في الأدب المصري الحديث
إن الناظر للأدب المصري الحديث (بالمعنى الواسع لكلمة الأدب) يرى أنه قد نبع من نبعين مختلفين كل الاختلاف، وتأثر بهما أشد الأثر، وأن الآثار الأدبية قد تصدر من هذا النبع أكثر من ذاك، وقد يكون العكس. هذان النبعان أو المصدران هما الثقافة الأجنبية، والثقافة العربية القديمة؛ فالنبع الأجنبي ظهر في مظاهر عدة، ظهر عندما اتجهت أوربا إلى استعمار الشرق سياسيًّا واقتصاديًّا، فاحتلال الفرنسيين ثم الإنجليز لمصر نقل أوربا إلينا وقدَّم لنا لونين من الحضارة؛ الفرنسية والإنجليزية؛ وموقع مصر هيَّأ لها أن تكون مَباءةً لطوائف الأمم الأخرى تُمِدنا ببقية الألوان من الحضارة، من أمريكية وألمانية وإيطالية إلى غير ذلك، نعم إن هذا الاستعمار وهذه الطوائف كلها كان غرضها الأساسي غرضًا سياسيًّا واقتصاديًّا، ولكنها مع ذلك حملت معها علمًا وأدبًا عملت على نشرهما عن قصد وعن غير قصد — فقد رأى بعضهم أن مما يخدم السياسة أن تنشر ثقافتها، فتكسب بذلك عطف أهلها؛ فرأى الفرنسيون — مثلًا — أن نشر ثقافتهم في مصر يستتبع وجود طائفة مصرية تتثقف بثقافتها، وتتذوق ذوقها وتقرأ كتبها وتعصب لعاداتها وتقاليدها وهكذا. ومِثل ذلك الأمم الأخرى. ثم فُرضت اللغة الإنجليزية والفرنسية في المدارس على اختلاف أنواعها.
وكان مِن أثر هذا وجود طائفة كبيرة حذقت اللغات الأجنبية واطلعت على آدابها وتذوقته؛ فلما أخرجت إلينا أدبًا عربيًّا كان أدبًا فيه الأثران، الأثر العربي والأثر الأجنبي، وكما انتقلت أوربا إلينا على الشكل الذي رأينا، انتقلت طائفة أخرى منا إلى أوربا عن طريق البعوث ونحوها، وهؤلاء كانت ثقافتهم الأوربية أوسع وأعمق.
وأكثر المنتجين في الأدب عندنا هم من الطراز الذين تذوقوا الأدبين وتثقفوا الثقافتين، ومَن لم يذق هذه الثقافة الأجنبية بأي شكل من أشكالها كان أكثر إنتاجه ضعيفًا، أو على الأقل كان إنتاجًا لفظيًّا أو شكليًّا أو غير مستساغ عند الجيل الحديث.
وكان من أثر انتشار الثقافة الأجنبية الصحافة العربية، وهي التي قطرت الثقافة إلى الشعب، كما كان من أثرها تعليم المرأة، وأخذها حظًّا عظيمًا من الثقافة حتى بدأت تساهم في الإنتاج، وإن كان إنتاجها لا يزال إلى الآن ضعيفًا.
وكان مِن عمل الأوربيين أيضًا في خدمة الأدب العربي حركة الاستشراق؛ فقد نشر المستشرقون أهم الكتب العربية في دقة وعناية، وعلَّمونا كيف ننشر الكتب في تحقيق وضبط، من مقابلة النسخ بعضها ببعض، ووضع فهارس وافية لها إلى غير ذلك.
وكانت لهم بجانب ذلك بحوث قيمة في الموضوعات الإسلامية والموضوعات الأدبية، كالذي يتمثل في تأليفهم لدائرة المعارف الإسلامية. نعم إن بعضهم — من غير شك — قد غلبَ عليه التعصب الديني في بحوثه، وبعضهم غلب عليه التعصب السياسي لأمته، وبعضهم وقع في أخطاء كبيرة منشؤها صعوبة تذوق روح اللغة وأدبها، ولكن هذا كله لا يذهب بفضل الكثير منهم، وخاصةً من ناحية أننا استفدنا منهم طرق البحث وكيفية الاستفادة من النصوص.
