الحيرة
لست أنسى تلك الأيام التي قضيتها في فندق «أوريان بالاس» في دمشق أيام مهرجان المعرِّي، وكان الشباب السوري يتحلق حول العلماء الوافدين، ويمطرهم بالأسئلة الاجتماعية والسياسية الأدبية.
إن كان هناك طابع يميز هذه الأسئلة فهو «الحيرة»؛ الحيرة فيما يجب أن يعملوا لأنفسهم ولصالح أمتهم؛ والحيرة في المذهب السياسي والاجتماعي الذي يجب أن يعتنقوه؛ والحيرة في موقفهم إزاء المدنية الحديثة، ماذا يأخذون وما يذرون؛ والحيرة في كيفية التوفيق بين مطالب الإسلام ومطالب المدنية.
وليس الأمرُ مقصورًا على الشباب السوري، فالشباب الشرقي كله حائر في هذه الأمور وأمثالها، بل كل المثقفين وأولي الأمر حائرون.
ولهذه الحيرة أسبابٌ خاصة في كل قطر، وأسبابٌ عامة في العالم.
إن العالم كلَّه اليوم حائر؛ لأنه هدم قديمه، ولمَّا يَبْنِ جديده، كالسائر يمشي في الطريق الواضح المَعْلَم حتى إذا أتى إلى مفترق الطرق حار أين يتجه. نقمَ المصلحون على الوطنية؛ لأنها جرَّت التنافس إلى حد التناحر؛ ولأنها أدت إلى المغالاة في حماية الصناعة الوطنية والتجارة الوطنية، وفرضِ كل أمة صناعتها وتجارتها وسياستها ورجالها على مستعمراتها، وأُشعلت نيران العداوة والحسد والغيرة بين الأمم حتى أدت إلى هذه الحروب الطاحنة، ونادوا بأن تحل الإنسانية محل الوطنية، أن تفتح البلاد للتجارة الحرة تتنافس تنافسًا مشروعًا أساسه الرخص والجودة وما إليهما. ولكن كيف ترسُّم هذه الخطط لبرنامج الإنسانية، وكيف يُحافظ على مزايا الوطنية وتتجنب أضرارها، وكيف نتخلص من إرثٍ قيم في نفوسنا، وأين الساسة القادرون على أن يقودوا الرأي العام لا أن يقودهم الرأي العام؟ كلُّ هذا لم يتبين بعدُ، فالناس حائرون.
وشَكَا آخرون من التربية وقالوا: إنها علة العلل، وإنه تخدم الوطنية وتؤججها، وتبعث في نفوس الناشئين ضيقَ النظر وعصبيةَ الجنس والأمة، وتعِدُّ للحرب والخصومة والسير على آثار من قبلهم في تصور نظم الحكم؟ ولكن كيف الإصلاح؟ وكيف يعمُّ هذا الإصلاح الأمم كلها حتى لا يتسلَّح قومٌ بالوطنية والخصومة، بينما الآخرون متسامحون يؤسِّسون تعاليمهم على الإنسانية والعطف والإخاء؟ وكيف ينفَّذ الإصلاح — لو عُرف — والقابضون على زمام التربية والتعليم عقليتهم من جنس عقلية حكومتهم التي تُحافظ على القديم وتكره الجديد، خصوصًا إذا كان جديدًا ثائرًا؟ هذا موضع حيرة.
ورجال الدين يصرخون: ضاع الدين ففسدت الأمم، وماتت الروح فضاعت الذِّمم، ولا نجاة إلى بعودة الدين إلى حياته ليعود لضمير إلى محاسبة النفس، ولكن ماذا فعل رجال الدين ليصوِّروه دينَ روحانيةٍ لا مادية فيها، وسمو أخلاق لا ضعَة فيها، وحقيقة لا خرافة فيها، وسماحة لا ضيق فيها، وصفاء نفس لا شائبة فيها، وخدمة للإنسانية لا كراهية فيها، وعون على التقدم الاجتماعي لا رجعية فيه، وتصفية العلاقة بين العبد وربه لا تكديرها، وتجرد عن خدمة السياسة والاستبداد والشهوات والأغراض؟! هذا موضع حيرة.
والمصلحون السياسيون ينادون أن النظام الحالي للدول سبب البلاء، فأممٌ متقاطعة ترتكز سياستها على ضيق النظر وكسب الغنائم على حساب غيرها؛ وتوجيه الشعوب لمصلحة حكومتها لا توجيه الحكومة لمصلحة شعبها، ونظمٌ تتنازع العالم بين شيوعية ونازية وديمقراطية، ويؤول تنازعها إلى انقسام العالم إلى معسكرات وفناء الملايين من بني البشر، وتسخير العلوم والفنون للحرب، وغير ذلك. ولكن ما هي النظم التي يجب أن تحلَّ محلَّ القديم، وكيف تُفرض على الجميع، ومَن الذي ينفذها؟ لسرعان ما توضع المبادئ الإنسانية في الحرب، ثم تُنسى في السلم، فكيف ينفذ في السلم ما يقال في أيام الحرب؟ هذا أيضًا موضع حيرة.
