التفاح في الأدب العربي
لفت نظري وأنا أقرأ «كتاب الأغاني» الدور الهام الذي لعبه «التفاح» في المدينة العربية وخاصة في العراق، فتفننوا فيه كل تفنن، وأعجبوا به أيما إعجاب، وتغزلوا فيه غزلهم في المعشوق؛ ولم يُجاره في ذلك أي ثمر وأي زهر، حتى لو قلنا: إن التفاح كان معبود الغزلين لم نُبعد.
وحملهم على الهيام به أنه أحمر كالخدود الموردة، أو أصفر كوجه المتيَّم، أو أبيض كالطهارة والنقاء أو أحمر وأصفر معًا كتحول حالات النفس في الحب، ثم له رائحة عطرية لطيفة، لا بالقوية ولا بالضعيفة، فكان لذلك كله مجالَ الخيال الخصب، والفن البديع.
وكان يُزرع في بساتين العراق، وما كان أكثرها، حتى عدَّ مؤرخٌ البساتين حول بغداد وحدها أيام انحطاطها خمسة وتسعين بستانًا، غير البساتين الخاصة في الدور. وتنوَّعت البساتين، فهذا بستان الورد، وهذا بستان البنفسج، وهذا بستان التفاح، وهذا بستان النارنج. وتنوع كذلك عشق الناس للأزهار والأثمار؛ فمُغرم بالورد، ومُغرم بالبنفسج، ومغرم بالتفاح؛ فحكوا عن الرشيد — مثلًا — أنه كان شديد الغرام بالورد، وخاصة الورد الأحمر، واتخذ بيتًا في بستان الورد كان أثاثه جميعه بلون الورد، وإذا جلس فيه تلبس جواريه الثياب المورَّدة، وتضع على رؤوسها تيجان الورد، فيكون مجلسًا من أغرب المجالس.
هذا التفاح الجميل أوحى إليهم بالخيال الجميل، والفن الجميل، فأوَّلُ كل شيء أنهم اتخذوه عوضًا عن المحبوب، يقوم مقامه إذا غاب، ويؤنس به إذا لم يكن:
ثم أمعنوا في الخيال، فأسبغوا على التفاحة ما صنع مع الله الحُلوليون؛ فالحبيب التفاحة والتفاحة الحبيب.
•••
•••
•••
ثم غلوا في هذا، فحرم بعضهم على نفسه أكل التفاح لأنه والحبيب اسمان لمسمَّى واحد:
•••
ثم لعبوا بالحب عليه، فعَضُّوا التفاحة، وتهادَوها معضوضة؛ قال ابن المعتز:
•••
ودعاهم الغرام بالتفاح ودلالاته أن جعلوه صحيفةَ غرامهم، يكتبون عليه عصارة قلوبهم، وتفننوا في ذلك فنونًا بديعة؛ فمن ذلك أنهم كانوا يُلبسون التفاحة — وهي خضراء على شجرها — شيئًا من النسيج أو الورق، هو بيت من الشعر أو جملة رشيقة أو إشارات دالة، فإذا استوت ونضجت كان مكان النسيج أو الورق أصفر والباقي أحمر. أو يغلِّفون باقي جسم الشجرة ويتركون مكان الكتابة معرَّضًا للشمس، فتكون الكتابة حمراء وباقي التفاحة أصفر، فتُقرأ الأبيات أو الأشعار كأنها من فعل الطبيعة؛ ويتفنن البستانيون في ذلك، ويبتاعها منهم العشاق بالمال الكثير.
قال صاحب «فوات الوفيات» في ترجمة أبي الجعد المعروف بشعر الزنج، إنه كان ناطورًا يحفظ البساتين، وقد كتب لمحبوبه هذه الأبيات بالبياض على تفاحة حمراء:
ثم قال: «إن شعر الزنج هذا أهدى إلى محبوبه يومًا تفاحًا كثيرًا أحمر كالشقائق، وأبيض كالفضة، وأصفر كالذهب، منه ما كُتب عليه ببياض في حمرة، ومنه ما كُتب عليه بحمرة في بياض — وعلى إحداها حمراء بأصفر.
وعلى صفراء بأحمر:
وكان من هيامهم بالتفاح وغيابه عنهم أحيانًا أن اتخذوا له تمثالًا يتهادى به الأغنياء وأهل الترف، فصاغوا من العنبر على مثال التفاح، وكتبوا عليه ما شاءوا بخيوط الذهب؛ قال في «الأغاني»: قال أحمد بن صدقة: «كنتُ عند المأمون، وقد كان غضبَ على حَظيَّةٍ له، فلما طابت نفسه بالغناء، وجَّهتْ إليه بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالذهب: «يا سيدي: أسلَوْتَ؟»
وكتبوا على تفاحة عنبر بالذهب:
وقد أكثروا من التهادي بالتفاح، وما أكثر الأخبار التي وردت في ذلك، وما كانوا يهدون زنبيلًا ولا شيئًا كثيرًا، إنما يهدون تفاحة واحدة صُنعت بها البدع؛ إذ كان من قوانين الظرف عندهم الاعتداد بالمعنى لا بالمبنى، وبظرف الهدية وقلَّتها لا بكميتها وكثرتها. حدَّث صاحب الأغاني عن «عريب» المغنية أنها قالت لصاحب لها: قد بلغني أن عندك دعوةٌ اليوم؛ فابعث إليَّ نصيبي منها، فبعث إليها طعامًا كثيرًا، فلما وصل إليها أنهبته الناس وبعثت إليه رقعة تقول فيها: يا أعجمي يا غبي أظننتني من الأتراك ووحش الجند، فبعثت إليَّ بخبز ولحم وحلواء؟! الله المستعان عليك. ثم علَّمَتْه ظرفَ التهادي بإهدائه شيئًا قليلًا جميلًا قيمته في فنه لا في كثرته.
وقد قام التفاح هذا المقام لكثرة ما يستطيع عند الفنان أن يجيد فيه.
ثم كان من أجمل مظاهر الجمال عند الخلفاء والأمراء والسراة «الفوَّارات» أو النافورات في البيوت وفي البساتين العامة، قد صُنعت من الخزف الجميل المنقوش، أو من الرخام، وقد تُصنع أنابيبها من الذهب والفضة؛ وكان من أساليب تفننهم أن ينثروا الورد فوق عيون الفوَّارات، فيدفعه الماء بقوة ويصعده إلى علوٍّ كبير ثم ينزل في البركة، أو يُنثر على الناس، وقد اشتهر بهذا الوزير المهلَّبي.
فكان من إعجابهم بالتفاح أن يهندسوا الفوارة هندسةً خاصة، ثم يضعوا التفاح الأحمر فوق عين الفوارة، فيدفعه الماء إلى أعلى، وتتدافع قوة الماء النابع من الفوارة والهواء الذي يدفعه الماء إلى أعلى وثقلُ التفاحة وميلها إلى السقوط، فتبقى التفاحة واقفة تدور في مكانها، فيكون من ذلك منظر عجب، وفي ذلك يقول الشاعر:
ولكثرة ولوعهم بالتفاح ألَّف الأدباء فيه التآليف المفردة، فألف الجاحظ «كتاب التفاح» وألف بهذا العنوان غلام ثعلب، والوَشَّاء، وإن كنتُ لم أعثر على شيء من هذه الكتب.
هذا قليل من كثير مما ورد في الأدب العربي عن التفاح.
وقد حرمتنا الحرب أن ننعم بالتفاح الجميل اللطيف، فلا أقل من أن ننعم بذكراه.