يضاف إلى ذلك ما يعقدون من مؤتمرات، كمؤتمر المستشرقين الذي من مزاياه تعارفُ المستشرقين، ومعرفة النتائج التي وصلوا إليها ووضعُ الخطط للبحوث المستقبلية.
ومن ذلك إنشاء المجلات الشرقية كالمجلة الآسيوية ونحوها، وكان لهذا كله صدى كبير في الشرق عامة ومصر خاصة.
هذا — في إجمال تام — ملخص أثر الحركة الأوربية في مصر.
يقابل هذه الحركة حركةُ أخرى مصرية نشأت من الأزهر ودار العلوم؛ فهؤلاء نشروا تعليم اللغة العربية وآدابها في المدارس، وقاموا بنشر الثقافة العربية بجانب الإنجليزية والفرنسية وغيرهما. ولكن هل نجحوا في عملهم؟ مما لا شك فيه أنهم نجحوا إلى حد ما؛ والذين ينشدون الكمال يرون نجاحهم كان محدودًا؛ لأن أكثر تخرَّج على أيديهم لم يتذوقوا الأدب العربي كما ينبغي، ولم ينتجوا نتاجًا عربيًّا كما ينبغي، فطلبة المدارس الذين يأخذون بالحظين معًا من اللغة الأوربية واللغة العربية سرعان ما يميلون إلى اللغة الأجنبية، ويعكفون على دراسة أدبها، وقلَّ من يعكف منهم على اللغة العربية وآدابها بعد تخرجه — قد تقول: إن السبب في هذا وفرة النتاج الأوربي وضعف المكتبة العربية، ولكنهم أيضًا هم المسئولون عن هذا النقص، فقد مضت عليهم السنون الطويلة التي كانت تمكِّنهم من سد هذا النقص، وإيجاد الكتب التي تغذي الشعب في مراحله المختلفة، ولم يقوموا بهذه الرسالة على وجهها.
هذا إلى ما نراه مِن ضعفٍ واضح في متخرجي المدارس المصرية في اللغة العربية من ناحية تعبيرهم، ومن ناحية أدائهم للمعاني التي في نفوسهم.
وكان من أثر هذه الحركة أيضًا، حركة التأليف في الموضوعات القديمة، ونشر الكتب القديمة كما يفعل المستشرقون، بل قد زادوا عليهم، فمما نلاحظ ضعف حركة الاستشراق الأوربي وقلة ما تنشره، وكثرة ما ينُشر في العالم العربي وخاصة مصر، وهو من ناحية الكمية يدعو إلى الإعجاب، ومن ناحية الكيفية يدعو إلى الأمل في المستقبل في الضبط والدقة.
ولا تزال الحركة الأدبية العربية القديمة تعمل عملَها؛ فالكتب القديمة تُقرأ في الأزهر ودار العلوم والجامعة؛ فتقرأ كتب النحو والصرف والأدب ودواوين الشعر ونحو ذلك فتغذي هذه الحركة وتنميها.
وهاتان الحركتان تتقاربان وتمتزجان وتؤثر كل منهما في الأخرى أثرًا كبيرًا أحيانًا وضعيفًا أحيانًا، ويكاد يكون هذا الامتزاج ظاهرًا في كل تعليمٍ وكل نتاج أدبي؛ فالذين تثقفوا ثقافة أجنبية واسعة عميقة إذ أنتجوا نتاجًا عربيًّا استخدموا العربية وهو عنصرٌ عربي، وكثيرًا ما كتبوا في موضوعات عربية أو مصرية حتى يكون لنتاجهم قيمة ذاتية، وتأثروا بالآداب الأجنبية في طريقة العرض وطريقة الفن. وكبار الأدباء متأثرون من غير شك بالثقافة الأجنبية في طريقة التحليل والعرض، ومتأثرون بالثقافة العربية في اللغة والأسلوب وموضوع الكتاب.
