على هامش الحُكْم
لقد ورثنا إرثًا بغيضًا من العصور الماضية، وهو ترك الحكام وشأنهم يفعلون ما يشاءون وحسابهم عند ربهم؛ وهو أثرٌ من آثار العقيدة بأن الحُكْم فريضة القدر، إن شاء رحمَ الشعب فهيَّأ له حكومة عادلة، وإن شاء قهره فهيَّأ له حكومة ظالمة، والقدر يفعل ما يشاء بلا حساب. وكلُّ ما يُعرف من قوانين القدر أنه إذا كان الشعب صالحًا يؤدِّي الفرائض الدينية كما أُمِرَ هيَّأ الله له حكومة عادلة، وأما إذا ارتكب الخطايا عوقب بحكومة ظالمة.
وكان نموذج الرجل الطيب بناءً على هذا هو من يبتعد عن السلطان، وبعبارة أخرى عن رجال الحكم، فلا يأخذ عطاءهم، ولا ينقد عملهم، وإنما ينقطع للعبادة ما أمكن، فإن شارك في أعمال الدنيا فبالأعمال الصالحة، وهي تكاد تنحصر في الإحسان إلى الفقير، وإطعام الجائع، وكسوة العريان ونحو ذلك. ونقرأ في الكتب القديمة فنرى هذا هو المثل الأعلى للرجل، عبادة وعزلة، والاكتفاء بذلك إن كان فقيرًا، وصدقة وبناء مسجد إن كان غنيًّا. أما موقف الشعب من الحكومة فهو كموقفه من الشمس؛ لا يستطيع إليها الصعود ولا تستطيع إليه النزول، ولا يستطيع أن يغيِّر حرارتها إن اشتد القيظ، ولا يزيد حرارتها إن اشتد البرد، كما قال الشاعر:
وتلوَّن كثيرٌ من الأدب العربي في العصور الوسطى بهذا اللون من إعلاء شأن السلطان وعدم التعرض له بخير أو شر، ومَدْح الذين نفضوا أيديهم من الأمر، والإشادة بشأن من دُعوا للمشاركة في الحكم فأبَوْا، وللقضاء فامتنعوا، ولعطاء السلطان فهربوا — وامتلأ بالحِكَم والمواعظ والأمثال من هذا القبيل.
هذا شأن الأتقياء وأصحاب الزهد والورع. فأما أهل الدنيا مثل الشعراء، كما كانوا يسمونهم — فإغراقٌ في المديح، وتفنّنٌ في البديع، وإفراطٌ في وصف الحاكم بحسن الصنيع، يُمدح إذا أتى بالخير، ويُمدح إذا أتى بالشر؛ فإعطاء الألْفِ كرمٌ يفوق كرمَ السحاب، وقتلُ البريء حزمٌ، والانهماك في الملذات ظرف، والكلمة العادية حكمة وهكذا. فهناك قوم سلبيُّون لا يتعرضون بخير ولا شر، وقوم إيجابيون «كالمطيِّب» للمغنيات. فأما جهرٌ بالرأي ونقدٌ للحكم فلا، إلا في القليل النادر!!
كان هذا هو الشأن أيضًا في العهد الروماني، وكان هو الشأن في أوروبا قبل الثورة الفرنسية، ولكن كل هذا تغيَّر عندهم إلى حدٍّ كبير، وعندنا إلى حدٍّ صغير، ويجب أن يكون — أيضًا — إلى حد كبير.
في العصور الماضية كان الفردُ مسئولًا فقط عن نفسه، فإن تعدَّاه قليلًا فعن أسرته، وكان الحكمُ مسئولًا عنه القدر وحده، أما اليوم فالحكم الصالح أو الفاسد في الأمة مسئولٌ عنه كل فرد — أنا وأنت وهو مسئولون عن وزارة المعارف كيف يجري فيها نظام التربية والتعليم، وعن وزارة العدل كيف يجري فيها تحقيق العدالة، وعن وزارة التموين كيف يصل الغذاء الكافي واللباس الكافي لأحقر فلَّاح في أبعد أرض، وعن وزارة الخارجية ماذا فعلت في المشاكل المصرية بينها وبين الأمم الأجنبية، وكيف حلَّتها أو أهملتها.
ومسئولون عن الوزارة كلِّها ككل؛ هل نرضى عن سياستها فتبقى، أو لا نرضى فتُعزل أو تسقط؟
ونزل الحكمُ من شمس السماء إلى كرةٍ في الأرض نوجهها حسبما نشاء، ونصيب بها الغرض الذي نشاء، فإن أطاعت فيها، وإلا قذفناها إلى غير رجعة.
فإذا شكونا من وزارة خانت فلنشك من أنفسنا؛ نحن الذين مكّنَّاها من الخيانة، وإذا مدحنا وزارة عدلت فلنغتبط إذ نحن الذين حملناها على العدل.
