خطاب
القاهرة في ١ / ٥ / ١٩٤٤م.
أخي العزيز …
معذرة إن تأخرت في الكتابة إليك، فقد مرضتُ مرضًا خطيرًا طال شهرين. لقد أضعف المرض جسمي، ولكنه صهر نفسي. أتاح لي أن أستعرض حياتي الماضية، فرأيتني كنت أُعنى فيها بالسطح دون العمق، تشغلني التوافه، وأطمح إلى أوهام؛ فأخذت — في مرضي — أتعرف إلى الغرض من الحياة، وأشتاق إلى تفهم معناها، فأجتهد أن أجتلي حقيقتها المغطاة بالأشكال والأسماء، وأبحث عن نقطة الاتصال بين الله والإنسان، كأن نفسي كانت نبعًا مدفونًا فتفجَّرت، وكأن الله كان في السماء فصار في القلب.
لشد ما يكون الإنسان أقرب إلى ربِّه في مرضه، وفي أحزانه، وفي شدائده؛ لأنه يطلب النجدة فلا يجدها في الأصدقاء والأقرباء، وإنما يطلبها ممن لا تُحدُّ قوته، ولا تقصُر قدرته، ولأنه في مثل هذه المواقف تتكشف له النفس الإنسانية فيراها ضعيفة بذاتها، قوية بربِّها.
قلَّبتُ — في أثناء مرضي — في دفاتري القديمة، فوجدتني قد نما عقلي وفتر قلبي، ولوَدِدت لو كان العكس. وأقسم أني لم أحزن على شيب رأسي كما حزنتُ على دبيب المشيب إلى قلبي، فالقلب صلةُ الأرض بالسماء، ومهبطُ الوحي من السماء إلى الأرض؛ والقلب هو الحب، وهو الانسجام، وهو الجمال؛ والقلب هو الدين، وهو الأخوَّة، وهو الإنسانية؛ وما الحياة بغير هذا كله؟ إن العالم لم يسعد بنمو العقل بقدر ما شقي بضعف القلب؛ إنه أهدى في الحياة من العقل، إنه منبع السرور والألم، إنه منار الحياة.
حُبب إليَّ في مرضي التصوف، والتصوفُ الحقُّ سرُّ الدين، والفقه ظاهره، فقرأت فيه كتابين، كان خير ما فيهما الحديث عن القلب، وخير الحديث عن القلب قصة جميلة قصَّها متصوِّف. قال: إن تاجرًا ألهته التجارة عن صلاة الجمعة، فما انتبه إلا في موعد الصلاة، فتوضأ على عجل وأسرع إلى المسجد، حتى إذا أدركه رأى رجلًا خارجًا منه، فسأله متلهفًا: أتمت الصلاة؟ قال: نعم. فتأوَّه التاجر آهةً خرجت من أعماق قلبه. فسأله الرجل: أتبيعني آهتك بصلاتي؟ قال: نعم! وتمَّ البيع والشراء — ثم رأى التاجر النبي ﷺ في المنام فعاتبه على بيعته، وقال له: «أتبيع نبضَ الحياة بعمل الجوارح، وعصارة القلب بظواهر الحركات؟! لقد غبنت أيَّما غبن في بيعتك».
وشُغفتُ — في مرضي — بنوع من الصلاة لطيف، أن أمجِّد الله في جمال الطبيعة، وأعبده بالنظر إلى سمائه وأرضه وفي جميع خلقه، وأقرأ في كل ذلك فنًّا دونه أي فن، وقلبًا ينبض بالحياة، موسيقى أنغام وجمال انسجام، وإبداعًا في التكوين، ووحدة في الوجود، وتدرجًا في الارتقاء، وحياةً متشابهة في الجميع، أَعْطَىٰ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ.
ما الفنان؟ ما الموسيقى؟ وما المثَّال؟ ما الشاعر؟ ما الأديب؟ كلٌّ رأى جمالَ الطبيعة من زاوية، وقدَّسه في نفسه، وقلَّده في فنه، وفني فيه فحيي نتاجه، ورأى الله فيما تخصص فيه، فآمن ولو كان ملحدًا؛ وآية إيمانه إقراره بأن جمال الطبيعة فوق جمال فنه، وجلاله فوق جلاله، وإحناؤه رأسه علامة الخضوع، والإقرار بالعجز عن بلوغ شأوه!
غصون وأوراق وأزهار، وجبال ووديان، وبحار وأسماك، ونجوم وسماء، كلها تحيا حياة واحدة وإن تنوعت أسماؤها وصفاتها، ونفس إنسانية هي أعجب العجب، وكل ذلك وحدة مرتبطة الأجزاء، إن قرأتَ الألِفَ فيها قرأت الباء إلى الياء. وكما قال شاعر فارسي ظريف: «لمَّا لم يكن للطفل أسنان كان لبنٌ، فلما كانت الأسنانُ كان الطعام الذي يتناسب والأسنان»؛ وكل شيء في العالم مرتبط هذا الارتباط.