وغايةُ الأمر أن مقدار حظ الأدباء من الثقافتين يختلف؛ فمنهم من غلبت عليه النزعة الأجنبية حتى لا يكاد يُبين بالعربية، ومنهم من غلبت عليه النزعة العربية، حتى ليكاد يكون نتاجه يحاكي بديع الزمان الهمذاني أو الجاحظ أو نحوهما من ذوي الأسلوب القديم. ولكل من الثقافتين الأجنبية والعربية مزاجٌ خاص؛ فمزاج الثقافة الأجنبية حرٌّ أمام الدين وأمام المشاكل الاجتماعية والسياسية، وطبيعتها وثَّابة تُعنى أكثر ما تعنى بالحياة الواقعية، وتجاري الزمن وتنظر للمستقبل. ومزاج الثقافة العربية القديمة المحافظة في الدين وفي الاجتماع وفي السياسة، وطبيعتها هادئة تعنى بالماضي أكثر من عنايتها بالمستقبل، وتُعظم الماضي أكثر مما تُعظم الحاضر. فخير أسلوبٍ عندها أسلوب الجاحظ أو البديع، وخير كاتب من حافظ على التقاليد القديمة وهكذا.
وهذا هو ما يفسر لنا الصراع بين حركة الأزهر والجامعة — مثلًا — والصراع بين المثقفين ثقافة شرقية بحتة والمثقفين ثقافة غربية بحتة، والصراع بين شيوخ الأدب والعلم وشبان الأدب والعلم.
ولكن مهما كانت طبيعة المزاجين مختلفة، فالزمان يعمل عمله في التقريب بينهما، وهو يعمل فيهما ما يعمله إذا صببتَ ماءً حارًّا باردًا، فالنتيجة مزاج من الحرارة والبرودة. فالمثقف ثقافة أجنبية يرى نفسه مضطرًّا — إلى حد ما — أن يجاري القديم حتى يُفهم وحتى يُقبل وحتى ينجح. والمثقف ثقافة عربية بحتة يقرأ الجرائد والكتب المترجمة والكتب المؤلفة على النمط الحديث فيتأثر بها، والأزهر نفسه رأى أن يجاري الجديد — إلى حد ما — فعمل مدارس ثانوية تشبه بعض الشبه المدارس الثانوية المدنية، واستعان برجال دار العلوم لأن فيهم جدة وبعث البعوث إلى أوربا لينقلوا إليه بعض جديد أوربا، وهكذا.
بل نحن في مدارسنا المصرية ننشئ الطلبة على مزيج من الثقافتين؛ فنعلِّم الجغرافيا والطبيعة والكيمياء والجبر والهندسة كما يتعلمها تمامًا الطالب الأوربي، ولا ننظر في الكيمياء إلى جابر بن حيان، ولا في الجغرافيا إلى معجم ياقوت، ولا في الطبيعة والرياضة إلى ابن الهيثم. ونعلِّم النحو والصرف كما خلَّفهما سيبويه، لا نختلف في شيء إلا في أسلوب التبسيط وضرب المثل.
وهاتان الحركتان، الحركة الأوربية والحركة العربية، وامتزاجهما على أشكال من المزج هو الذي يلقي الضوء على نتاجنا الأدبي على اختلاف أنواعه. فلنعرض لشيء من التفصيل والتمثيل. خذ لذلك مثلًا أدبنا السياسي كشعر حافظ ، وخطب سعد ، ومقالات الصحف في الحركة الوطنية … إلخ. فهي عربية قومية في لغتها ونزعتها؛ وهي غربية لأنها تحذو حذو الأجنبي في كيفية معالجة الموضوعات في الصحف وعلى ألسنة الخطباء … إلخ. فذلك كله نتيجة المزاجين، نتيجة أن السياسة الأجنبية أرادت أن تطغى علينا وتفقدنا قوميتنا فتنبهت مشاعرنا، وهذا هو العنصر المصري. ولكن بجانب ذلك كان منا مَن تعلَّم مِن الأجنبي كيف يدافع عن بلاده، وكيف يكتب دفاعًا عن الحرية، وكيف تعالج صحفهم ذلك، وكيف يعالجه خطباؤهم، فاستفدنا منهم، وهذا هو العنصر الأجنبي.
