبب ما شاع في نفوس الشرقيين من الحزن، فكثيرٌ من الأمم مَدينة
بقوتها وعظمتها وتبسُّمها وإقبالها على الحياة للفنانين من شعراء وكُتَّاب
وموسيقيين ومغنِّين؛ فأصلِحوا الفن يصلُح الناس، وأضحكوا الفنانين تُضحكوا
السامعين.
وصمتنا لحظة، وإذا السماء لا تزال تسحُّ، والسحاب لا يزال يدمع، فسألنا مضيفنا أن
يستوقف
لنا سيارة تحملنا.
ب
:
ولكن أترى هذا سببًا أم نتيجة؟ أبكى الشعب لمَّا بكى الشعراء، أم بكى الشعراء لما
بكى الشعب؟ إني أرى أن الفنانين إنما يُطربون الشعوب؛ لأنهم غنُّوا لهم على
مشاعرهم، ولو غنوا لهم غناءً قويًّا ما أعجبهم.
د
:
هذا يا سيدي من ضعف الفنان؛ فالفنان القوي يقود الشعب ولا ينقاد له، ويسير أمامه
لا وراءه، كالنبي يطلع على الناس بالجديد في تعاليمه، ثم يحملهم على الجادة بقوته
التي يستمدها من ربه، وبما هيأه له الله من قوة قلبه.
أ
:
ولكن ألا ترون أنكم بالغتم في الحطِّ من قدر الحزن والبكاء، وفي عدِّهما علامة
ضعف الأمة؟ أليست الدمعة علامة رقة الشعور وطهارة القلب وصفاء النفس؟ ألم يقل كبار
الفلاسفة: إن المأساة أرقى وأنبل من الملهاة؟ والمأساة تُثير الدمع والملهاة تُثير
الضحك!
والشاعر يقول:
ما واجدُ الصبر في المعنى كفاقِدِه
وجامدُ الدمع في المعنى كجاريه
إن الحزين الدامع أقرب إلى قبول الخير من اللاهي الضاحك القاسي.
ب
:
إن الحزن ألوان والدمع ألوان. وإن ما نكره هو الحزن يقبض النفس، ويبعث على اليأس
ويصرف عن الحياة، وإن الأمة بهذا النوع من الحزن لا يُرجى منها أيُّ خير، ولماذا
تكون رقة الشعور في الحزن ولا تكون في السرور؟ إن النفس الإنسانية أوتارٌ ولا بد أن
نوقع عليها جميعًا، فأما أن تبكي فقط فقتلٌ للنفس. لا بأس من الحزن، ولكن حزن
الرجال، وخيرٌ من قول شاعرك الذي حكيت قولُ أبي تمام:
ولربما ابتسم الكريمُ على الأذى
وفؤاده من حرِّه يتأوَّهُ
وهذا معنى كريم، فهو يشعر ولكن لا يبكي، ويتأوه ولكن يعمل في مقاومة ما يتأوه
منه، يألم من الشر ولكنه يدفعه، ويفرح بالخير ويستزيده. ألا ترى أن الطفل يبكي
كثيرًا حيث لا يبكي الرجل؟ إن الأطفال يبكون لأنهم يتألمون ويعجزون عن إزالة أسباب
الألم، وهم لا يبكون للألم ولكن للعجز؛ فالحزين الباكي من الرجال طفل يتألم ويعجز،
والقادر القويُّ يتألم ولا يبكي؛ لأنه لا يعجز أتريد أن تكون الأمة أطفالًا أو
رجالًا، أو تريد …
وزمَّرَت السيارة زمْرَتها إيذانًا بالحضور، فركبنا والمطر ينهمر، وعدنا إلى
منازلنا، أفكارنا هائمة في حوارنا.