لقد أصبح الرجل الطيب لا من يتنحَّى عن العمل ويعتزل في صومعة، ولكن من يقول ويعمل كما يقول؛ وأصبح الشاعر الطيب لا من يَمدح بالحق والباطل، ولكن من يمدح حيث يجب المدح ويذم حيث يجب الذم؛ وأكثر من ذلك مَن يعبر عن مشاعره في صدقن، والعمل الصالح ليس في إعطاء فقير وكسوة عريان فقط، بل في نقد أعمال الحكومة أيضًا، والبطل ليس هو القديس ولكنه المصلح.
والشعب الصالح للبقاء ليس هو الشعب الذي يقول: دعوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ولكن الذي يقول: ما لقيصر وما لله لله وللأمة؛ هو الذي مُنح شعورًا مرهفًا بالظلم يمقته حيث كان، في الشركات، في الوزارات، في الحكومات، فإذا رآه صرخ وقال: «لا ظلم» بملء فِيهِ.
والشعب الصالح للبقاء من لا يكتفي بتضميد الجروح، ولكنه ينقي الدم — فهو لا يقنع كما كان يقنع الأول بالبكاء على الرذيلة، ولكنه يعمل لتدعيم الفضيلة.
لم تعد الصومعة ولا الدير موطن البطولة، إنما موطنها ميدان العمل؛ فمكافحة الملاريا أفضل عند الله من ألف صلاة تزيد عن الفرض، وتنوير الشعب بحقوقه وواجباته خيرٌ من الصوم الدائم، وتحسين حال الصناع والعمال والفلاح أقرب إلى الله من الرهبنة!!
وأصبحنا نفهم الزكاة بمعنى أوسع، فليست الزكاة واجبةً على الأغنياء في أموالهم فقط، وإنما هي واجبة أيضًا على العالِم في علمه والفنان في فنه، والقادر في قدرته، والموهوب في مواهبه، كلٌّ عليه زكاة يؤديها لخدمة المجتمع.
وأولُ واجبٍ يطالَب به الناس كافةً إقامةُ الحكومة الصالحة العادلة التي ترعى حقوق الشعب.
تسألني: وكيف يستطيع الشعب القيام بذلك؟ أقول: إن الحكومة الظالمة لا تستطيع البقاء في منصبها يومًا واحدًا إذا صرخ الشعب كله صرخة واحدة صاعدة من قلبٍ يشعر بالظلم؛ صرخها الكناس في الشارع، والعامل في المعمل، والصحفي في صحيفته، والنائب في برلمانه.
لقد رُوي في الأثر: «كما تكونوا يُوَلَّى عليكم» وهو حقٌ صحيح، ولكن لا بالمعنى الشائع، وهو أنكم إذا صلحتم منَّ عليكم القدر بحكومة صالح، ولكن بمعنى ارتباط السبب بالمسبب والعلة بالمعلول، فإذا صلحت الأمة صلحَ الحكم؛ لأن الأمة لا تصلح حتى تضع عينها على الحكم تعرف ماذا يفعل، وتستخدم لسانها لتوجِّهه أو تنقده أو تزجره — وأما إن هي تركته يفعل ما يشاء، وأخذ المخادعون والمنافقون والكتَّاب والأدباء والشعراء والصحف يُطرون ظلمه ويسبِّحون بحمده، أو أخذوا بأضعف الإيمان، وهو الاستنكار بالقلب، كانت النتيجة لا محالة حكومة فاسدة وحاكمًا ظالمًا. ومن الحق ما قاله أبو الطيب:
وليس يمنع حاكمًا من ظلمه مثل أن يرى أمة لا تُقِرُّ ظالمًا على ظلمه، ورأيًا عامًّا جريئًا يشعر بالعدل، ثم يعبر في صراحة عما يشعر به، وشعبًا يحلل أعماله وينقدها ويقوِّمها.
وليس يمكن أن يصل شعبٌ إلى هذه الدرجة إلا بتنويره وتثقيفه، ولست أعني الثقافة العلمية الخاصة، ولكن الثقافة العامة بالصحف والمجلات والراديو وخطب المساجد، وما إلى ذلك في الموضوعات الواقعية التي تواجهنا كل يوم، فكم من مثقف في النحو والصرف والرياضة والطبيعة والكيمياء، ثم لا يفهم شيئًا من أمور الدنيا، ولا مما يجري حوله من مظالم.
فإذا ثُقف الشعب هذه الثقافة السياسية والاجتماعية العامة أمكن أن يكون له رأيٌ عام يخيف الحاكم ويحمله على العدل.
إن أول واجب أن يفهم الشعب أن الحكومة من عمله، وليست من عمل القدر، وأن ظلمها وعدلها وصوابها وخطأها وضلالها ورشدها صورة منعكسة لحالة الشعب من قوة أو ضعف، وتنبه أو خمود، ورقابة أو إهمال.
قد يُرزق الشعب الجاهل الغافل بحاكم عادل، ولكن شأنه في ذلك شأن الرجل غير المستحق كسب ورقةً في «اليانصيب»، إنما الضمان الحقيقي للعدالة المستمرة هي تنبه الشعب ويقظته ورقابته وشجاعته.