امتزج هذان العنصران فكان لنا أدب سياسي يتفق وموقعنا ويتفق وحياتنا، وما كان يكون ذلك لو لم يمتزج العنصران، ولعلَّ محمد عبده وسعد زغلول خير من يمثل هذه الفكرة، وفيهما اجتمع العنصران وتآلفا.
ولننظر مثلًا إلى الشعر الحديث ما شأنه؛ لقد كان قبيل البارودي منحطًّا منحلًّا، كان أغلبه نظمًا لا شعرًا، يستعملونه في التهاني والتعازي وما شاكل ذلك في أسلوب منحط أو في الخلاعة والمجون في ألفاظ بذيئة.
فجاء البارودي وجدَّده، ولكن يخيل إليَّ أن تجديده لم يكن من نوع التجديد الذي نفهمه الآن مِن تطعيم الأدب العربي بالأدب الأجنبي، إنما كان تجديده من ناحية الرجوع بالشعر العربي لا إلى العصر القريب المنحط بل إلى العصر البعيد الراقي؛ فترسَّم آثارَ أبي نواس وأبي فراس والمتنبي والشريف الرضيِّ من حيث الأغراض والمعاني وفحولة اللفظ. فلما جاء حافظ وشوقي وأضرابهما كان تجديدهم أوضح، ولكنهم مع هذا حظهم من القديم أكثر من حظهم من الجديد، فلما انتقلوا إلى جوار ربهم وقف الشعر ولم يتقدم كثيرًا.
فما السبب في هذا؟
لقد قيل: إن الزمن ليس زمن شعر، وإن الشعر قد انحط في كل العالم لا في مصر وحدها؛ لأن الشعر وليد الخيال، وهذا العصر ماديٌّ لا خيالي، يريد أن يمس الواقع لا أن يحلِّق في الجو. وقيل: إن الأمم ارتقت فلم يعد الشعر صالحًا لها؛ لأن الشعر كأحلام الطفولة وهو — عادةً — يسبق الفلسفة والنثر الفني؛ فإذا اكتملت الأمة في عقلها خلَّفت الشعرَ وراءها، وفتحت عينها للعلم والفلسفة، والعالم الآن جاز دور الطفولة، فما حاجته إلى الشعر؟! وقيل غير ذلك من أسباب.
ولكني أرى أن أصح سبب في تأخر الشعر في مصر والعالم العربي هو ما أسلفنا من نظرية امتزاج الثقافتين.
ولتتميم هذه النظرية أرى أن الشيء الذي يُكتب له النجاح هو ما بلغ قدرًا صالحًا من المزاجين يتفق وذوق الأمة.
وقد يكون هناك سببٌ آخر في نظري لضعف الشعر، وهو أن الشعر كمالي، والنثر ضروري؛ فحاجتنا إلى النثر كحاجتنا إلى الغذاء، إن لم يوجد الجيد كان لا بد لنا من الوسط أو أقل منه، أما حاجتنا إلى الشعر فكحاجتنا إلى طاقة الزهر على المائدة، إن لم تكن جميلة فمن الخير أن نستغنى عنها؛ لهذا قبلنا النثرَ الوسط فارتقى ولم نقبل الشعر الوسط فضعفَ.
فالشعر القديم كان مناسبًا للذوق القديم، فلما تطور ذوق الأمة رأى أمامه شيئين مختلفين تمام الاختلاف وكلاهما غير صالح، وبتعبير أدقّ غير مناسب للذوق الجيل الحاضر. فأما أحدُ الشعرين فشعرٌ على النمط القديم في أوزانه وقوافيه وأغراضه ومعانيه، وهذا لم يعد صالحًا؛ لأن ذوق الأمة اجتاز هذا الطور. وشعرٌ أمعن في تقليد الشعر الأفرنجي في معانيه وأسلوبه وصوره وأخيلته، فجاء نابيًا عن الذوق الشرقي ولم تعجبه صياغته ولا ألِفَ تعبيراته؛ كالشاطئ المجهول ومقابر الغجر ونحو ذلك.