بالأمس أخذتُ كرسيًّا عصرًا، ونزلت إلى حديقتي المتواضعة، وصعدتُ إلى السطح مساءً في ضوء القمر الساحر. وكان قد استولى عليَّ التفكير في نفسي، ماذا صنعت في الحياة؟! اكتفيت بأنك تخط القلم على القرطاس، وتُخرج مقالًا في صحيفة أو تنشر كتابًا تؤلِّفه، أكل هذا عملك في الحياة؟ أما الانغماس في الحياة الواقعة وإصلاحها بقدر الطاقة فقد نفضتَ منها يدك، فعاقبتْك الطبيعة بشيء غير قليل من السأم؛ فالطبيعة التي غرست في الإنسان المحافظة على ذاته غرست فيه المحافظة على نوعه، فمن لم يحافظ على ذاته بَرِم بالحياة؛ لأنه انحرف عن سُنَّة الطبيعة، ومَن لم يحافظ على نوعه بالعمل في خدمته عاقبته الطبيعة بالسأم والضجر؛ لأنه خرج على قوانينها، إنك أخذتَ في حياتك موقف «المتفرج» من رجال الإصلاح ورجال السياسة ورجال الدين، وجلستَ تنظر إلى هؤلاء جميعًا نظرَك إلى ملعب كرة، أو رواية في سينما، أو منظر في تمثيل، وتلذذتَ من هذه المناظر أو ألمتَ، فكانت اللذة لنفسك، والألم لنفسك لا للناس؛ وغَمَرك شعورٌ باطني بنوع من الإعجاب بنفسك؛ لأنك استطعت أن تدرس هذا كله في جو هادئ، كما تدرس موضوعًا في مكتبتك، وأن تنظر إلى المسائل الدينية والسياسية والاجتماعية من وجهها الصحيح ووضعها المستقيم، فلن يصدَّك عن النظر الصحيح حرارة الحزبية، ولم يُعمِك عن الحقيقة منافعك الشخصية، ونظرتَ إلى الممثلين في هذه الأمور كلها نظرة المؤرخ الصادق، تذكر ما لكل شيء وما عليه، وأعجبك فهمُك لهذه المناظر، إذ ترى أحيانًا منظرَ طامحٍ إلى المجد وإلى الشهرة وإلى المنفعة الشخصية يلبس على المسرح ثياب الطهر والنقاء والغرام بالصالح العام، وترى سمين الرغبة في المال يلبس ثيابَ الزهد في المال، والمتاجر بالدِّين أو الوطنية مُنح على المسرح لسانًا طلقًا يجعل الناس يؤمنون أنه يعمل ما يعمل لخدمة الدين والوطنية. وأعجبتك نفسُك إذ مُنحت في هدوئك ودراستك ومكتبتك ما مكَّنك من رؤية الممثلين قبل أن يضعوا في وجوههم الأبيض والأحمر والشَّعر المستعار والثوب المصطنَع، واستطعتَ بعقلك وخيالك أن تدخل عليهم في حجرة الملابس والزينة قبل أن يتصنعوا، ولكن هل من الحق أن تكون قابلًا لا فاعلًا، و«متفرجًا» لا ممثلًا؟!
وهكذا أعذلُ نفسي وأؤنبها؛ لأنها رضيَتْ أن تكون على هامش الحياة لا في صميمها، وكان خيرًا أن تنزل إلى الموقعة، فإما قُتِلت وإما قَتَلت؛ وإما كان الصدر وإما كان القبر؟ ثم أرضى عنها وأُحبِّذ عملها؛ لأنها عاهدت اللهَ ألَّا تنطق إلا بصدق، ولا تنتصر إلا لحق، فإذا أمكنتها الفرص فعلتْ، وإلا تنحَّت، ونفسك لا تصلح إلا لما فعلت، وكلٌّ ميسرٌ لما خُلق له، وحصانك لا يصلح إلا للسير في الطريق التي قطعْتَ. فإن شئت طريقًا آخر فغيِّر حصانك إن استطعت، ومَثَلك الأعلى إما أن تصنعه من مال وجاه وشهرة ومنصب، وإما أن تصنعه من الحب، حب الخير والفضيلة والجمال والحق؛ ومعبودك الذي تعبده إما الوثن وإما الله، ولا يمكن أن تجمع بينهما.
وهكذا كان العراكُ بيني وبين نفسي، ولا أكتمك أني عندما أخذت كرسيي ونزلت إلى الحديقة كانت النظرة الأولى، وعندما صعدتُ إلى السطح كانت النظرة الثانية.
أتستطيع أن تعلل لي ذلك، وأن تذكر لي أيَّ النظرتين أحق وأصدق؟ ما أصعب معرفة خبايا النفس لأنها آخر وأعقد ما حاولنا أن نستكشفه!!
لقد تمنَّيت أن يصح جسمي وتبقى نفسي صافية صفاءها في مرضي، أحتقر تَوَافِهَ الدنيا ولا أعبأ بها. ولكن ها هو دمي يجري من جديد في جسمي، فيحمل في ثناياه الشهوات التافهة والآمال السخيفة، فما أحرى بالإعجاب أولئك الذين استطاعوا أن يحتفظوا بطهارة دمائهم على غزارتها وحيويَّتها.
•••
آسف لأني حدثتك كثيرًا عن نفسي، وقد أردته خطابًا، فلما بدأته نسيتُ، فكان مقالًا. فقد كنت في الصباح أكتب مقالًا فسَرَت عدوى الصباح إلى المساء.
على كل حال أحسَبُ صداقتنا تسمح لك أن تُسَرَّ بجدِّي وهزلي، ووقاري ولغوي.
اكتب لي كثيرًا؛ فكتبك تقع مني موقع الماء من ذي الغُلة الصادي.
أهلك وأصدقاؤك بخير يسلمون عليك.