ورجال الأخلاق يشكون من ضياع الأخلاق الفاضلة؛ فقد ضاع عطف أفراد الأسرة بعضهم على بعض، وعطف رب المال على العمال، والعمال على رب المال. وضاعت حرمة القوانين والمبادئ كما ضاعت حُرمة المعاهدات. وفشا الشك في قيمة الفضيلة كما فشت الفوضى في العقول. ولكن كيف السبيل للإصلاح؟ إن المواعظ والنصائح وكتب الأخلاق لا تؤثر ما لم يدعمها الإصلاح السياسي والاجتماعي، وقد أبنَّا صعوبته وحيرتنا فيه! فهنا حيرةٌ كتلك.
العالم كلُّه غارقٌ في الحيرة من هذا ومن أمثاله.
•••
ثم للشرق حيرةٌ أخرى بجانب هذه الحيرة العالمية، بل حيرات. إن مصيره مرتبط بمصير العالم، فهل تتغلب المبادئ الإنسانية والعدالة الاجتماعية فتنظر للشرق كأنه أخٌ للغرب، إن تخلَّف عنه يأخذ بيده حتى يتقدم، كما يأخذ الأخ العاقل العادل الكبير بيد الأخ الصغير فيعلِّمه ويمرِّنه ويُعدُّه لمستقبله خير إعداد، ويؤهله للتعاون معه في إعلاء مجد الأسرة؟ أو يسلك معه في الحاضر ما سلكه في الماضي فيكون كالأخ الظالم الكبير يتولَّى الوصاية على الصغير فيسلبه ماله، ولا يعلِّمه لأنه ينتفع بجهله، ويعينه على الفساد لأن فساده خيرٌ له من صلاحه؟: هذا موضع حيرة! وحيرته في هذا مشوبة بالخوف، والخوف مبعث القلق، والقلق يؤدِّي إلى الاضطراب، والاضطراب ليس في مصلحة الحاكم ولا المحكوم، لا الغالب ولا المغلوب.
ثم هو قد توزَّعته الدعاة؛ فداعٍ إلى المثل القديم يريد نظام التشريع القديم ويريد التعليم على الأساس القديم، ويريد التمسك بالعادات والأوضاع القديمة؛ فلا سفور للمرأة، ولا أخذ من التشريع الحديث، ولا أخذ من المدنية الغربية إلا أن تقرها المدنية القديمة، وإلا في حدود ضيقة جدًّا؛ ودعاة يدعون إلى التجديد في كل شيء، ونقل الشرق إلى الغرب في نظمه وتربيته وكل شؤونه. وهؤلاء وأولئك جادون في دعوتهم، مقتسمون الشباب فيما بينهم، مؤيِّدون بالبراهين القوية وجهة نظرهم. يرمي الأوَّلون الآخرين بالتهور، ويرمي الآخرون الأولين بالجمود، والشباب بينهما حائر!
ثم دعاة التجديد فيما بينهما منقسمون ومتوزعون على المثل العليا، تقسمتهم المذاهب السياسة والمذاهب الاجتماعية، وبعضهم حربٌ على بعض، وكثيرون ينظرون إلى هؤلاء وهؤلاء، فيصرخون من أعماق صدورهم: أين الحق؟
إن رُمِي الغرب بحيرة، فقد رُمي الشرق بحيرة خاصة بجانب الحيرة العامة.
لست أكره هذه الحيرة ولا أمقتها، فهي دليل الحياة، ودليل النشاط؛ ولكن أشفق على أهلها إشفاقي على الهائم في طريقه، الضالِّ في مسلكه، أو المريض تضاربت في علاجه أقوال الأطباء.
ولعل أكبر سبب لإشفاقي، وأكبر سببٍ لحيرة الشباب، ندرة الزعماء المتميزين، وكثرة الأعضاء الصالحين لا يقودهم رأسٌ صالح. إن الزعيم القوي يبعث في النفوس إيمانًا قويًّا يذهب بالحيرة، ونارًا حارَّة تأكل التردد، وعينًا حادة تعيِّن الطريق عند مفترق الطرق، والزعيم القوي يلتهم الخلافات فلا يكون لها أثر، ويوحد بين الآراء المتشعِّبة فيكون منها رأي واحد يؤمن به الجميع، إلا من لا يعبأ به. والويل إذا تقارب الرؤساء في الكفاية، ولم يضطرهم رئيسٌ ممتاز أن يخضعهم لكفايته، ويسيِّرهم لاعتقادهم بميزته.
ولكن الزمان علَّمنا أن الحيرة تخلق الزعامة، كما يتكون السديم نجمًا. والضلال يسبق الهدى، كما يكون الفجر الكاذب إرهاصًا للفجر الصادق.