وحيرتنا في الشعر كحيرتنا في الموسيقى. فالمثقفون لا ترضيهم الموسيقى القديمة؛ لأن آذانهم الموسيقية ارتقت، ولا ترضيهم الموسيقى الأوربية؛ لأنها لا توافق ذوقهم وقوميتهم، والعالم العربي الآن ينتظر نبيًّا جديدًا في الشعر ونبيًّا جديدًا في الموسيقى، ونجاح هذا النبي يتوقف على مقدار ما يحسن من المزج بين العنصرين، بقدرته على أن يقتبس من الجديد ما يناسب ومن القديم ما يناسب، ثم يكون في نفسه من الحرارة ما يستطيع بها أن يُنضج الصنفين، ويكوِّن منهما صنفًا واحدًا سائغًا للسامعين والقارئين.
وهذا السبب الذي دعا إلى تأخر الشعر هو بعينه الذي دعا إلى نجاح النثر، وخاصةً في بعض نواحيه كالمقالة؛ فالكُتَّاب استطاعوا أن يتحرروا من كثير من قيود الماضي كالإغراق في المحسِّنات اللفظية والسجع ونحو ذلك، واقتبسوا من الغربيين محاسنهم كالتحليل الدقيق والبساطة في التعبير، وتمشُّوا في تعبيرهم وموضوعاتهم مع رقيِّ عقلية المثقفين فنجحوا حيث لم ينجح الشاعر. أما الشعر فلم يتحرر تحررَ النثر، فبحوره هي البحور القديمة مع أن البحور ليست إلا النغمات الموسيقية، وشعرُ حافظ وشوقي في المديح أضاعت قيمتَه الديمقراطية، وشعرُ حافظ في السياسة قد انتهي زمنه، والذين يجددون يأتون بصور غربية يزعمون أنها شرقية، ويأتون بصيغ غربية لا تستسيغها الأذواق العربية.
إن النثر جرى طلقًا وتحرر من كثير من قيوده واستفاد الأدب الغربي أكثر مما استفاد الشعر، سواء في ذلك موضوعاته وأساليبه، ولم يبقَ ممن التزم النهج القديم إلا عدد قليل من الكتَّاب يُعجب الناظر بكتابتهم نفس الإعجاب الذي يشعر به زائر دار الآثار.
على أن النثر الجديد لم يكن كلُّه وليدَ الحركة الأجنبية، بل كان وليد الحركتين معًا؛ فأساليب قادة الكتَّاب نتاج مطالعات في كتب الأقدمين ومطالعات في كتب الغربيين، ولكنهم نجحوا في التخير ومقدار التحرر. قرءوا ابن المقفع والأغاني وأمثالها وانطبعت في أذهانهم صورٌ للأساليب الرائعة، ثم قرءوا الأدب الغربي فتشبعوا بموضوعاته وأساليبه أيضًا ، واشتقُّوا منهما نمطًا جديدًا لا شرقيًّا خالصًا ولا غربيًّا خالصًا، بل هو شرقي غربي معًا، وهذا هو السر في نجاحه
رأوا في النثر القديم جزالةً في الأسلوب فاقتبسوا منها، ولكنهم رأوا فيه إيجازًا قد يدعو في كثير من الأحيان إلى الغموض فأعرضوا عنه ومالوا إلى الوضوح، وكان أكثر قادة الكتَّاب في مصر صحفيين، فمالوا إلى الأطناب حتى يسدوا فراغ الصحف، ورأوا كثيرًا من موضوعات الأدب القديم لا تناسب حياتنا الواقعية فقلوا الفرنجة فيما يكتبون من موضوعات، وحملتهم الظروف السياسية على أن يطيلوا في السياسة والحرية وحقوق الأفراد وحقوق الأمم، فكان من ذلك كله مرانٌ حسن لأقلامهم لم يتوافر للشعراء، ومران حسن لألسنتهم فنمت ناحية الخطابة.
وتنبه المصلحون إلى نواحي الضعف في الحياة المصرية والاجتماعية، فأخذوا يعالجونه بالمقالات ينشرونها في الصحف والمجلات وفي كتب خاصة، هذا يعالج شؤون المرأة، وهذا يعالج البؤس والشقاء، وهذا يعالج القيود التي كُبلت بها الحرية، فأثَّر هذا كله أثرًا صالحًا في أن يكون للأدب الحديث موضوعٌ بعد أن كان في العصور الوسطى جملةَ ألفاظ جوفاء.
وكان من أوضح آثار الحركة الأجنبية في الأدب المصري لحديث القصص والتمثيل؛ فلأدب الأوربي الحديث عماده القصص، وكان هذا القصص ضعيفًا في اللغة العربية في مصر، ترفَّع عنه الأدب الأرستقراطي، ونَعِمَ به الأدب الشعبي، فقد كان الشعب ينعم بقصة أبي زيد الهلالي وسيف بن ذي يزن والظاهر بيبرس وألف ليلة وليلة، كما تنعم البيوت بحواديت العجائز ونحو ذلك. أما الأدب الأرستقراطي فكان يترفع عن ذلك ويتوقر، ويعُدُّها هي والنكت مِن سقط المتاع لا يصح للسادة الأفاضل أن يقرءوها أو يؤلفوا فيها.
فكان من نتيجة الاطلاع على الأدب الغربي وتعرُّف منزلة القصة أن قلَّدهم كتَّابنا فبدءوا — أولًا — يترجمون، ثم أخذوا يؤلفون ويجعلون الحياة المصرية موضوعًا لرواياتهم، وأنشئت بعض المجلات التي تقتصر على مثل هذا النوع من الأدب، ووجد الكتَّاب الذين يتخصصون لذلك.
وكذلك كان الشأن في التمثيل والروايات التمثيلية، فقد سارت في نفس هذا الطريق؛ فوُجدت الروايات التمثيلية المترجَمة والمقتبسة والمؤلفة، ووُجد المسرح لعرض هذا النوع من القصص، ولا يزال هذا الامتزاج يعمل عمله ويسير في قوة حتى يبلغ الأدب العربي مبلغه اللائق به.
ويحقُّ لنا بعد ذلك أن نتساءل: هل أدى الأدب العربي في مصر رسالته؟
إنما يؤدي الأدب رسالته في الأمة يوم يكون صوت حياتها ووصف ما فيها من أمل وألم، وغذاءها الروحي الذي يهبها العزاء والأمل، عقلائها وأذكيائها معروضة عرضًا جميلًا.
ليس الأدب هو الألفاظ الضخمة لا شيء وراءها، وليس أدبنا هو الأدب الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي، إلا أن تكون هذه وسائل فقط لإنتاج أدبنا الذي يمثل مشاعرنا، ليس أدبنا مدحًا نتوسل إليه بامتطاء الإبل ونفتتحه بالغزل والنسيب، ونبكي فيه على أطلال الدمن والنؤى والأحجار، فهذا كله وأمثاله يصلح أن يكون دراسة علمية للأدب وليس هو الأدب، وليس الأدبُ وسيلةً من وسائل اللهو والمجون كعادة قوم من الشعراء رأوا أن الشعر ليس إلا التغني بالخمر ونحوها، وليست صياغته إلا نوعًا من العبث في البديع وأشكاله.
فهذا ليس هو الأدب الذي نقصده في عصرنا، ولا هو بالغذاء الذي ننشده. إنما نريد من الأدب وصفَ حياتنا الواقعية بآمالها وآلامها، كما يتصورَّها ذوو العقول والمشاعر منا معروضة عرضًا جميلًا جذابًا.
نريد أدبًا يتمثل في قصص لطيف يناسب الأطفال، وأدبًا أرقى من ذلك يناسب الشعب يشرح له نواحي ضعفه ونواحي قوته، ويمثل له أسرته وحكومته وبؤسه وغناه، ويحبب إليه جمال الطبيعة في بلده، ويوضح له ما يعترض عصره من مشاكل اجتماعية واقتصادية وسياسية في أسلوبٍ يناسب عقليته.
نريد أدبًا يتغنى به الأطفال ويتغنى به الشعب إذا أراد الغناء، وينشده إن أراد أناشيد.
نريد أدبًا مصريًّا في السينما وفي التمثيل، يعرض للحياة المصرية ويصفها ويحللها.
نريد أدبًا في مكتبة عربية مصرية ضخمة كالسماط الممدود، فيه كل صنف حسبما يشتهي الآكل وحسب مقدرته على الهضم.
هذا هو ما نتصوره في الأدب، ويوم يكون ويساير هذه الرغبات كلَّها يقال حينئذ: إن الأدب المصري قد أدى رسالته.
أما وهو كما نراه اليوم فلا يزال في مفتتح الطريق، فلا الطفل يجد ما يغذيه، ولا الشعب يجد ما يصح أن يقرأه، ولا المغني يجد شيئًا صالحًا يغنيه، ولا الممثل يجد ما يصح أن يمثله، لا شيء من ذلك إلا أشياء في مستهل الحياة تصلح لمجة ولكن لا تصلح للإشباع.
فإن سُئلنا عن العوائق التي تعوق السير السريع في هذا السبيل وجدناها في أمور، أهمها:
أن أدبنا إلى الآن أدب أرستقراطي، وأعني بأرستقراطيته أنه يُكتب ويؤلف للطبقة المتعلمة وحدها، وهم عدد قليل بالنسبة للأمة، أما أكثر الشعب فلا يقرأ ولا يكتب، إن كان يقرأ ويكتب ففرقٌ كبير بين لغته في البيت والشارع وحياته العامة وحياته الأدبية، فوجود لغتين للأمة: لغةٌ أرستقراطية ولغة شعبية — إلى هذا الحد الذي نراه — يؤثر في الحياة الأدبية كثيرًا، ويظهر ذلك من جهة أن القراء قليلون، وهذا لا يشجع على التأليف، ومن جهة أن الأديب لا يستطيع أن ينزل إلى الشعب ليفهمه؛ لأن هذا يضيع وقاره، ومن جهة أن الأديب لا يجد الألفاظ والتعابير التي تملأ أسلوبه حياةً؛ لأن الكلمات والأساليب التي تُستعمل في الحياة الواقعية تكتسب الحياة أكثر من الكلمات والأساليب التي يقتصر وجودها على الكتب.
ولستُ الآن بصدد بحث هذا المشكل وإيجاد الحلول له، فإنما أنا عارضٌ فقط.
ومن الأسباب في هذا الضعف أن البرنامج الموضوع للأديب في تصورنا وعملنا برنامج ناقص؛ فبرنامج الأديب يجب أن يحوي دراسات في النفس والاجتماع واسعة، ودراسات لأدب أوربي واسع، ودراسات لأدب عربي واسع، ودراسات لحياتنا الشعبية الواقعية واسعة، وقلَّ منا من ظفر بهذا البرنامج وأخذ به نفسه؛ لذلك جاء أكثر الإنتاج ناقصًا من الناحية الفنية وناقصًا من ناحية التحليل، وناقصًا من ناحية عدم الإلمام إلمامًا كافيًا بالموضوع الذي يتحدث فيه.
وسببٌ ثالث: وهو ضعف النقد الأدبي في مصر، وأنه ليس خاضعًا لقواعد وأصولٍ وتقديرٍ صحيح بقدر ما هو خاضعٌ للهوى.
وأيًّا ما كان، فلسنا يائسين ولا ناكرين لفضل الأدباء الحديثين، فنحن إذا نظرنا إلى حالتنا الأدبية من سنين وحالتنا اليوم اغتبطنا، فقد وُجدت المقالة الراقية والقصة الراقية والكتب الطيبة في أكثر نواحي الأدب، وكلُّ رجائنا أن يتتابع الجهدُ في الإنتاج، والجهد في القراءة والتحصيل، وتنظيم وسائل الإنتاج، وتنظيم وسائل القراءة.
وما قلناه عن الأدب المصري الحديث ينطبق كل الانطباق على الأدب العربي الحديث في الشرق كله.